انتصار تموز .. والعَودُ أحمدُ

|| صحافة عربية ودولية || العهد

كان العدو قد بلغ من الجنون آخره، وأدخل في سجل إجرامه صنوف القتل كله، وأفرغ ما في حقده دماراً ودماءً وتهجيراً، حتى كادت أن تفرغ خزائن أسلحته، دون أن يلمح تبدّلا في إرادة المجاهدين. إعلان الانتصار الإلهي بات مجرد وقت، تضبطه المقاومة بحسب عقارب ساعتها، بعدما أبدعت في إدارة الميدان، وما بعد الميدان، تحديداً في ملف عودة المهجرين إلى قراهم، فوراً.

إنها الثامنة صباحاً من نهار الأثنين 14 آب 2006. المقاومة هزمت الكيان الصهيوني شر هزيمة. كان وقع المشهد مهولاً. لقد كسر حزب الله عنجهية أعتى جيوش العالم. حسناً، ماذا الآن؟

كانت قيادة المقاومة تعلم من خلال مجريات التفاوض مع الدول الراعية لمطالب العدو، ما يحاك لبيئة المقاومة وأهلها. سارعت وقتها إلى دعوة الجميع للعودة إلى قراهم ومنازلهم. نظمت لذلك لجاناً للمتابعة وترتيب العودة وكيفيتها، لكن المهجرين عن بيوتهم وقراهم كانوا قد سلكوا طريق العودة المقطوعة بعشرات الغارات الإسرائيلية. اكتظت الممرات، وغصت بالحافلات والسيارات. الطريق من بيروت والجبل والبقاع باتجاه الجنوب تشبه شلالاً بشرياً. ساعات من الانتظار للعبور إلى الأرض والديار. هذه صيدا، وهنا صور وبعدها الناقورة، ومنها إلى قرى الحدود حيث كان النزاع باللحم والدم. لقد عاد الجنوبيون إلى حيث أراد لهم العدو أن يرحلوا. إنه آخر فصول النصر الإلهي.

معركة العودة .. وميدان التهجير

 

“هذا الشعب، يستحق هذا الانتصار”، يفتتح الوزير محمد فنيش الكلام عن انتصار تموز بهذه العبارة، وهو العالم والمشرف على تفاصيل التفاوض في ميدان المعركة السياسية. يقول فنيش لموقع “العهد” إن “المتابع لمسار الطروحات التي تقدمت بها بعض الدول حول آلية وكيفية عودة المهجرين من القرى الجنوبية، يلمس أن هناك مسعى ومحاولة لاستغلال ملف المهجرين، لفرض شروط سياسية او ضغط سياسي على المقاومة من أجل القبول ببعض الشروط، المتعلقة بوجود القوات الدولية على الحدود الجنوبية مع المحتل”.

الأمر اذاً كان مخططاً، ومدروساً لا بل ومقرراً ضمن خطة المعركة والعدوان على لبنان وأهله. يستجمع الوزير فنيش تسلسل الأحداث، عندما اجتمعت وزيرة الخارجية الأميركية وقتذاك كونداليزا رايس برئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة، وتحدثت معه في طروحات لترتيب عودة النازحين، وذلك بتحديد فترة زمنية تمتد لثلاثة أشهر للعودة. وايضاً ما طرحه دبلوماسيون من عودة مشروطة للمجهرين بفرض واقع أمني جديد على الحدود، وما أُعلن في مؤتمر روما حول نقطة المهجرين تحديداً، لذلك – يضيف فنيش – كان إصرار قيادة المقاومة بأن يعود الأهالي المهجرون إلى قراهم وديارهم فوراً بعد توقف القتال، لعلمنا بأن الإسرائيلي يحاول أن يحقق دبلوماسياً، واقعاً ميدانياً، عجز عن تحقيقه بالنار والقتال”.

يتذكر الوزير فنيش أدق تفاصيل التفاوض: “الأهالي وفّروا على قيادة المقاومة معركة سياسية لإعادتهم إلى قراهم، عندما انطلقوا باتجاه الجنوب بعد إعلان وقت إطلاق النار فوراً، موقف الناس هنا كان جزءاً اساسياً من مشهد الانتصار الإلهي”.

هذه البيوت المدمرة .. انتصرت

 

“إلى أين تذهبون؟”، تسأل إحدى الصحافيات الأهالي العائدين إلى قراهم الجنوبية. يجيبها رجل ستيني: “إلى بيوتنا”، تزيد الصحافية سؤالاً: “لكنها مدمرةّ”، ينتفض الرجل وهو يحمل صورة للسيد نصرالله “مدمرة بس منتصرة”. يسرد لنا الحاج أبو أحمد – أحد المهجرين مع عائلته – هذه القصة أثناء عودته إلى قريته عيناثا، ثم يتعثر في البحث عن مفردة تصف نوع الفرحة التي كانت تتملك جوارح العائدين إلى الجنوب.

