نص المحاضرة الرمضانية الرابعة والعشرون لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي

موقع أنصار الله  – صنعاء– 25 رمضان 1440هـ

أعوذ باللهِ مِن الشيطان الرجيم

بسم اللهِ الرحمِن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهِ الملكُ الحَق المبينُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُه ورَسُولهُ خاتمُ النبيين.

اللَهُم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ وباركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.

وارض اللَهُم بِرضاكَ عَن أصحابِه الأخيارِ المِنتجبين وعَن سائرِ عِبَادك الصالحين.

أيها الأخوةُ والأخوات، السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته..

وتقبَلْ اللهُ مِنا ومِنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمالِ، اللَهُم اهدنا وتقبَلْ مِنا إنكَ أنتَ السميعُ العليم، وتُبْ علينا إنك أنتَ التوابُ الرحيم.

الانتماءُ الإيمانيُ هو مِيثاقٌ بيننَا وبينَ اللهِ سبحانه وتعالى، وأتتْ الآيةُ المُبَارَكةُ في القرآنِ الكريم لتؤكِّدَ هذهِ الحَقيقةَ عِندَما قالَ اللهُ سبحانه وتعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}(المائدة ـ مِن الآية 7)، فهو ميثاقٌ على السمْعِ والطاعةِ، وهذهِ هي الثمرةُ للانتماءِ الإيماني أن نقولَ نَحنُ كمُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ أننا مُؤمِنون آمَنا باللهِ، وباليومِ الآخِر، وبكتابِه، وبرُسلِه، وأنبيائِه، وملائكتِه، بالعَناوينِ الإيمانيةِ التي أمَرَنا اللهُ أنْ نُؤمِنَ بِها في كتابِه الكريم، الثمرةُ لهذا الانتماءِ هي ثَمرَةٌ عَمَليةٌ، والإيمانُ هو صِلَةٌ يَصِلُنا باللهِ سبحانه وتعالى، يَصِلُنا بهدايتِه في مَا فيها مِن توجيهاتٍ وأوامِر، وفي ما فيها مِن حقائقَ وبَصَائر، وفي مَا فيها مِن التزاماتٍ عَمَليةٍ ومِن نَواهٍ، إلى غير ذلك.

هدايتُه المُتمثلةُ بما أتانا في كتابِه الكريمِ وعَن طريقِ نَبيهِ مُحمدٍ صلواتُ اللهِ وسلامُه عَلَيهِ وعلى آلِه، ما أتَانا في شَريعةِ اللهِ مِن تَعليماتٍ والتزاماتٍ وتوجيهاتٍ وأحكامٍ إلى غيرِ ذلك، وصِلَةٌ تَصِلُنا بِرعايةِ اللهِ سبحانَه تعالى، بِما وَعدَ بِه مَن اهتدى مِن عِبَادِه بِهَدْيه، مَن أطاعهُ واتقاهُ، مِن الرعايةِ الواسعةِ بالبرَكةِ، بالخيرِ، بالنَصْرِ، بالهدايةِ، بالتوفيقِ، بكلِ أشكالِ الرعايةِ الواسعةِ التي تتناولُ كلَ شؤونِ حَيَاةِ الإنسان، وكلَ جَوانِبِ حياتِه.

والإيمانُ هو العُنوانُ العامُ الذي نَنتمي إليهِ كمُجْتَمَعٍ مُسْلِم، الذين آمَنوا، وهو درجةٌ في الإسلام، ومَرتَبَةٌ مُهِمَةٌ وأساسية، لأنَّ الإنسانَ أولَ ما يدخلُ في الإسلامِ هو يدخلُ بالشهادتين، وبِتَركِ العِبَادةِ لكلِ الأوثانِ والأصنامِ الحَجريةِ والبَشريةِ وغيرِها، والالتزامِ بتِلكَ العَناوين الرئيسيةِ في الإسلامِ التي تُعتبَرُ شعائرَ للإسلام، تُعبِّرُ عَن الإسلامِ مَعَ الشهادتين، الصلاة، الزكاة، أركانَ الإسلامِ المَعَروفة، ثم لا يكفي ذلك، لا بُدَّ مِن أنْ تَسعى لتكونَ مُؤمِناً، ومُؤمِناً بأكثرَ مِن العُنوانِ العَام، تحوزُ الصِفاتِ الإيمانيةَ التي وَصَفَ اللهُ بِها عِبَادَهُ المُؤمِنين، عِندَما نقرأُ في سُورَةِ المؤمِنون {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}(المؤمِنون ـ 1)، عِندَما نقرأُ في سُورٍ قرآنيةٍ كثيرةٍ مُواصَفِاتٍ يَصِفُ اللهُ بها مَن يُسميهم بالمُؤمِنين، مُواصَفِاتٍ مُهِمة.

