(أَفِيْ سلامة من ديني؟)
|| من هدي القرآن ||
ففي موضوع الشهادة مثلاً, موضوع الشهادة, لقد كان الإمام علي على علم عن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) يوم أن أخبره بأن لحيته سَتُخْضَب من دم رأسه.
هذا الخبر لو يأتي لشخص منا – ربما – قد يكون مزعجاً، لو يأتي هذا الخبر لشخص منا قد ينظر إلى ما حوله, ينظر إلى أسرته, إلى أولاده, إلى ممتلكاته إلى مظاهر الحياة من حوله فيبدو متأسفاً ويودع نفسه حيناً بعد حين وينتظر متى يخضب دم رأسه لحيته، لكن عليا كان يهمه شيء واحد.
كيف أجاب على الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)؟. قال: ((يا رسول الله أَفِيْ سلامة من ديني؟)) أفي سلامة من ديني يحصل هذا؟ ((قال: نعم. قال: إذاً لا أبالي)) مادام أن ديني سليماً.
الإمام علي عندما يقول بهذه العبارة يعطينا إشارة مهمة جداً، وكأنه يلحظ من خلال ما يسمع من رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أنه سيحصل ضلال، يحصل انحراف، تحصل فتن. يهم أي إنسان حريص على سلامة نفسه أن يبحث عن سلامة دينه, وأن يحرص على سلامة دينه.
لو كانت الأمور عند الإمام علي (عليه السلام), في رؤيته – يوم قال لـه الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) بهذا الكلام – هو أن هذه الرسالة ستمشي بشكل طبيعي، وسيكون الناس كلهم هكذا بشكل صحيح يسيرون جيلاً بعد جيل لما سأل الرسول: ((أفي سلامة من ديني؟)).
ناهيك عما إذا كان قد قال لـه: أن الذي سيقتله هو أشقى هذه الأمة، أي من هذه الأمة، وهو من يجلب الشقاء على هذه الأمة، وشبَّهه بعاقر ناقة ثمود الذي جلب الشقاء على تلك الأمة فجعلها تستحق عذاباً شديداً من الله، استأصل تلك الأمة بأكملها.
((أفي سلامة من ديني يا رسول الله؟)) ما أحوجنا إلى هذه المشاعر!.
تجد الإمام علياً تأكد أيضاً بأنه فعلاً كان قريناً للقرآن, وما يزال قريناً للقرآن, أن هذا هو منطق القرآن نفسه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102) أليس هذا توجيه يحث كل إنسان منا على أن يكون حريصاً على أن يسلم له دينه؟ وأن يكون كل ما يهمه هو أن يسلم له دينه، على الرغم من كل ما يواجهه، على الرغم من أي شيء يمكن أن يواجهه حتى وإن كان خبراً مؤكداً على نحو ما جاء لعلي (صلوات الله عليه): ((ستخضب هذه من هذا)) وأشار إلى لحيته ورأسه؟.
ومن خلال هذا نعرف موقعنا نحن من القرآن ومن قرين القرآن، عندما نجد الكثير منا، الغالبية العظمى منا يضحي بدينه من أجل احتمال أن تسلم لـه دنياه، إحتمال أن تسلم لـه قدماه ناهيك عن رأسه، أو لاحتمال أن لا يبـيت ليلة في سجن من السجون، لاحتمال أن لا يضحي بمبلغ من المال في سبيل إعلاء كلمة ربه، أليس كثير من الناس على هذا النحو؟.
كأننا نقول للقرآن نفسه عندما يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}(الصف: من الآية14ه) أفي سلامة من دنيانا يا قرآن الله؟!. عندما يقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: من الآية104) تمام, لكن هل في سلامة من دنيانا ورؤوسنا وأقدامنا وأيدينا يا كتاب الله؟!.
إن كل إنسان يتولى عليا، إن كل إنسان مصدق برسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) وبكتاب الله يجب أن تكون مشاعره على هذا النحو الذي كان يسيطر على مشاعر علي (عليه السلام): ((أفي سلامة من ديني يا رسول الله؟. قال: نعم: إذاً لا أبالي)).
