مصير الوحدة الشعبية التي جسّدتها ثورةُ فبراير وضرورات وحدة الحركة الوطنية

موقع أنصار الله || صحافة محلية || المسيرة: أنس القاضي

عبّرت ثورةُ 11 فبراير 2011م عن أروع صور وحدة الشَعب اليمني، حَيْـثُ تجاوزت الثورة الشبابية الشَّعبية اليمنية كُــلّ الأطر الضيقة الجهوية والمذهبية، وكذا الاصطفافات الحزبية السياسية القديمة، مُعبرةً عن اللوحة الجديدة المُتشكلة في الوطن القائمة على الأُخوّة اليمنية، ومؤكدة على جوهر اجتماعية التدافع والصراع نافيةً العناوين والفرضيات الطائفية والعرقية والجهوية التي ترفع في واقع اليوم، ويُفسر فيها النزاع والاستقطاب الداخلي الراهن المرتبط بشكل وجودي بالحرب العدوانية الأجنبية، حَيْـثُ اندلع الصراع في الداخل اليمني وتوسع عقب الحرب الأجنبية وبدعم مباشر من دول تحالف العدوان.

كانت الوحدة الشعبية اليمنية من أهم المسائل التي أكدتها ثورة فبراير، فعلى الرغم من استخدام السُّلطة السابقة في سيطرتها واستبدادها الاقتصادي الخدماتي السياسي على آليات عصبوية وتنمية هذه العصبيات لتفكيك المجتمع وإعاقة توحد المحرومين المنتمين إلى كُــلّ هذه الأعراق والقبائل المذاهب الجهويات – على الرغم من تلك الاستراتيجية الخبيثة – إلا أن ثورة فبراير أثبتت الجوهر الطبقي الاجتماعي للظلم والاستبداد، هذا الجوهر الاجتماعي للتدافع والصراع، تجلى في التمازج الشعبي في ثورة 11 فبراير للمواطنين اليمنيين من مختلف انتماءاتهم وهوياتهم الثقافية وجهاتهم، وقد دلل ذلك التمازج على أن الأزمات اليمنية يجب أن تُحل ضمن الإطار الاجتماعي الديمقراطي الوطني. وهذه الوحدة الشَعبية أخافت السُّلطة الحاكمة بمختلف أجنحتها، كما مثلت تهديداً للقوى الدولية الغربية المهيمنة ووكلائهم الخليجيين.

 

القوى صاحبةُ المصلحة من التغيير

عبّرت الجماهيرُ المنخرطة في ثورة 11 فبراير، عبر نشاطها الميداني والذهني وأشواقها وعواطفها مع الثورة، عن وعي الطبقات الشعبية اليمنية بمصالحها، حَيْـثُ قدمت نفسها عفوية عبر هتافاتها بأنها القوى الاجتماعية صاحب المصلحة من التغيير الاجتماعي الوطني، وهي ما يُطلق عليها نظرياً بـ “الكتلة التاريخية”، وتسمى سياسياً بـ “الحركة الوطنية الديمقراطية”، فتلك الجماهير كانت هي الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية والتيارات السياسية المحرومة، والقادرة على إنتاج الجديد في الحياة الاقتصادية والفكرية ضد ظلامية القديم وفساده، وبالتالي فقد مثلت خطراً على السُّلطة الحاكمة، مما جعل مراكز النفوذ الحاكمة تسعى نحو تفكيك هذه الوحدة الشعبية ونحو الاستفادة من الاندفاعات الثورية وحرفها عن المجرى الثوري في مواجهة القديم كمنظومة متكاملة، إلى مجرى الصراع التنافسي بين أقطاب السُّلطة القديمة، من “إسقاط النظام” ككل إلى “ارحل” كشخص، ومن شعارات بقاء “الشرعية الدستورية” و “لن أرحل”، إلى التوقيع على تقاسم السلطة في الرياض.

 

أولُ تصدُّعات قوى الثورة

كان انضمامُ علي محسن الأحمر إلى الثورة، في 21 مارس 2011م، تعبيراً عن نزعة السلطة الحاكمة في شق قوى الثورة والاستفادة منها في الصراعات البينية لأقطاب السُّلطة، فمحسن هو الذي وقف خلف مجزرة جمعة الكرامة ليُشعر الثوار السلميين بالحاجة إلى الحماية العسكرية، وعلى الرغم من أن قوى الثورة كان مطلوب منها الاستفادة من انقسامات السلطة إلا أنها (قوى الثورة في فبراير) عجزت عن الاستفادة من هذا الانقسام السلطوي ووقعت في شِراك السُّلطة الحاكمة ومصالحها وصراعها التنافسي، وسبب العجز يكمن في افتقارها للقيادة الثورية الواعية والمُتحررة من ثقل مصالح السلطة والتصورات الانهزامية عن فاعلية الشعب وقدراته.