والأعرابُ كانوا يتمنون أو يَفهمون فَهماً خاطئاً أنّه بالإمكانِ الاكتفاءُ ببَعضٍ مِن شَعائرِ الإسلامِ لِتنقلَهُم إلى مَرتَبةِ الإيمان، عِندَما حَكَى اللهُ عَنهم {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}(الحجرات ـ من الآية 14)، أنتم أسلمتُم بِخُروجِكم مِن الشِرْكِ لكن لمْ تَصِلوا بَعْدُ إلى مَرتَبَة الإيمان، {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، المَوقِعُ الأساسُ الذي يحتوي الإيمانَ هو القلبُ، لأنَّه يحتوي الإيمانَ عقيدةً، ويحتوي الإيمانَ مشاعر، ثم يتجلَّى ذلك في وَاقِع الإنسانِ في أعمالِه ومَواقِفِه وتصرفاتِه، والأعرابُ رَدَّ اللهُ عَلَيهِم وصحّحَ لَهُم فَهمَهُم الخاطئ، {وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}(الحجرات ـ من الآية 14)، ثم قدَّمَ عُنواناً مُهِماً يُصحِّحُ الانتماءَ الإيمانيَ الصادقَ، الصادقَ، عِندَما قال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحجرات ـ 15)، وللهِ سبحانه وتعالى سُنَّةٌ مَعَ عِبَادِه، وهذهِ السُنَّةُ تعاملَ بِها مَعَ كلِ الأمَمِ والأقوامِ المَاضيةِ ممَن دخلوا في رِسالةِ اللهِ، واستجابوا لَها استجابةً عامَةً، وهي الاختِبَار، الاختِبَارُ للمُنتمينَ لِهذا العُنوانِ العظيمِ للإيمان، وهذهِ مَسألَةٌ مِن المَسائلِ المُهِمةِ التي ركَّزَ عَلَيهِا القرآنُ الكريم، وهو كتابُ الهِدايةِ يُركِّزُ على المَسائِلِ المُهِمة، ويُعطي لكلِ مَسألَةٍ مُهِمةٍ حجمَها وبِمقدارِ أهميتِها.

ونَحنُ كمُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ بحاجةٍ إلى أنْ نُوطِّنَ أنَفْسَنا لهذهِ الحَقيقة، ولاستيعابِها، ولكيفيةِ التعامُلِ مَعَها، المَسألَةُ مُهِمة، اللهُ سبحانه وتعالى قالَ في كتابِه المُبَارَك بِسْمِ اللهِ الرَّحْمِن الرَّحِيمِ {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العَنكبوت ـ 3:1)، الآيةُ المُبَارَكةُ تؤكِّدُ هذهِ الحَقيقةَ المُهِمةَ كسُنَّةٍ مِن سُنَنِ اللهِ سبحانه وتعالى مَعَ عِبَادِه المُنتمينَ للإيمانِ في كلِ زَمانٍ ومَكان، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، هَلْ في حُسبَانِهم وتقديرِهم أن يُترَكوا لِهذا الادِّعاءِ ومِن دُونِ اختِبَارٍ يُبيّنُ مِصداقيتَهُم وحقيقةَ انتمائِهم؟ لا يُمْكِن، أيْ هذا غيرُ مُمكِن، البَعْضُ مِن الناسِ قد يكونون يتصورون أنّه بالإمكانِ أن يقولوا آمَنَّا بناءً على الاكتفاءِ ببَعضٍ مِن الشَعائرِ الإسلامية، والالتزاماتِ المحدودةِ في جَوانِبَ بِحَسبِ مِزاجِهم، بِحَسبِ رغباتِهم، وأخطرُ شيئٍ في الإسلامِ والدِينِ والإيمانِ أنْ يكونَ الذي يَحكمُ عَلاقتَكَ مَعَ اللهِ هو رغباتُك أنتَ، وهو مِزاجُك أنتَ، هذهِ الحَالَةُ لا تعبِّرُ عَن حَالَةِ التَعبيدِ الصادقِ للنَفْسِ للهِ سبحانه وتعالى.

