أزمة مسلمي الروهينغا: مظلومية شعب تعززها مصالح دول كبرى

موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية || موقع العهد الإخباري

 

تعيش منطقة جنوب شرق آسيا على وقع الأزمة التي تعصف بشعب الروهينغا في ميانمار، والتي راح ضحيتها عشرات المسلمين الأبرياء، وهجّر مئات الآلاف من القرويين الذين فقدوا كل شيء، وفي كثير من الأحيان فقدوا حياتهم، خلال عملية التهجير القسرية التي قادتهم إلى معسكرات اللجوء في بنغلادش بشكل أساس.

لقد أثارت هذه الأزمة الكثير من الأسئلة، حول سبب اندلاعها، وحول تاريخها، وحول من يقف وراءها، وحول الأهداف التي يسعى مفجروها إلى تحقيقها من خلالها.

في البداية؛ لا بد من الإشارة على أن الأزمة حقيقية وداهمة، وضحاياها أناس حقيقيون يتعرضون لإبادة تقترب من أن تكون شاملة، إن لم يكن قتلاً وجرحاً، فتهجيراً وتشريداً واقتلاعاً من أرض الآباء والأجداد.

كما لا بد من التأكيد على أن النظام الحاكم في ميانمار مسؤول بشكل مباشر عن هذه الأزمة، فهو جزء أساس من أسباب تفجيرها، وهو الذي يرتكب المجازر التي يتعرض لها المسلمون الأبرياء في تلك المنطقة النائية من العالم.

كل هذه الحقائق لا تنفي حقائق أخرى لا بد من التوقف عندها في إطار تناول هذه الأزمة القديمة المستجدة، والتي طفت فجأة على سطح الأزمات الدولية والإقليمية وباتت تهدد بتفجّر نزاع كبير في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا.

الأزمة قديمة، وهذه مسألة ثابتة، ويقف وراءها بشكل أساس أولئك الذين يحملون اليوم لافتة حقوق الإنسان ويصرخون في إعلامهم، زاعمين حرصهم على المسلمين في ميانمار. فالقوة المستعمرة من أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه ـ أي بريطانيا ـ لعبت دوراً كبيراً في خلق مشكلة الروهينغا، عندما نفذت خلطاً ديموغرافياً وفصلاً جغرافياً ما بين بنغلادش وميانمار. فمسلمو الروهينغا مقيمون بأغلبهم في أرضهم، منذ مئات السنين، والتحق بهم عدد من مسلمي شبه القارة الهندية، دون أن يكون هناك أي مشكلة في الموضوع، وعندما تم رسم الحدود الاستعمارية بين الدول، وضعت المنطقة التي يقيم بها هؤلاء داخل حدود ميانمار، ما جعلهم مشكلة متفجرة بشكل دائم منذ أربعينيات القرن الماضي، حيث تقوم السلطات الحاكمة بمحاولات تهجيرهم، ويقوم بعضهم بانتفاضات وثورات لإحقاق حقوقهم الأساسية المسلوبة منهم.

وبين هذا الواقع وذاك، يتعرض الأبرياء من شعب الروهينغا لحملات اقتلاع دائمة، حيث تمتلئ بهم مخيمات اللجوء في بنغلادش، وتغص بجثث أبنائهم وبناتهم وأطفالهم الأنهار والبحار الفاصلة بين ميانمار من جهة وبنغلادش وغيرها من دول جنوب وجنوب شرق آسيا كتايلاند من جهة أخرى.

وكما درج التاريخ على مدى عقود، هناك كل بضع سنوات تصعيد ناجم عن قرارات أو أحداث أو تغييرات ما في تركيبة السلطة في عاصمة دولة ميانمار (التي كانت تسمى بورما في الماضي)، ونتيجة هذا التصعيد هي تهجير المزيد من المسلمين الروهينغيين وحرق قراهم ومزارعهم.

في الشهرين الماضيين عادت الأزمة إلى المربّع الأول، ولكن هذه المرة هناك من يتحدث عن دخول عنصر جديد في الأزمة، هو ظهور ما يسمى بـ “جيش إنقاذ روهينغا آراكان” المنبثق عن “حركة اليقين” والتي يقودها أشخاص من الروهينغا يقيمون في السعودية، وقيام عناصر هذا الجيش بعمليات عسكرية ضد مراكز الشرطة الميانمارية في إقليم آراكان، ما أدى على مقتل العشرات من هذه العناصر.

هذه العمليات كانت مبرراً لحملة التطهير الجديدة التي يقوم بها جيش ميانمار بحق المسلمين هناك، أو كانت المسبّب لها، وذلك حسب وجهة النظر التي يتبناها كل طرف، دون أن ينفي ذلك حجم الوحشية التي استخدمها هذا الجيش في التعامل مع القرويين في مزارعهم، والتي نتج عنها مقتل المئات وتهجير مئات الآلاف.

قد تبدو هذه المسألة مشكلة داخلية، أو اضطرابات بين مكوّنات شعب في بلد قصيّ في أطراف الكرة الأرضية، وقد يكون الحديث عن هذه المسألة تعبيراً عن مناصرة شعب مظلوم يعاني من القهر، ولكن هناك ما لا بد من التوقف عنده في ما يتعلق بالوضع الجيواستراتيجي لميانمار وموقعها على حافة منطقة متحركة في السياسة الدولية، ما ينعكس على مجمل الوضع في المنطقة والعالم.

