بين ثورة عاشوراء و21 سبتمبر.. خلود الصمود وعواقب التفريط
|| مقالات || حمود الأهنومي
تميَّزت ثورة الإمام الحسين عليه السلام بالأصالة، وعبّرَت عن الحاجة الإنْسَانية الماسة لإنقاذ واقع المسلمين آنذاك من واقعٍ مظلِم، ومنحرِف، ومزيَّف، أما ما يجري على مرّ الأزمان من احتفاءٍ بهذه الثورة، وحملٍ لشعاراتها، وهتافٍ بمقولاتها، فإنه دليلٌ على خلود تلك الثورة وإنْسَانيتها وأنها لم تتقيّد بحدود الزمان والمكان.
إنَّ ثورةً بعد 14 قرناً من الزمان ونحن لا نزال نصرخ بشعاراتها، ونهتدي بكلماتها، ونرتوي من نميرها، ونهتدي بحكمتها، ونتربّى في مدرستها، ونكتسب الشجاعة والبصيرة من هديها؛ لهي ثورة خالدة، عابرة لحدود الزمان والمكان والدين والمذهب والجغرافيا، ليس خلودها بخلود قائدها الشهيد فقط؛ بل لأنَّها كانت أصيلة، تلبي الحاجة الإنْسَانية الخالصة، والعابرة لكل تلك العناصر والمفردات السابق ذكرها.
ومع ذلك كله.. فقد تنكر إنْسَان ذلك الزمان لها للأسف، ولم يتفاعل معها بالشكل المطلوب، وحتى تلك النخبة من أولاد المهاجرين والأنصار، والذين انطلق من أوساطهم الإمامُ الحسين أوّلاً من المدينة، فلم يجد منهم معينا ولا نصيرا، ثم خرج إلى مكة، ومكث بين آخرين منهم حتى أيام الحج، فلم يجد منهم معينا أَيـْـضاً، ثم غادر إلى الكوفة في ثلة قليلة من أهل بيته وأصحابه، وحُرمه، وذريته، وتفرّج عليه الجميع، وتركوه يواجه الظالمين بمفرده وحيداً، فاستشهد وأهل بيته وأنصاره على ذلك النحو الوحشي، ثم لم تمر إلا حوالي السنتين، أي في سنتي 63 و64هـ، وإذا بجيش يزيد الذي تجرّأ على دم ابن رسول الله، يقتحم المدينة، فيستبيحها ثلاثة أيام، ويرتكب فيها الفظائع الشديدة.
لقد كان للتفريط أثرٌ خطير، وشر مستطير، على الأمة في ذلك الزمان، وألقى بظلاله السيئة إلى يوم الناس هذا.
لو أن أولئك ثاروا مع ابن رسول الله ومَنْ نزل القرآن في فضله وأهل بيته، لكان لهم وللأمة شأنٌ آخر، لكنهم لما فرّطوا في نصرة مَن دعاهم إلى الثورة ضد الظالمين، ابتُلوا بذات البلوى، في الوقت الذي كان عليهم أن يتذكروا أن مَنْ قَتَل الحسينَ ابنَ رسول الله، لن يُعْجِزَه قتلُ كُـلّ أبناء المهاجرين والأنصار خوفاً وورعاً.
تتبعْتُ في دراسة تأريخية خلفياتِ ثوار المدينة في وقعة الحرة، ووجدتُهم ينتمون إلى كُـلّ أحيائها ومن سائر أفرع قبيلتي الأوس والخزرج ومن أبناء المهاجرين، وقد حدثت أهوال مهولة من الفظائع والاغتصاب الجماعي لفتياتِ المدينة من جيشٍ لا أتصوّر أنهم فقط ارتكبوا تلك المحرمات لمجونهم وفسقهم؛ بل؛ لأنَّهم كانوا تكفيريين، يرون أن الإبادة والنهب لكل ما هو داخل المدينة أمرٌ ديني ومشروع؛ باعتبار أن أهل المدينة خرجوا من الإسْــلَام بخروجهم على حكم يزيد، كما ظهر من أدبيات قائد تلك الحملة اليزيدية مسلم بن عقبة المري، كما نقلها الطبري واليعقوبي وابن كثير.