وفعلياً فإن علي مُحسن شق قوى الثورة أكثر من شقه للنظام القديم (الذي هو أحد أركانه)، فكان الانقسام الأول لقوى الثورة هو اجتذاب علي محسن والإخوان لقطاع جماهيري واسع باتجاه مصالحهم لا مصالح الثورة؛ فسيطر الإخوان على منصات الساحات، وشيدوا لجاناً أمنية كانت تعتدي على الثوار المخلصين وتحول دون بروز الموقف والرأي الثوري الآخر الرافض للنهج الرجعي الذي يفرضه الإخوان و”محسن” على الثورة، والشَق الثاني تمثل في استعادة “صالح” جزء من شَعبيته، وفي عجز الثورة بعد انضمام “محسن” عن اجتذاب قطاعات جماهيرية جديدة للمشاركة في ثورة التغيير إلى جانب أحد أقطاب النظام ورموز فساده واستبداده. والشَّقُّ الثالث تمثل في تخلي الجنوبيين عن مساندة الثورة عموماً، والعودة إلى رفع شعارات الحراك الجنوبي، وهم الذين كانوا قد أسقطوها في بداية انطلاقة ثورة 11 فبراير.

 

المبادرةُ الخليجية تعزّز انقساماتِ قوى الثورة

جاءت المبادرةُ الخليجية في رؤيتها السياسية مُعبرة عن الصراع التنافسي بين أقطاب السُّلطة القديمة، ولم تكن معبرة عن صراع أوسع القوى الشعبية ضد السُّلطة القديمة برمتها، وهكذا فقد قامت المبادرة الخليجية على توزيع السُّلطة بين أقطابها المتنافسة، بين صالح والمؤتمر الشعبي العام وحلفائه الطبقيين، وبين الإخوان وبيت الأحمر وحلفائهم الطبقيين، وقد عمل هذا الحدث على إحداث الشق الأكبر في أوساط قوى الثورة، وكان هذا الشق عميقاً ومؤثراً، حَيْـثُ انصرفت جماهير شعبية كثيرة عن الفعل الثوري مؤملة بالمبادرة الخليجية وخداع القوى السياسية المعارضة، ولم يتبقَ في ساحات الثورة بعد المبادرة الخليجية إلا تيارات بسيطة: لبرالية يسارية وقومية تحت شعار “جبهة إنقاذ الثورة”، وشباب مدنيين مُستقلين عن الانتماءات الحزبية ومعظمهم من طلاب الجامعات وخريجيين، وشباب الاشتراكي في محافظة تعز، والحركة الشبابية لأنصار الله “شباب الصمود” في صنعاء و”شباب العز” في تعز.

 

ثورة 21 سبتمبر امتداد للحراك الثوري منذ 11 فبراير

جاءت ثورةُ 21 سبتمبر 2014 امتداداً للفعل والحراك الاجتماعي الذي انبثق في فبراير 2011م، وقد استوعبت ثورة 21 سبتمبر قطاعات شعبية جديدة وخاصة تلك التي لم تشارك في فبراير وانعزلت الثورة بعد انضمام علي محسن الأحمر، ورغم اجتذاب ثورة 21 سبتمبر شرائح اجتماعية جديدة ريفية وتثوير شرائح كانت قد شعرت بالخذلان بعد المبادرة الخليجية، إلا أن ثورة 21 سبتمبر جاءت في واقع انقسام القوى الشعبية الثورية التي شاركت في العام 2011م، فقد استطاعت الأحزاب السياسية – المشارِكة في المبادرة الخليجية والتي تقاسمت السلطة مع المؤتمر – أن تضلل قطاعات من قواعدها الحزبية وأنصارها الذي كانوا ثوريين في فبراير، وتوجههم نحو الاصطدام مع ثورة 21 سبتمبر، وقد كانت هذه الحقيقة مؤلمة فقد عبرت هذه الحقيقة عن نجاح السُّلطة ليس فقط في شق الوحدة الشعبية التي تجلت في 11 فبراير؛ بل وفي دفع جزء منهم إلى الدفاع عن النظام والاصطدام برفاقهم القدامى من ثوار فبراير الذين استمروا في الثورة ومن الثوار الجدد الذين ثاروا ضد ذات السُّلطة الاستبدادية وقوى النفوذ الحاكمة التي خرج الجميع عليها في 11 فبراير 2011م.