{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي هِي سُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ سبحانه وتعالى مَعَ الذين مِن قبَلْنا في كلِ زَمَن، وفي كلِ عَصْرٍ مِن المُنتمينَ لِهذا العُنوانِ العظيمِ مِن الذين قالوا “آمَنَّا” وتظاهروا بشعائرَ مُعَيَّنة، أو التزموا بِجِدٍ بشعائرَ مُعَيَّنةٍ، واهتماماتٍ محدودةٍ، ولكنْ لمْ تكنْ ثمرَةُ انتمائِهم للإيمانِ هيَ الطاعةُ الكاملةُ، والاستجابةُ التامةُ، إنّما الاستجابةُ الجُزئيةُ، والطاعةُ المحدودةُ المحكومةُ بالرغباتِ والمِزاجِ وهَوى النَفْسِ، فكانَتْ المَسألَةُ خطيرةً، غيرَ مقبولةٍ عِندَ اللهِ سبحانه وتعالى.

{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أيْ يَتجلَّى عَمَلياً في وَاقِعِ الإنسانِ حتّى يأتيَ العِلمُ الإلهيُ لحَالَةِ الوَاقِع، لأنَّه مِن قَبْلُ حَالَةٌ غيبيةٌ، لأنَّ اللهَ عالِمٌ بعِبَادِه، عِندَما يَخْتَبِرُهم ويَخْتَبِرُ مِصداقيتَهم في انتمائِهم الإيماني، ليسَ لأنَّه لا يَعْلَمُ مَن هو الصادقُ ومَن هو الكاذبُ في هذا الانتماء، اللهُ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ ولكنّه يُرِيدُ جلَّ شأنُه ـ وبمُقتضى حِكمَتِه وسُنَّتِه وعِزَتِه حتّى ـ أنْ يكونَ هذا العِلمُ مُتعلِّقاً بالوَاقِعِ وليسَ بالحَالَةِ الغَيبية، لأنَّ الوَاقِعَ هو الذي سيبتني عَلَيهِ الجَزاءُ، لأنَّ اللهِ لا يُجازي عِبَادَهُ على حَسبِ عِلمِهِ بِهم قَبْلَ أن يَعْمَلُوا ما يَعْلَمَهُ عَنهُم كحَالَةٍ غَيبية، قَبْلَ أنْ يَعْمَلُوه كحَالَةٍ وَاقِعيةٍ، قد يكونُ عالِماً بأنّ الإنسانَ في زَمَنِ كذا أو في عامِ كذا سيفعلُ كذا، ولكنّهُ لا يُعاقِبُهُ على العِلمِ، إنّما يعاقبُه على العَمَلِ، لا يعاقبُه بِحَسبِ عِلمِهِ قَبْلَ ذلكَ أنّه سيفعلُ مثلاً، يعاقبُه عِندَما يفعل، فأرادَ اللهُ جلَّ شأنُه أنْ يتعلَّقَ عِلمُه بالوَاقِعِ العَمَلي الذي يترتبُ عَلَيهِ الجزاءُ، وتتحولُ المَسألَةُ مِن حَالَةٍ غَيبيةٍ أو مُتوقَعةٍ إلى حَالَةٍ وَاقِعيةٍ ظاهرةٍ يتعلَّقُ بِها الجزاءُ، هذا أولاً.