لقد ذهب قائد ذلك الجيش المتوحش بعد استباحة المدينة لضرب مكة التي تعلَّق بحُرمتها ابنُ الزبير، ولما أدركه الموت وهو في طريقه، قيل له: هل ندمْتَ على ما أتيتَ في المدينة؟ فأكّد أنه لم يندم أَبَداً، بل إنه تقرب إلى الله بأفضل عمل إليه من النصح لإمامه يزيد، وقتل المتمردين عليه، ثم يموت ويوصي جيشه بمواصلة سلسلة الجرائم التي بدأها، فيواصل نائبُه مسيرتَه لضرب مكة ورمي الكعبة بالمجانيق.
من هم أولئك العلماء ومن هم أولئك الدعاة الذين أوصلوا الأمة إلى أن لا يعرفوا من الدين إلا ذلك الوضع المحرف، قتل المصلحين في الأمة، إنهم المضلون، علماء السلاطين.
هل هناك أبلغ من هذا الدرس في عاقبة التفريط، وفي خطورة الثقافة، وما تنطوي عليه القلوب؟
أليس مَنْ هان عليه الحسين سيهون عليه كُـلّ أبناء الأنصار والمهاجرين، ومن هان عليه آلُ الحسين فستهون عليه الكعبة وكل المقدسات.
ما أسوأ التفريط والخذلان لدعاة الحق، التفريط الذي يجعل صاحبَه إذا استيقظ فيه شيءٌ من الحق، فإنه سيثور مع ابن الزبير المخادِع المخاتِل بدلاً عن الثورة مع الحسين الذي خرج للإصلاح، التفريط الذي معه إذا لم نحافظ على المقدسات ونتعاون على نصرها فإن الطغاة والمجرمين سيتجرؤون على كُـلّ شيء خلفها.
أما السبب الذي جعل أولئك المفرطين على ذلك النحو فإن كثيراً منهم أدركهم ما أدرك الكثيرَ من البشرية، أصابهم الخوف وضعف الثقة بالله، وما عبّر عنه القرآن الكريم بـ(مرض القلوب).
ألم يتحدث القرآن عن مسارعة أقوام في تولي اليهود والنصارى، وقد فرز اتجاهات الأمة حينذاك إلى أعداء، ومؤمنين، ومَن في قلوبهم مرض؟ فقال: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة:52]، أليس هو بهذا بيّن أن سببَ مسارعةِ هؤلاءِ في تولِّي الأعداء مرضُ قلوبِهم، الذي عبروا عنه بخوفهم من أن تتغيّر الأحوال، فينتصر الأعداء، وهو تعبير جلي عن سوء ظنهم بالله، وعدم إيمانهم بأن الله هو مَن بيده تصريف الأمور، وتقدير الحوادث والدهور.
هذا الخوف المنبئ عن غلبة المادية على نفوسهم، هو الذي منع أهل مكة من الدخول في الإسْــلَام، وقد حكى الله عنهم أنهم (قَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)، وأنه ردّ عليهم قائلاً: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:57].، وهو ردٌّ يبين أن المادية طغت على تفكيرهم فلم يفكروا أَيـْـضاً في الجهة المقابلة بما هم عليه من النعمة من الله سبحانه، وأن الذي تكفل بأمنهم الغذائي والجسدي في حال كفرهم، هو الذي يتكفل بذلك في حال إسْــلَامهم.
لقد أكّد أن بيده تقدير الأمور، وتدبير المجريات، وأنه هو الذي أمّنهم، في الوقت الذي كان جميع مَنْ حولهم خائفا، وكان هذا أدعى إلى قبولهم بالدين، فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت:67].
إن قلق البشرية وخوفها من تغيّر الأحوال، وتبدُّل الوضعيات، دَفَعَ الطغاة والمستبدين على مرِّ الزمن وكرِّه إلى اللعب على هذا الوتر الحساس، واستغلاله استغلالاً بشعاً، ومقيتاً، ليتم لهم تمرير مشاريعهم، وأجنداتهم.
في أول الإسْــلَام أعلن أبو جهل تحالفا قرشيا ضم مختلف قبائل قريش لضرب أول حصار في التأريخ ضد المسلمين، وقد طلبوا من بني هاشم أن يسلّموا لهم رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه، فلبث المحاصَرون في شِعبهم ثلاثَ سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، ولم يترك تحالفُ العدوان القرشي طعاما يقدّم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه بأغلى من ثمنه، ليُضيّقوا عليهم، فأصابهم البلاء والنصَب حتى كانوا يأكلون الخبط وأوراق الشجر، وكان يرجِع أحدُهم إلى أولاده وهم يتضاغون من الجوع، فلا يجِد ما يُعلِّلهم به، وبلغ بهم الحال أن سُمِعَتْ أصواتُ أطفالهم يتضاغون من الجوع من وراء الشّعب.
