أميركا ترامب… الى الوراء در
موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية || العهد الاخباري
كانت الولايات المتحدة الاميركية حتى القرن الثامن عشر ولايات منفصلة عن بعضها البعض وتابعة للامبراطورية البريطانية كمستعمرات. وبعد “حرب الاستقلال الاميركية” (1775 ـ 1783) استقلت الولايات عن بريطانيا وشكلت فيما بينها “الولايات المتحدة الاميركية”. وفي الربع الأول من القرن التاسع عشر انتخب جيمس مونرو كخامس رئيس اميركي (1817ـ1825). ويعود اليه طرح شعار “اميركا للاميركيين” في 1823، وهو ما عرف تاريخيا بإسم “مبدأ مونرو Monroe Doctrine”. ويقوم هذا “المبدأ” على ثلاثة أسس:
1ـ عدم تدخل الولايات المتحدة في المشكلات والشؤون الدولية عامة والاوروبية خاصة.
2ـ معارضة تدخل الدول الاوروبية في شؤون القارة الاميركية (الشمالية والجنوبية).
3ـ استئثارالولايات المتحدة الاميركية (الانكلو ـ ساكسونية) بالسيطرة على بلدان اميركا الجنوبية (اللاتينية).
ويسمي الكثير من الباحثين هذا “المبدأ” بسياسة “العزلة” الأميركية. وبناء على هذه “العزلة” تم تحويل أميركا الجنوبية الى “حوش” خلفي للولايات المتحدة الأميركية. ونشأت “شركة الفواكه الأميركية” التي تحولت الى غول يتلاعب ببلدان أميركا اللاتينية وأنظمة الحكم فيها. ومن هنا نشأ تعبير “جمهوريات الموز” الذي يعني انشاء بلدان عديمة السيادة تتحكم بها “شركة الفواكه الاميركية”.
وفي الحرب العالمية الاولى في عهد الرئيس الاميركي الاسبق وودرو ويلسون (1913ـ1921) سجلت اميركا نقطة تحول عن سياسة “العزلة” وانخرطت في السياسة الدولية. عشية نشوب الحرب وبعد اندلاعها في 1914 وقفت اميركا “على الحياد” جريا على سياسة “العزلة”. وكانت البنوك الاميركية تقرض الاموال للدول المتحاربة من كلا المعسكرين بقيادة بريطانيا والمانيا. وبعد سنتين ونصف السنة في 1917 دخلت اميركا الحرب الى جانب المعسكر البريطاني، بعد ان قامت غواصة المانية بإغراق سفينة تجارية بريطانية كان على متنها اكثر من مائة راكب اميركي (او هكذا كانت الحجة). وبعد نهاية الحرب في مؤتمر الصلح الذي عقد في فرنسا سنة 1919، قدم الرئيس الاميركي برنامجا من 14 نقطة (سمي فيما بعد “مبادئ ولسون”)، وتتضمن تلك “المبادئ” حق الشعوب والامم في تقرير مصيرها بنفسها والاستقلال، والدفاع عن الدمقراطية وحقوق الانسان وحقوق الاتنيات والاقليات وحرية المعتقد والاديان. وكان ولسون صاحب فكرة انشاء “عصبة الامم” لحل الخلافات والنزاعات سلميا. ولكن “العصبة” فشلت في اداء مهمتها والحؤول دون نشوب الحرب العالمية الثانية. ومنذ اعلان “مبادئ ولسون” خرجت اميركا كليا من سياسة “العزلة” وانخرطت بشدة في الجيوسياسة الدولية، ونصبت نفسها وصيا على نشر الدمقراطية في العالم، كمدخل لتغوّل الامبريالية الاميركية على حساب جميع الدول الاستعمارية الاخرى. ولكن هذا التغول كان له ثمنه، وتوجب على الدولة الاميركية ان تدفع مئات ملايين الدولارات، مما لا تحتمله ميزانية الدولة باعتبار ان الدولار كان “عملة وطنية اميركية” ذات تغطية ذهبية الزامية. فأهتز الاقتصاد الاميركي. وكان هذا التوسع السياسي ـ الامني ـ العسكري الخارجي، سببا رئيسيا من اسباب انفجار الازمة الاقتصادية الكبرى في اميركا في السنوات 1929ـ1933، بسبب الضغط الكبير على الدولار وعجز البنوك عن تأمين سحوبات المودعين. وفي سنة 1932 افلس اكثر من 5000 بنك اميركي بسبب سياسة الانكماش والتقشف التي انتهجتها القيادة الاميركية قبل وصول فرانكلين روزفلت الى الرئاسة في اذار 1933.
وكان وصول روزفلت الى الحكم نقطة تحول جديدة في السياسة العامة الاميركية، وتعتبر بمثابة استمرار وتطوير لسياسة ولسون. وقد عمل روزفلت على رفد الجيوسياسة التوسعية في الخارج بسياسة توسع مالية. ومن التدابير التي اتخذها روزفلت:
ـ1ـ ايقاف عمل البنوك مدة عشرة ايام للحد من السحوبات ووقف المضاربة على الذهب.