ثانياً في عَمَلية التمييزِ والفَرْزِ يتجلّى فيها أيضاً الحَقيقةُ في الوَاقِعِ العَامِ للناسِ في ما بينَهم، وهذهِ سنأتي عَلَيهِا، يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى أيضاً في كتابِه المُبَارَك {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ}، مِثلَما سَبَقَ {يَقُولُوا آمَنَّا}، وهذا {يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}(العَنكبوت 10-11).

اللهُ سبحانه وتعالى يَخْتَبِرُنا في هذهِ الحَيَاةِ بأشياءٍ كثيرة، ويَخْتَبِرُنا في ما يتعلقُ بانتمائِنا الإيماني باختباراتٍ مُتعدِدَة، في مُقدمتِها ومِن أهمِها أنّه يَخْتَبِرُنا في المَوقِف، عِندَما تتعرضُ – بِحَسبِ انتمائك الإيماني – تتعرضُ إلى تَحدٍ ومُشكلة، تُواجِهُ التحدياتِ و المَشاكلَ، ويأتي الآخرون مِن قوى الشرِّ والإجرامِ والطاغوتِ الذين يَسعون لاستعِبَادكَ والسيطرةِ عليك، والتحكمِ بكَ كفَردٍ مُسْلِمٍ وكمُجْتَمَعٍ، كمُجْتَمَعٍ مُسْلِم، كيفَ سيكونُ مَوقِفُنا مِنهُم؟ هَلْ سنتخذُ المَوقِفَ الذي يَفرِضُه علينا هذا الانتماءَ الإيماني؟ هَلْ سنتحركُ حَسبَ توجيهاتِ اللهِ وتعليماتِه سبحانه وتعالى ونتخذُ المَواقِفَ التي أمَرَنا اللهُ بِها بالجهادِ في سَبيلِ اللهِ، بالمَوقِفِ الحَق؟ أمْ أنّنا سنتخذُ مَواقِفَ أخرى؟ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} أيْ يخشاهُم بِقَدرِ مَا يَخشَى اللهَ، يَجعَلُ عذابَهم وفِتنتَهم والمُشكلةَ مَعَهُم في أهميتِها بالنسبةِ لهُ وفي تأثيرِها على مَوقِفِه وتوَجَّهَاتِه بمُستوى عذابِ اللهِ، فيَخشَى الناسَ كاللهِ أو أشدَّ خَشيةً، وبالتالي يتراجعُ عَن مَوقِفهِ مَعَ اللهِ على أساسِ اعتباراتِه هذهِ، وحساباتِه هذهِ في ما حَسَبَهُ مِن المُشكلةِ مَعَ الناس، {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِن رَبِّكَ} نَصْرٌ لعِبَادِ اللهِ المُؤمِنين الصادقينَ الذين يَقفون المَواقِفَ الصحيحةَ والمسؤولة والمتطابِقةَ مَعَ توجيهاتِ اللهِ وأوامرِه العظيمة، {لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} يزعمُ بأنَّه كانَ مَعَ المُؤمِنين المُجاهدِين والمُنطلقين والمُتبنين للمَواقِفِ الصَحيحةِ، {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}، المَسألَةُ ليسَت مَا بينَكَ وبينَ الناسِ حتّى تُحاولَ أن تُبرِّرَ مَوقِفَكَ أمامَهُم، المَسألَةُ بينَكَ وبينَ اللهِ الذي يَعْلَمُ بِما في صَدْرِك {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}، لا بُدَّ ما يُجلّي، يُجلّي وَاقِعَ الذين آمَنوا في مَواقِفهم، في تضحيتِهم، في صَبْرهم، ولا بدَّ أنْ يُجلّيَ المُنافقين في انحرافِهم، أهمُ ما يُميزُ المُنافقينَ انحرافُهم في مَسألَةِ الوَلاءِ والمَوقِف، الولاءِ والمَوقِف، هذهِ القضيةُ الرئيسيةُ التي جَعَلَها القرآنُ الكريمُ فاصلةً تفَرِزُ وَاقِعَ المُجْتَمَعِ الإسلامي.

يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ}(الحج ـ 11) يَعبدُ اللهَ على طَرَفٍ مِن الدِين، فهو يلتزمُ ببعضٍ مِن الالتزاماتِ الدِينيةِ والإيمانية، وكمَا قُلنا سَابقاً بِحَسبِ مِزاجه، بِحَسبِ رغباتِه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ}(الحج ـ 11) كانَ مُطمَئِناً ومُرتاحاً ومُستمِرَاً في التزاماتِه المحدودةِ وأعمالِه المَحدودة، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج ـ 11) إذا أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أتى الاختِبَارُ في المَوقِف، المَوقِفِ الذي يحتاجُ إلى تضحيةٍ، الذي يتعرضُ الإنسانُ فيهِ للخَطَرِ، الذي يُواجِهُ الإنسانُ فيهِ التهديدَ، الذي يُواجِهُ الإنسانُ فيهِ التحدَي، حينها لا، يتراجَعُ، يتراجَعُ، هذهِ الحَالَةُ السلبيةُ مِن التراجعِ شبَّهَها القرآنُ بالانقلابِ على الوَجْهِ، كأنَّ الإنسانَ سَقَطَ على وَجْهِهِ، بدلَ أنْ يكونَ قائِماً على قَدَمَيِّه واقفاً في المَوقِفِ الصحيح، إذا بِه يَسقطُ.

يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى أيضاً {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(آل عمران ـ مِن الآية 179)، وهذهِ الآيةُ أتتْ بَعْدَ الحديثِ أو في سِياقِ الحديثِ عَن وَاقِعةِ أُحُد، عَن مَعَركةِ أُحُدٍ التي كانَ فيها نكبةٌ للمُسْلِمين، وحَصَلَتْ فيها هزيمةٌ وشُهداءُ وتضحياتٌ، ونَتَجَ عَن ذلكَ مَواقِفَ مُتباينةٌ في المُجْتَمَعِ الإسلامي، البَعْضُ وَجَّهَوا انتقاداتِهم الصريحةَ للرَسُولِ صلواتُ اللهِ عَلَيهِ وعلى آلِهِ، ولمِنْ كانَ مَعَهُ مِن المُؤمِنين الثابتينَ الأوفياء، البَعْضُ أظهروا مَواقِفَ مهزوزةً وُمتردِدَة، البَعْضُ أظهروا أيضاً مُيولاً نحوَ العَدو، وأطلقوا مَواقِفَ فيها توددٌ إلى العدو، حتّى لا يُحسَبُوا ضِمَنَ المَوقِفِ الذي عَلَيهِ الرَسُولُ صلواتُ اللهِ عَلَيهِ وعلى آلِهِ ومَن مَعَهُ مِن المُؤمِنين، فكانَتْ حَالَةَ فَرْزٍ عجيبة، حَالَةَ فَرْزٍ عجيبة، البَعْضُ أظهروا مَواقِفَ سَلبيةً، ولم يكُنْ مِن المُتَوقَعِ أنْ يُطلِقوا تِلكَ المَواقِفَ السَلبية، البَعْضُ قالوا عَن الشهداءِ {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}(آل عمران ـ مِن الآية 168) نَحنُ قد نَصحنَاهُم أن يَجلِسُوا في بُيوتِهم، وأن يَكفّوا عَن التحرك، وأن يتركوا هذا العَمَل وهذا المَوقِفَ إلى آخرِه.