فميانمار مجاورة للصين، وأي اضطرابات فيها ستنعكس حتماً على الجار العملاق، ما يدفع إلى التساؤل عن الأسباب التي حرّكت مجموعات مسلحة مقرها في السعودية للقيام بهجمات عنيفة في هذا الوقت بالذات داخل إقليم آراكان، وما هو المخطط المرسوم لتلك المنطقة، وما هو حجم التأثير الأميركي على الأحداث هناك، وهل يدخل تفجير الأزمة في الإقليم في إطار الصراع الخفي الدائر بين الولايات المتحدة والصين؟

إن كون قيادة “جيش إنقاذ روهينغا آراكان” موجودة في السعودية التي تتماهى في سياستها الخارجية مع مشاريع الولايات المتحدة الأميركية، وكون أي حركة يقوم بها هذا الجيش ينبغي أن تكون مضبوطة بسقف مصالح الحكم السعودي، أمران يجعلان حركة هذه المجموعات المسلحة خاضعة لمخطط سعودي أميركي وليست حركة فردية مستقلة بذاتها، منزّهة عن المصالح الدولية وتدخل في إطار العملية التحريرية العادية.

ومع وضع الصورة الكبرى للوضع في المنطقة والعالم بالحسبان، يمكن فهم الهدف من هذا المخطط، فالتحالف السعودي يخسر المبادرة في سوريا والمنطقة العربية، وهناك عشرات الآلاف من المقاتلين الذين باتوا يهددون الغرب والأنظمة العربية في وقت واحد، والذين لم يعد لهم دور ناجع في سوريا والعراق، ولذلك لا بد من نقلهم إلى مكان ما لإلهائهم عن الانقلاب على مشغّليهم الأساسيين. وليس هناك أفضل من نقلهم إلى جنوب آسيا من خلال اختلاق حرب بوذية إسلامية يكون مسلمو الروهينغا وقودها، ويحترق فيها هذا العدد الكبير من المقاتلين الفالتين من كل عقال.

كما أن اختلاق حرب إسلامية بوذية سيضع الصين في موقف حرج، كون الأنظار تتوجه إلى الدولة الصينية وكأنها دولة بوذية، نظراً لوجود عدد كبير من البوذيين فيها، في حين أن الحقيقة تقول إن الدولة الصينية هي دولة علمانية بشكل مطلق، وهي لا تتبنى أي دين ولا تؤيد أي معتقد ديني مهما كان.

ومع تسعير هذه الحرب التي قد تمتد شراراتها إلى الحدود الصينية مع ميانمار، وربما إلى بعض الداخل الصيني، هناك جبهة أخرى يمكن أن تُفتح على الصين، وهي جبهة سينكيانغ في الغرب، حيث يوجد في سوريا أيضاً الآلاف من المقاتلين التابعين لحزب تركستان الإسلامي، والذين ينتمون إلى قومية الإيغور الصينية، وهم يشكلون بدورهم وقوداً لمعركة مفيدة للولايات المتحدة في الغرب الصيني، بما يشغل الصينيين في معارك هامشية بطبيعتها، ولكنها تؤثر بشكل حاد على الأمن القومي الصيني، وتترك آثارها السلبية على عملية التنمية القائمة في الصين، وتقطع طريق الحرير الجديد الذي تعمل بكين على تشييده باتجاه أوروبا والعالم، في إطار مبادرة الحزام والطريق الواعدة.

الصين الرسمية تتعامل مع الأزمة في ميانمار بحذر، وتعبّر دائماً عن رغبتها بتخفيض مستوى العنف في البلاد، ومعالجة المشاكل بوسائل سلمية. ولكن الصين لا تخفي أيضاً تأييدها لسلطات ميانمار التي ترى أنها تقوم بقمع تمرد مسلّح لا يمكن السكوت عنه، وهي بذلك تطبق المبادئ التي تعتمدها في علاقاتها مع الدول الأخرى، والتي تتمثل في التشديد على وحدة وسلامة أراضي أي دولة، ورفض أي تدخل خارجي في شؤونها، والتشديد على التفاوض لحل أي أزمة داخلية.

كما أن الصين حذرة إزاء ما يحصل في إقليم آراكان لأسباب أخرى، وعلى رأسها السبب الاقتصادي، فبكين لديها استثمارات ضخمة في ميانمار، ولا سيما في إقليم آراكان الذي يشكل شرياناً حيوياً يصل بين الصين وخليج البنغال المفتوح على المحيط الهندي، بحيث أن قطع الطريق على الصين عبر هذا الإقليم سيحرم الدولة الصينية من وسيلة أساسية لتفادي الحصار الاقتصادي غير المعلن الذي تعمل الولايات المتحدة على فرضه على الصين من خلال السيطرة المطلقة على مضيق ملقه، والذي تمر من خلاله أغلب حاجات الصين من الطاقة، ومعظم الصادرات الصينية إلى العالم.

كل هذه المعطيات وغيرها يمكن أن توضح سبب تحرك “جيش إنقاذ روهينغا آراكان” الآن للقيام بهجمات في الإقليم، وما قابلها من ردود فعل قاسية من سلطات ميانمار، التي ترى في ما يحصل تهديداً اقتصادياً يضاف إلى التهديد الوجودي الذي يستهدف وحدة أراضي البلاد.

إن ما يجري في إقليم آراكان هو جزء من حالة عدم الاستقرار التي تسود العالم والتي تزداد حدة يوماً بعد يوم، وفي حين تتداخل العناصر المحلية والإقليمية والدولية في الأزمة، فإن الضحايا ـ مرة أخرى ـ يكونون من الأبرياء الذين يدفعون ثمن المصالح الاقتصادية والخيارات الجيواستراتيجية للدول الكبرى، وعلى رأسها ـ بلا شك ـ الولايات المتحدة الأميركية وحليفاتها في المنطقة والعالم.

قد يعجبك ايضا