علي صالح والتعامل الانتهازي مع قوى ثورة 21 سبتمبر تأكيداً على تمزيق الثورة اليمنية

لم يكُنْ علي محسن وحدَه من استفاد من اندفاعات القوى الشعبية الثورية اليمنية، وتوجيهها في صراعه التنافسي داخل ذات النخب الطبقية المسيطرة والحاكمة، فإذا كان علي محسن الذي توجه لشق ثورة فبراير قد استفاد من حيوية الحركة الشعبية الثورية التي أمّنت له مواقعَ جديدة في المبادرة الخليجية، وتحركت ضد ثورة 21 سبتمبر 2014م، فعلي صالح هو الآخر عمل الاستفادة من تشقق الوحدة الشعبية الثورية، فقد تعامل علي صالح بانتهازية مع ثورة 21 سبتمبر فلم يتصادم معها بل وجه عناصره للانخراط فيها خدمةً لمصالح الجناح الذي يتزعمه صالح في السُّلطة، أي أن صالح أراد عبر ثورة 21 سبتمبر أن يستعيد ما قدمه من تنازلات في تسوية المبادرة الخليجية، (وهذا لا ينفي القناعة الثورية لكثير من قواعد المؤتمر الشعبي العام التي شاركت في سبتمبر) وهكذا فقد أراد صالح أن يستفيد من أحد أقسام قوى الثورة اليمنية للصراع مع خصومه الذين استندوا على أحد أقسام قوى الثورة؛ فقام صالح باستهداف هذا الشق من قوى الثورة بممارسة التخريب والفساد باسم الثورة وباسم أنصار الله (المكون القائد للثورة)، بهدف تثبيط المجتمع من قوى الثورة اليمنية عموماً، وفق إيحاء للمجتمع بأن الشباب و”المشترك” الذين خرجوا في ثورة 2011 فشلوا وأنتجوا حكومة باسندوة الفاسدة (كان لصالح دور كبير في إفسادها) وبجانب فشل فبراير واللقاء المشترك يوحي “صالح” بفشل ثورة 21 سبتمبر 2014م وعدم قدرة أنصار الله على الحكم، وأن صالح وحزبه وأسرته هم القادرون على حكم الدولة اليمنية!

 

العدوانُ وتحالفُ صالح ومحسن ضد قوى الثورة اليمنية

جاء العدوانُ على اليمن على ذات القاعدة السياسية التي تعاني من الانقسامات المرتبطة بطريقة نهاية مؤتمر الحوار الوطني بعيداً عن التوافق، وكذلك انقسامات الوحدة الشعبية التي كانت قد جسدتها ثورة 11 فبراير، وفيما استمرت قوى ثورة 21 سبتمبر في نشاطها الثوري الوطني وتوجهت للتصدي للعدوان، انحازت القوى المعادية لثورة 21 سبتمبر للعدوان.

تبادل “محسن” والإخوان و”صالح” والمؤتمر التموضعات، فيما كُلٌّ منهم لديه نيةٌ لتصفية حلفائه الذين هم عملياً الفقراء والمهمشون أي القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير الثوري والتي جسدت في مجملها الوحدة الشعبية في فبراير 2011م من الأحزاب والقوى التي كانت تاريخياً خارج السُّلطة ولا يملكون نشاطاً اقتصادياً احتكارياً في السوق، وكانت مهمة صالح تصفية وإضعاف أنصار الله وحزب الحق والبعث وحلفائهم في الجهة المضادة للعدوان، فيما مهمة محسن تصفية وإضعاف الناصري والاشتراكي والحراك الجنوبي في جبهة “الشرعية” عملياً في جبهة العدوان.

نحن طبعاً لا نبرّرُ الاصطفافَ السياسي لقيادات الاشتراكي والناصري والحراك مع العدوان خلف وهم “الشرعية” إلا أننا نبين أنهم ليسوا أصحاب المصلحة المباشرة من انتصار العدوان وليسوا من الركائز المحلية لدول العدوان، بل هم واهمون وخاسرو ن في اصطفافهم هذا كما بين قائد الثورة، على عكس نخب المؤتمر والإخوان الذين يمثلون ركائز محلية للنفوذ الأجنبي، فيما قواعد المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح هي قواعد شعبية فقيرة ومحرومة تشارك بقية الشعب همومه ومصالحه، وفي هذين الحزبين عناصر وطنية هُمشت وغُيبت بفعل سيطرة النخب النافذة على هذه الأحزاب.