{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}، وهكذا عِبَارَاتُ التشكيكِ بإمكانَيةِ النَصْرِ، وحَتميةِ الهزيمةِ، وأنّه لا يُوجَدُ مِن حَلِّ إلَّا المُداهنةَ للعدو، والاستسلامَ أمامَ العدو، عِبَارَاتٌ كثيرةٌ مِن الإرجافِ والتهويلِ والتشكيكِ بالمَوقِف، والإضعافِ للعَزيمة، أُطلِقَتْ مِن هنا وهُناكَ، في الوقتِ نَفْسِهِ تجلّتْ مَواقِفُ مُختلِفةٌ، مَواقِفُ قائمةٌ على الثَبَاتِ، مَواقِفُ استندتْ إلى الإيمانِ الصَادق، فاتسمتْ بالاستبسالِ في سَبيلِ اللهِ، والتفاني والصِدقِ مَعَ اللهِ سبحانه وتعالى، مَواقِفُ تضحيةٍ، مَواقِفُ صَبْرٍ، مَواقِفُ جِدِّ، مَواقِفُ استجابةٍ حتّى ما بَعْدَ المَعَركة، في وَاقِعةِ “حَمراءِ الأسد” عِندَما الرَسُولُ صلواتُ اللهِ عَلَيهِ وعلى آلِهِ عَملَ نَفيراً ثانياً بَعْدَ المَعَركةِ مُباشرةً بَعْدَما عادَ إلى المَدِينةِ عَملَ نَفيراً آخرَ وحَضَرَ فيهِ البَعْضُ حتّى مِن الجَرحى {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}(آل عمران مِن الآية 172)، فعَمَليةُ الفَرْز تِلكَ لماذا حَدثتْ؟ لماذا حَدثتْ؟ فأظهرَ البَعْضُ مَواقِفَ سلبيةً، مَواقِفَ تنتقدُ حتّى الرَسُول، تخيلْ إنساناً ينتمي للإسلامِ وينتقدُ رَسُولَ اللهِ صلواتُ اللهِ عَلَيهِ وعلى آلِهِ!، كانوا يقولون {هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ}(النساء ـ مِن الآية 78) أنتَ السَبَب، أنتَ المُشكلة، أنتَ الذي وَدَّفَتَ بِنا إلى هذهِ المُشكلة، وحَصَلَ ما حَصَلَ بسببِك، وبسببِ توجيهاتِك هذهِ وقراراتِك هذهِ ومَواقِفِك هذهِ، لماذا هذا الفَرْزُ؟ اللهُ يقول {مَا كانَ اللهِ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنينَ عَلَى مَا أنتَمْ عَلَيهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِن الطيِّب}، لأنَّه حتّى تَحتَ العُنوان الإيماني هُناكَ خبيثٌ وهُناكَ طَيَّب، أيْ هُناكَ مَن يَنتمي للإيمانِ وقد يَهتمُ بجَوانِبَ مُعَيَّنةٍ مِن التدينِ والالتزامِ الإيماني والدِيني، وقد يكونُ مُتقدِّمَاً فيها وبارِزاً فيها، ولكنّه ينطوي على الخُبثِ في نَفْسِه، هو لا يَصِلَ في مِصداقيتِه مَعَ اللهِ إلى درجةِ الاستجابةِ حتّى خارجَ رغباتِ نَفْسِه، حتّى في ما يحتاجُ إلى تضحيةٍ، في ما يُعبِّرُ عَن مِصداقيةٍ لا شكَ فيها، عَن عَلاقةٍ وثيقةٍ وصادقةٍ مَعَ اللهِ سبحانه وتعالى، إذا كانَتْ المَسألَةُ في ظلِ ظروفٍ اعتياديةٍ، “يومَ العِيد كلاً جِيد” يقولون في المَثَل، في الظُروفِ العاديةِ المَسألَةُ إذا كانَتْ تقتصرُ على الذهابِ إلى المَسجد ـ وفي هذا خيرٌ وبَرَكةٌ وجانبٌ إيماني ـ وتقتصرُ على بَعضٍ مِن الأذكارِ والالتزاماتِ الدِينيةِ المَحدودةِ والبسيطةِ والسهَلْةِ غيرِ المكلّفة، وغير الخطرةِ، فالبَعْضُ قد يكونُ بارِعاً في هذا المُستوى، وقد يظهرُ في مُقدِّمةِ المتميزين، أيْ لو تَصدُرُ شَهاداتُ تقديرٍ بهذا المُستوى سيطلع مِن الأوائل، لكنَّ هذا بنَفْسِه عِندَما تكونُ المَسألَةُ في مُستوى أنْ يعَمَلَ مِن الأعمال، وأنْ يُطيعَ اللهَ مِن الطاعاتِ في ما قد يُضحي فيه بنَفْسِه، قد يُضحي بحياتِه، قد يُسبِبُ له أن يُواجِهَ الخطرَ على مَنزلِه، على مَعيشتِه، على جَوانِبَ مُعَيَّنة، جَوانِبَ حسَّاسة، إذا كانَتْ المَسألَةُ تصلُ إلى هذا الحدِّ فَلا، هو غيرُ مُستعِدٍ أن يُطيعَ اللهَ في ما قد يحتاجُ فيهِ إلى ذلك، أو يُعرِّضَ فيهِ نَفْسَهُ لهذا المُستوى مِن الخَطرِ أو التحدي أو التهديد، لماذا؟ لماذا لا يَملِكُ في وَاقِعهِ الإيماني مِصداقيةً للطاعةِ التامةِ للهِ سبحانه وتعالى، للاستجابةِ الكاملةِ للهِ سبحانه وتعالى؟ لأنَّ هذا هو الإيمانُ الصادق، الإيمانُ الصادقُ تَحكمُكَ فيهِ توجيهاتُ اللهِ وليسَ رغباتِ نَفْسِك، سقفُه مفتوحٌ، السقفُ مفتوحٌ عِندَكَ في علاقتِكَ مَعَ اللهِ، تستعدُ أن تفعلَ كلَ ما يُمْكِنك، وأن تقدِّمَ كلَ شيئ، ليسَ عِندَك استثناءات، ليسَ عِندَك حدٌّ هُناكَ وسقفٌ نازلٌ هُناكَ، فكانَتْ هذهِ الحَالَةُ حَالَةً تفَرِزُ الوَاقِعَ، تفَرِزُ الناسَ في وَاقِعِ الحَيَاة، حتّى يكونوا واضِحينَ حتّى أمامَ بعضِهم البَعْض، لأنَّ وَاقِعَ المُجْتَمَعِ المُسْلِم هو وَاقِعٌ مُترابِطٌ، يتأثرُ الناسُ فيه ببعضِهم البَعْض، تَحكمُهِم علاقاتٌ، وهذا شيئٌ طبيعي أن تحكمَهم أو تربطُ بينَهم علاقاتٌ وثيقة، وأن يتأثروا ببعضِهم البَعْض، هذا شيئٌ وَاقِعي قائمٌ في وَاقِعِ الحَيَاة، ولكنَّ الشيئَ المُهِمَ أن يمتِلكَ الإنسانُ وعياً صحيحاً تجاهَ هؤلاءِ الذين لهُ بِهم عَلاقة، وعَلاقةٌ في إطارِ الانتماءِ الإيماني، في مَا إذا كانَوا مُؤمِنين صادقين، وفي مَا إذا كانَ البَعْضُ مِنهم غيرَ صادق، لأنَّ الإنسانَ قد يتأثرُ بالبَعْض، قد تَجِدُ بعضَ العُبَّادِ أو بعضَ الشخصياتِ التي هي مَحسوبةٌ على أنَها مِن الشخصياتِ العُلمَائية، وليسَوا سواءً لا العُبَّادِ، ولا العُلَمَاء، كلُ الناسِ ليسَوا سواءً، حَالَةُ الخُبْثِ هذهِ تدخلُ في سُنَّةِ اللهِ في الاختِبَار، لأنَّها داخلةٌ وموجودةٌ في كلِ فِئاتِ المُجْتَمَع، في صَفِّ العُلَمَاءِ تجدُ العُلَمَاءَ الربَّانيينَ الصادقينَ المُخلصينَ المُؤمِنينَ حَقاً الذين لديهم الاستجابةُ التامةُ للهِ، عَالِمٌ يَقِفُ مَوقِفَ الحَقِ ويَصدعُ بِكلمةِ الحَقِ ولا تأخذُهُ في اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ،يَخشَى اللهَ ولا يَخشَى النَاسَ، لا يتراجعُ عَن الصَدْعِ بِكَلمةِ الحَقِ ولو كانَ الثمنُ هو حياتُه، بَلْ يتشرَّفُ بِذلك، يتشرَّفُ بأن يقولَ كلمةَ الحَقِ حتّى لو كانَ الثَمَنُ هو الشَهادةُ في سَبيلِ اللهِ، وعالِمٌ لن يجرؤَ أن يقولَ كلمةَ الحَقِ حتّى في أوضحِ الواضحاتِ، حتّى ضِدَ إسرائيل، هَلْ هُناكَ التباسٌ في مَسألَةِ إسرائيل؟!، هَلْ يُمْكِنُ لأحدٍ أنْ يقولَ عَن إسرائيلَ أنّها على حَق، وأنّها في طريقِ الحَق، وأنّها جِهةٌ أو كِيانٌ صالحٌ لا يجوزُ مَعَاداتِه، ولا ينبغي أنْ نُطلِقَ أيَ مَوقِفٍ تِجاهَه؟! هُناكَ مِن العُلَمَاءِ مَن يَرفضُ أن يكونَ لهُ مَوقِفٌ حتّى ضِدَ إسرائيل، حتّى ضِدَ أمريكا، لو عَملتْ ما عَمَلتْ يرفضُ أنْ يكونَ لهُ أيُ مَوقِفٍ واضحٍ، أو أن يتحركَ عَمَلياً ليُجاهرَ بالعِداء، وليسَتنهضَ الأمَّةَ لتقفَ المَوقِفَ الصحيحَ ضِدَ الخطرِ الأمريكي، مِثلُ هذهِ النوعيةِ هي مِن النوعيةِ الخبيثةِ التي يَجبُ أن يَحذرَها المُجْتَمَعُ المُسْلِم.