ولقد كان يقول: ((والله لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ)) إن كل شيء يهمه هو أن يكون هناك السلامة لدينه، فلتخضب دماء رأسه لحيته، وليتقطع إرباً, وليكن ما كان ما دام دينه سالماً لـه.
وهذه هي الرؤية الصحيحة، هذه هي السلامة لمن يبحث عن السلامة، الإنسان لا يمكن أن يسلم إذا لم يسلم لـه دينه, لا في دنياه ولا في آخرته، ما الذي جعلنا نُظلم؟ ما الذي جعلنا نُقهر ونحن ملايين؟ نمتلك الإمكانيات الكبيرة، نمتلك الجيوش، نمتلك الثروات الضخمة والهائلة في باطن الأرض وظاهرها، نمتلك رقعة استراتيجية مهمة؟ لأن ديننا لم يسلم لنا, فوجدنا أنفسنا لم نسلم من الذل، لم نسلم من القهر, لم نسلم من النهب.
أصبحت هذه الأمة ذليلة, أصبحت مستضعفة, أصبحت مقهورة؛ لأنها لم تفكر تفكير قرين القرآن ((أفي سلامة من ديني؟))، وحينها عندما تنطلق لتبحث عن السلامة لنفسك وأنت لا تفكر في أن يسلم لك دينك فلن تسلم نفسك، لن يسلم عِرْضك، لن تسلم كرامتك، وفي الأخير لن تسلم أنت في الآخرة يوم تلقى الله، لن تسلم سوء الحساب، لن تسلم نار جهنم.
إنها الرؤية الحكيمة, ليست رؤية ذلك الذي يفكر في ممتلكاته البسيطة، يفكر في نفسه هو فيرى نفسه أغلى من الدين بكله، يرى نفسه أغلى من نفس الرسول، أغلى من نفس علي، أغلى من نفس الحسن، أغلى من نفس الحسين.
متى يمكن أن يكون لإنسان يفكر هكذا تفكير قيمة عند الله؟ متى يمكن أن يُمنح إنسان على هذا النحو عزة من الله؟ لا، إنه بهذا التفكير يُعتبر تجسيداً صادقاً لمن يَعْشُ عن ذكر الرحمن {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36).
كم هو الفارق بين أن تكون في الاتجاه الذي يمنحك الله فيه العزة، يمنحك الله فيه القوة, التأييد، يمنحك الله فيه سلامة آخرتك وإن لم تسلم دنياك؟ كم هو الفارق بين واقع شخص على هذا النحو وبين شخص يُقَيِّض لـه الله شيطاناً يصبح قريناً لـه {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:37) وواقع إنسان يُسلط الله عليه شرار عباده، يسلط الله عليه من يسومه سوء العذاب في دنياه, وفي يوم القيامة سوء الحساب, وسوء العذاب في نار جهنم؟ نعوذ بالله من نار جهنم.
إن عليا (صلوات الله عليه) – وإن وجدناه [سَقَطَ] بل نقول صعد إلى ربه شهيداً – إنه ما يزال حياً كما أن هذا القرآن الذي قرنه به الرسول حياً، حياً فيما يعطيه من هدى, من نور، من دروس، من عظة، من عبر، حياً فيما يعطيه الأحرار، فيما يعطيه المجاهدين، فيما يعطيه الصادقين من دروس تجعلهم يذوبون في هذا الدين.
أنت عندما تنظر إلى نفسك، أنا عندما أنظر إلى نفسي, وأنظر أيضاً إلى علي (صلوات الله عليه) فأكون حريصاً على سلامة نفسي وإن كان ثمن ذلك أن أُلقي بعلي، وبدين علي، وبمنهج علي، وبتوجيهات علي عرض الحائط، هذا يعتبر من أسوء الانحطاط الذي يمر به الإنسان.