 

“كنا نشاهد المنازل والأرزاق والمحالات والممتلكات كيف دمرتها طائرات العدو ومدفعيته، كان المشهد قاسياً ومؤلماً، لكن فرحة غريبة كانت تتحكم في اندفاعنا للوصول إلى منازلنا المدمرة حتماً”، يقول أبو أحمد وهو يبتسم كأنه يستعيد اللحظة. يذهب لثوان في شرود إلى شريط الذاكرة ليخبرنا ما شاهده وهو في طريقه إلى بلدته: “كانت إمراة ومعها طفل يقفان على أنقاض منزل مدمر، يرفعان علم حزب الله”. “لمن هذا المنزل؟”، يسألها أحد الشبان، تجيب: “هذا لنا، ومنزل أهلي ايضاً مهدم”. مجدداً لا يجد أبو أحمد تفسيراً منطقياً لردة فعل العائدين إلى قراهم. لكنه يجزم بأن في ذلك سراً من أسرار المعادلة الإلهية التي رسمت طريق النصر لهذا الشعب، وأنه خليط إحساس بالنصر، والعز، والعنفوان، والثقة والأمان. ثم، يصل به الكلام إلى منزله الواقع عند أطراف عيناثا، يضحك عميقاً، حتى تغرق عيناه في تقاسيم وجهه. ما الأمر يا حاج؟ نسأله، فيجيب: “لم أجد من بيتي شيئاً أبداً .. طار عن التلة”.

لا ينكر الحاج الوقور، أن إحساساً بالحزن تسلل إلى قلبه على منزله، وهو الذي بناه بعرقه وجهده، وأمضى فيه أجمل ذكريات العائلة. لكنه رغم ذلك، يستعير نبرة صوت أخرى فيها الاعتداد ليقول لنا: “عندما علمت أن المجاهدين مروا بجانبه واحتاجوا اليه، تبدل حزني فرحاً وفرجاً وفخراً”.

عودة آمنة عزيزة كريمة.. ومنظمة

 

لم تنتظر المقاومة أياً من مؤسسات الدولة لتقوم بواجب تنظيم عودة الأهالي إلى قراهم. كانت المسألة لا تحتمل المناورة السياسية أو المماطلة الإجرائية، فالعدو يقل على مفترق أي ثغرة لكي يستثمر في ذلك لصالحه، ومعه في ذلك المخطط دول ومنظمات .. يروي أبو جعفر الحركة – وهو من فعاليات الضاحية الجنوبية وأحد المسؤولين عن تنظيم عودة المهجرين بعد حرب تموز 2006 – يروي لنا كيف سارعت قيادة المقاومة إلى وضع ما يشبه الخطة الاولية لترتيب إعادة العائلات والأهالي إلى قراهم: “تعلمين كيف كان وضع الطرقات، والبيوت، والبساتين، والأرزاق.. كان أمن الأهالي هو همنا، خصوصاً أن التجربة مع هذا العدو دموية بعد كل هزيمة له..”.

يشرح أبو جعفر، وهو يختزن الكثير من حكايات العودة الأسطورية كما يصفها: “بدأنا فوراً بتنفيذ الخطة، تواصلنا مع العائلات وفرزنا الآليات للنقل إلى المناطق بحسب توزع المهجرين، لكن هالة النصر، وحماسة الأهالي، وشوقهم لديارهم دفعهم إلى استخدام أي وسيلة نقل تقلهم إلى الجنوب .. بالسيارات والفانات والباصات وحتى بالشاحنات، كان الزحف أسرع من خطتنا وأكبر .. كان النصر أكبر من كل تصور أو تخيّل”، يختم أبو جعفر.

 

راية النصر.. من ميدان النصر

 

ربما لا يستعيد الكلام صورة تلك اللحظة كما هي. صورة الرايات والأصوات والصرخات والسيارات المزدحمة على الجسور المدمرة والطرقات المقفلة. وربما ايضاً، لا يكفي التحليل والتفسير لعمق الوعي والإدراك في بيئة المقاومة التي تسابقت مع قيادتها إلى نصر تاريخي – إلهي وإلى أرض تروي حكايات القتال والجهاد، عن أن رابط الدم يمكن أن يكون ايضاً، بين الإنسان .. والتراب.

قد يعجبك ايضا