اصطف علي محسن (والإخوان) مع العدوان على اليمن؛ ليُقاتل خدمةً للسعودية كوكيل ومن أجل استعادة ما فقدوه من نفوذ بعد ثورة 21 سبتمبر، وكان وقوُده لهذه الحرب بعضاً من شباب ثورة 11 فبراير وعموم الفقراء الذين انخرطوا في ثورة فبراير أو تعاطفوا معها والتي كانت معبّرةً عن مصالحهم. كما عمل علي محسن والإخوان على استهداف القوى التي اصطفت مع شعار “الشرعية” وتطمح لبناء دولة سيادة القانون أو ترفع شعارات المدنية والديمقراطية وترفض الفساد الذي يمارسه الإخوان والإرهاب والتطرف، أي أن علي محسن كان يعمل على استهداف الرموز والشخصيات والقوى التي تصطف معه والتي يمكن أن تهدّد مصالحه في المستقبل، وأن يبرز لديها ميولاً وطنياً ديمقراطياً مستقبلاً. وفي الجبهة الأخرى كان علي صالح يعمل على النخر في ثورة 21 سبتمبر من داخلها، باستهداف قوى الثورة وأنصار الله وتشويههم، في الوقت الذي يدّعي انحيازه إلى جانبهم في مواجهة العدوان، وعبر المجلس السياسي الأعلى عاد “صالح” والموالون له لتقوية نفوذهم في مؤسّسات الدولة، ومن حَيْـثُ البنية التكوينية فحزب المؤتمر رغم حضوره الشعبي في وسط الفقراء والطبقة الوسطى ذوي المصلحة الوطنية إلا أنه سياسياً استمر ليعبر عن مصالح الفئات الطفيلية من البيروقراطية الإدارية المدنية والعسكرية، وهذه البيروقراطية همشت اللجانُ الثورية دورَها وسلبتها سيطرتها الإدارية بعد انتصار ثورة 21سبتمبر 2014م. وتحت مسمى “الشراكة السياسية” و”عودة البرلمان” و”تجاوز مرحلة اللجان الثورية”؛ مارس صالح وأتباعه ضغوطات شديدة على الموظفين الذين شغلوا مواقع اللجان الثورية سابقاً، وهكذا استعاد صالح جزءاً كبيراً من قوته البيروقراطية المدنية، وعجز عن إعادة البيروقراطية العسكرية للحكم من القيادات العسكرية الموالية له التي فضلت البقاء في منازلها واتخاذ موقع الحياد في الحرب. وطالما كان صالح في خطاباته يدعي الدفاع عن الطابع المؤسّسي للدولة وعن الدستورية والقانونية التي تعني في نهاية التحليل الدفاع عن الطابع الطبقي البيروقراطي لمؤسّسات الدولة التي تخدم بشكل أساسي طوال ثلاثة عقود شبكات مصالح ونخبته التي تشاركه الحكم. وكان – في ذات الوقت – إعلامه يدافع عن القيادات المؤتمرية التي أيّدت العدوان صراحة، وذلك من أجل ضمان عودتهم، إذ كان يخدم هذا التوجه في الوصول إلى تسوية بين قوتين مواليتين للرياض يلتقي بها مع قيادات حزبه التي سبقته إلى الرياض والقاهرة مع شريكه علي محسن الأحمر ونائبه التاريخي هادي. وهي صفقة تخرج منها القوى الوطنية اليمنية وهي أنصار الله من جهة والحراك الجنوبي وبعض القوى الوطنية التي تصطف بغباء مع هادي وتُستهدف في واقع الحال من قبل علي محسن الأحمر الذي يريد احتكار جبهة “الشرعية”، كما كان صالح يُريد أن يحتكر جبهة مواجهة العدوان.

فشلُ انقلاب صالح في ديسمبر 2017م قلّل من خطورة استراتيجية القوى المضادة للثورة التي تستهدف الحلف الوطني المناهض للعدوان من داخله، فيما لا يزال محسن والإخوان في أوج قوتهم مستمرين في تصفية كُــلّ العناصر التي كانت ثورية في 2011م أو يحتمل عودتها للصف الوطني ضد الهيمنة الأجنبية والاستبداد، وهي قوى وعناصر سياسية من حَيْـثُ موقعها الاقتصادي الاجتماعي يُفترض بها أن تتخذ الموقف الوطني، ومشتركاتها مع علي محسن والإخوان طارئة غير استراتيجية، وإذا ما افترضنا انتصار العدوان فسوف تصطدم مع الإخوان وعلي محسن، بل إن هذا التصادم حاصل الآن والبيانات الرسمية والتصريحات القيادة لهذه القوى التي تدّعي اصطفافها مع “الشرعية” تدين ما يمارسه الإخوان من إقصاء وفساد وتتهمهم بأنهم يُجيشون ويُعدون العدة لحروب خاصة بهم لا علاقة لها “بالشرعية”.