هل يمكن أن أرى نفسي، أو أي واحد منا يرى نفسه أغلى من نفس علي (صلوات الله عليه)؟؟. هل يمكن لأحدٍ منا أن يرى نفسه، أن يرى دمه أغلى من دم علي (صلوات الله عليه)؟. لا يمكن لأحدٍ أن يقول لنفسه هكذا وإن كان واقع الكثير منا هكذا.
فعلي (صلوات الله عليه) عندما وجدناه كان يستقبل ذلك الحدث الذي يتوقعه: أن يخضب دم رأسه لحيته ويسقط شهيداً, لم يكن منزعجاً من ذلك، كان الذي يزعجه هو ما يرى الأمة فيه وهي تسير باتجاه ذات الشمال، وهي تبتعد حيناً بعد حين, ومسافات طويلة تبتعد عن كتاب الله, وعن منهج رسوله (صلوات الله عليه وعلى آله).
كان يتألم عندما يرى أن تلك الجهود التي بذلها الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وبذلها هو تحت لوائه, في مكة, وفي المدينة, في معارك الإسلام, كلها ضاعت هباء، وصارت هباء منثوراً تحت أقدام، وعلى أيدي من لم يكونوا يجرؤون في يوم من الأيام أن ينزلوا إلى ساحات الوغى لمواجهة أعداء الله.
لقد كان الإمام علي (صلوات الله عليه) يخوض غمار الموت, ويقتحم الصفوف, في بدر, في أحد, في كل معارك الإسلام, بينما كان أولئك يجلسون جانباً, وَلَيْتَهم جلسوا جانباً من بعد ممات الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) لا. كانوا في أثناء احتدام مواجهة الكفر يجلسون جانباً، وعنـدما نـزل (صلوات الله عليه وعلى آله) إلى قبره, بل من قبل وهو ما يزال على فراش الموت بدأوا يتحركون وينزلون إلى ساحة هذه الأمة؛ لينحرفوا بها عن نهج محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) الذي من أجله كان يقتحم ساحات الوغى، يقتحم الصفوف, وهو يواجه المشركين ويواجه الرومان, ويواجه اليهود, ويواجه كل أصناف أعداء الإسلام، برزوا بعد!.
هناك عبارة قالها أحد العلماء بالنسبة لعلي (صلوات الله عليه): [لو كانت الأمور تُقاس بمقاييس الدنيا لما رأينا أحداً يُعدُّ مظلوماً أكثر مما حصل على علي من الظلم] يجاهد، يعاني، يتعب في سبيل دين هو يعلم أنه دين عظيم، وفي خير هذه الأمة، وفي مصلحة هذه الأمة، وفي عزة هذه الأمة, ثم يرى أيادي تعبث بهذا الدين.
يتجه إلى تلك الأمة نفسها التي من أجلها جاهد، من أجلها عانى، من أجل عزتها تعب, يحاول أن يحركها قبل أن يَعْظُم الخَطْب، في مرحلة كان يمكن أن يتلافى فيها ما حصل لم يحصل له استجابة، حرّك الزهراء (صلوات الله عليها)، حرك الجانب العاطفي، ماذا عمل أولئك عندما خطبت فيهم الزهراء؟. بكوا وقالوا: إن خطوتها ما تَخْرُم خطوة رسول الله، تذكروا رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) في خطوة فاطمة, وخطى فاطمة, ومنطق فاطمة, ولم يتذكروا رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) فيما ذكرتهم به فاطمة!.
بكوا لغياب الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) ولم يبكوا لغياب دينه، لم يبكوا لغياب الدين الذي كان الرسول مستعداً من أجله أن يُقتل، وواجه المخاطر الشديدة من أجل هذا الدين.
فكيف لا يتألم الإمام علي (عليه السلام), وكيف لا يرى نفسه مظلوماً وهو يرى الأمور تسير على هذا النحو الذي يضيع كل الجهود التي بذلها الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله), وكل الجهود التي بذلها هو وبذلها عظماء آخرون من خيار صحابة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).
ذكرى استشهاد الإمام علي عليه السلام صـ 4 ـ 6.