ثم هل ركع المحاصَرون، وانتصر المشركون القرشيون وانتصر مشروع طغيانهم؟ أم خرج أولئك المحاصَرون أَكْثَـر قُــوَّة وثباتا وقد تلقوا درسا في الصبر والتحمل والثبات؟
وفي تأريخنا المعاصر وقد انطلقت ثورة 21 سبتمبر 2014م، باعتبارها مظهرا من مظاهر ثورة عاشوراء، وبركة من بركاتها، وصدىً جميلا من صداءاتها المستجيبة لنداء الإنْسَان وحاجاته المختلفة، وكان أعظم أَهْــدَافها تحريرَ قرار اليمن إنْسَانا وشعبا ودولة وحضارة، من أيدي العابثين به، والمختطفين إياه منذ عقود، فكان هذا العدوان على مدى أربع سنوات.
لقد نجح المعتدون من خلال مظاهر إجْرَامهم البشعة في فرز المجتمع اليمني إلى تلك الفئات التي تحدّث عنها القرآن في سياق التحذير من تولي اليهود والنصارى، فإذا بنا نجد الثوار الحسينيين في كُـلّ جبهة، ونرى الأعداء والمنضوين تحت لوائهم، وهم منهم، ورأينا عيانا بيانا مرضى القلوب، وفاقدي الثقة بالله، (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة).
ثم أثبت العدوان على اليمن أن يزيدَ القرود ويزيدَ الفجور ويزيد المجازر لا يزال موجوداً بقُــوَّة في واقع المسلمين المحرّف، وأنه مستعد لقتل ألف حسين وحسين في ظلال ثقافاته المنحرفة وانتماءاته اليهودية والنصرانية، وإفرازاته العمياء المتمثلة في علماء السلاطين والمثقفين النفعيين، حَيْـثُ ملة الطغيان واحدة، وملّة الارتزاق والنفاق والمادية واحدة أَيـْـضاً.
لو أمات آلُ سعود والمنافقون ثقافةَ يزيد وعلماء بلاطه من عقولهم وأفكارهم وتراثهم لما ارتكبوا هذه المجازر في اليمن، ولما رضوا بها، وهذا بقدر ما يشير إلى أهميّة الاحتفاء بالحسين وبطولته وإحياء ثورته، يُلْزِم بالتنديد بيزيد وطغيانه والمسبحين بحمده، ليس يزيد الشخص، بل يزيد المنهج، والطريقة، والأسلوب، والانحراف، والشهوة، والدناءة، والحقارة، والضعة، والثقافة السخيفة التي أنتجت المعاني الرديئة لكل تلك المفردات.
إن معظم أولئك اليمنيين الملتحقين بركْب العدوان لم يكونوا بعيدين عن ثقافة وقناعة (نخشى أن تصيبنا دائرة)، دائرة في وجاهتهم، في مالهم، في علاقاتهم، في انعدام يقينِهم بالله، وما أعده لأوليائه المجاهدين من النصر والتمكين.
وبالتأكيد سأل الأحرار أنفسهم، وقالوا: هل علينا أن نستسلم ليزيد العصر؟ فماذا تحصل للمستسلمين في بعض مناطق جنوبنا المحتل؟ وهل أنجاهم الاستسلام من الحاجة والجوع والعار والخوف والقتل والقتال؟ أم زج بهم في معمعةٍ أعظم من تلك التي هربوا منها واستسلموا من أجلها؟
لكن أحرار اليمن ورجاله العظماء اليوم ومن خلال اكتسابهم خبرة تراكمية من مواقف تأريخية عديدة ومن خلال معرفتهم بسنن الله وتعليماته رأوا وأدركوا عن وعيٍ وبصيرةٍ أن الخيار الأجدى والأنفع والأقل خسارة والأَكْثَـر جدوائية هو خيار المواجهة، والمواجهة لا غير؛ لأنَّ ثورةَ الحسين وأمثالها في التأريخ علّمتهم أن الخشية من الدائرة ستجعلهم يخسرون عشرةً رجال في موقف الذل والعار وسخط الله، بدلاً عن استشهاد واحد منهم أَوْ اثنين وهم في موقف العزة والكرامة ورضوان الله تعالى.
لهذا كان اختيارُ ما أراده اللهُ عز وجل أجملَ لهم وأتقى.. وخيراً وأبقى..