 

نحوَ استعادة الوحدة الشعبية الوطنية اليمنية

إن قضيةَ كُــلّ القوى والعناصر الوطنية اليمنية اليوم في الشمال والجنوب، خاصة مع ظهور حقائق طبيعة العدوان ومشاريعه الاستعمارية التوسعية، وكذلك اتضاح مشاريع النخب القديمة التي تريد أن تعود عبر جيل الأبناء من أسرة عفاش إلى عيال الأحمر وما يرتبط بهم من تحالفات طبقية مع القوى الرجعية المحلية المعادية للمجتمع المدني وقيم الحداثة وللقبيلة كتنظيم اجتماعي وقيمه الاجتماعية وطبيعته الزراعية وقضاياه التنموية الريفية، والمرتبطة بالشركات الاحتكارية الأجنبية وفي مقدمتها الشركات النفطية. أمام كُــلّ هذا الوضوح يتحتم الواقع الموضوعي على القوى والعناصر الوطنية لملمة صفوفها، والانفتاح على بعضها والعمل على تبديد مخاوف أطرافها على قاعدة المخرجات المتوافق عليها في مؤتمر الحوار الوطني واتّفاق السلم والشراكة، من أجل استعادة الوحدة الشَعبية التي جسدتها ثورة 11 فبراير والتي أغنتها قطاعات شعبية واسعة في ثورة 21 سبتمبر، وتغنيها اليوم قطاعات شعبية وقوى وطنية في جنوب الوطن مناهضة للاحتلالين السعودي الإماراتي ومتمسكة بالحقوق العادلة للقضية الجنوبية، فهي الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، التي لها مصلحة من قيام دولة المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية، والتنافس الاقتصادي المنضبط دستورياً، وقادرة على إنتاج الجديد والتضحية في سبيل حرية الوطن وتقدمه الاجتماعي، وهم العمال والفلاحون وفقراء القبائل والطلبة والعاطلون والبرجوازية الصغيرة الإنتاجية الصناعية والزراعية التي كانت عاجزة عن النمو وأخذ حصة عادلة في السوق، بسبب احتكار نخبة السلطة القديمة للسوق والعلاقات التجارية الداخلية والخارجية، وكذلك هم سياسياً اليساريون والقوميون والاسلاميون بتنوعهم، والمثقفون عموماً بمختلف مشاربهم، والذين كانوا لا يستطيعون التعبير عن أفكارهم وآرائهم “مُخضَعين” لسيادة الثقافة الوهابية التكفيرية ولا يستطيعون بناء كيانات حزبية ونقابية معرضة للحظر من قبل النظام وإفسادها وتفريخها وإفقادها استقلاليتها.

إنَّ ثَمَّةَ مغزىً كَبيراً في أن الجبهاتِ الساخنةَ اليومَ هي في حدود السعوديّة كالجوف (الذي فيها حقلُ نفط يمني سعوديّ مشترك)، وصعدة (للضغط على أنصار الله)، وعلى الساحل كحجّة والحديدة، وهذه الجبهاتُ على ارتباطٍ مباشرٍ بمصالح السعوديّة والإمارات، فلا مصلحةَ -مثلاً- لشابٍّ من تعز في غزو صعدة قادماً من المعسكرات الحدودية السعوديّة عبر باقم أَو الجوف، كما أنه لا مصلحةَ -مثلاً- للحجي أَو ضالعي في غزو الحديدة وتقديمها للإمارات على غرارِ عدن والمكلا.

إنَّ طبيعةَ الجغرافيا السياسيّة في أسخن جبهات اليوم تُسقِطُ فرضيةَ يمنية الصراع وان ما يحرّكُه رغبة يمني في قتل يمني لاختلاف مناطقهم ومذاهبهم، فاليمنيون بتعدّدهم موجودون في صنعاء بتعايش ووئام، والملاحَظُ بأن مختلفَ الجبهات الداخلية في تعز وباتّجاه الجنوب ومأرب هدأت ولم تعد زحفاً وزحفاً مضادّاً، فلا توجدُ دوافعُ اجتماعية يمنية في تحريكها.

وبشكلٍ آخر لا يقومُ أهالي هذه المناطق في التماسات بالتعبئة للحرب والزحف على المناطق المجاورة لهم لدوافعَ مناطقية أَو مذهبية أَو غزوات اقتصادية للتفيُّد والاستباحة.

* مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية اليمني

قد يعجبك ايضا