ـ2ـ إلزام البنوك بإيداع كل ما لديها من ذهب لدى “الفيدرال ريزرف” (الذي يقوم مقام البنك المركزي الاميركي ويسيطر عليه اليهود).
ـ3ـ منع تداول الدولار الذهبي وارغام المواطنين على تحويل ما لديهم من ذهب الى دولارات ورقية فورا. ومنع تصدير الذهب الى الخارج.
ـ4ـ رفع سعر الذهب من 20 الى 32 دولارا للاونصة. أي خفض قيمة العملة الورقية 38%. وهذا ما يسمح لـ”الفيدرال ريزرف” بطباعة المزيد من العملة الورقية وزيادة السيولة.
ـ5ـ حتى سنة 1944 تضاعف الدين العام 10 مرات وبلغ اكثر من 200 مليار دولار.
ـ6ـ على اثر انتهاء مؤتمر يالطا بين روزفلت وتشرشل وستالين وقبل ان يعود الى الولايات المتحدة الاميركية طار روزفلت الى مصر واجتمع مع الملك السعودي عبدالعزيز آل سعود على متن الطراد الاميركي كوينسي وعقد معه ما يسمى “اتفاق كوينسي” والذي يتضمن تأمين الحماية الاميركية المطلقة لحكم آل سعود وحصول اميركا على النفط مقابل الاسعار التي تحددها هي. ويقول باحثون مختصون ان اميركا كانت تدفع للسعودية ما بين 2 الى 3 دولارات مقابل برميل النفط الخام وتبيعه بالسعر الذي يناسبها تبعا للسوق العالمي. وسنأتي الى هذه النقطة مرة اخرى لاحقا.
ـ7ـ مع ضمان اميركا وضع يدها على النفط (الذهب الاسود) فتحت الطريق نحو امكانية الغاء التغطية الذهبية الالزامية للدولار.
ـ8ـ كان روزفلت هو صاحب فكرة عقد مؤتمر قمة دولي من أجل وضع خطة شاملة للنظام السياسي والنظام المالي الدوليين، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (ومن ضمن ذلك انشاء “هيئة الامم المتحدة” في نيويورك تحت سيطرة الولايات المتحدة الاميركية، وانشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي).
ـ9ـ في مؤتمر قمة بريتون وودز الذي حضره ممثلو 44 دولة أعلنت الولايات المتحدة الأميركية قرار الغاء التغطية الذهبية للدولار، ولكنها حددت سعر اونصة الذهب بـ35 دولارا ورقيا، بكفالة الدولة الاميركية، وكانت الدولة الاميركية تعتمد في ذلك على مخزونها من الذهب، وعلى هيمنتها على “الذهب الاسود”. واذا قسنا سعر اونصة الذهب (35 دولارا) بالسعر الذي كانت تدفعه اميركا للسعودية ثمن برميل النفط (2 ـ 3 دولارات) مع حساب ذبذبة اسعار الاسواق يكون الحاصل ما بين 10 ـ 20 برميل نفط مقابل اونصة الذهب. وبالرغم من اختلاف الظروف فإن هذه النسبة بين سعر اونصة الذهب وسعر برميل النفط الخام لا تزال قائمة الى الآن.
ان تحرير الدولار الورقي من الزامية التغطية الذهبية المحددة، اطلق يد الحكومات الاميركية المتعاقبة في طباعة العملة الورقية الاميركية لتغطية سياستها التوسعية العدوانية في العالم اجمع. ووصل الدين العام لاميركا في عهد اوباما الى 20 تريليون دولار. واصبح الانتاج الاميركي يمثل 12% فقط من الاقتصاد الاميركي العام.
ولكن كل شيء له حدود ينتهي عندها. وقد احتشت شرايين الاقتصاد العالمي بالدولارات الورقية وأخذت تضغط على القلب الاميركي ذاته. ولم تعد أميركا قادرة على شن حرب عالمية لحل ازمتها لان الصواريخ الباليستية النووية، الروسية والصينية والكورية الشمالية وربما غيرها هي بانتظارها. والآن فإن اميركا دولة مفلسة تنوء بالدين العام، وهي تحتاج الى الدولارات ولكنها لم تعد تستطيع طباعة الدولارات الورقية “على كيفها”. وجاء ترامب ليمثل هذه الازمة، أي أزمة حاجة الدولة وقطاع الاعمال الاميركيين للدولارات، فرفع شعار “اميركا اولا” وأخذ يتخبط بين سياسة “العزلة” الاميركية على طريقة “مبدأ مونرو” (اميركا للاميركيين) وبين “البلطجة” على “الحلفاء” و”الاصدقاء” و”العملاء” بأن يدفعوا لاميركا ثمن توسعها الخارجي بعد ان كانت هي تدفع لهم. والبقرة الاميركية الان هي على وشك السقوط، وما اكثر الذباحين من الداخل والخارج معا.