فحَالَةُ الفَرْزِ هذهِ مِن فَوائدِها ومِن ثَمراتِها المُهِمةِ أنْ تتضحَ الحَقائقُ بالنسبةِ للناسِ حتّى لا يتأثروا بمِن يُقعِدهم عَمَّا هو طاعةٌ للهِ، بمِن يُثبِّطُهم عمَّا هو مسؤوليةٌ أمامَ اللهِ، بمِن يُخذِّلُهُم حتّى عَن المَوقِفِ الحَقِ الذي قد يُحاسبُهم اللهُ يومَ القيامةِ بسببِ تخلّيهم عَنَه.

في وَاقِع العُلَمَاءِ قد يكونُ هُناكَ مَن يؤيدُ المَوقِفَ الحَقَ وإنْ كانَتْ ظروفُهُ لا تسمحُ لهُ بالتحركِ أو بالذهابِ أو المَجيء، لكنّه لا يُخَذِّلُ ولا يُثبِّط، ويدعو للذين هُم في مَوقِفِ الحَق، ويُساندُهم بالكلمةِ الطيِّبة، يقفُ مَوقِفَ النُصحِ ينصحُ ينصح، وهذا هو الحدُّ الأدنى الذي ينبغي أن يكونَ عَلَيهِ، البَعْضُ مثلاً ظروفُهم الصحيةُ، ظروفُهم في وَاقِعِهم وَاقِعِ حياتِهم ظروفٌ صعبة، ظروفٌ فيها عواملُ مُعَيَّنة، لكنّهم – في الوقتِ نَفْسِه – لَهُم مَواقِفُ إيجابيةُ مِمَن يتبنون المَوقِفَ الحَقَ، يَدعون لَهُم، يُشجعونهم، لا يُثبِّطون، لا يُخذِّلون، لا يُطلقونَ المَواقِفَ السلبيةَ التي تخدمُ أعداءَ الأمَّة.

فِئةُ المُثقفين كذلك داخلَ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ قد يكونُ فيها مَن لهُ ارتباطاتٌ مَشبوهةٌ بالأعداء، مَن يخدمُهم، مَن يعَمَلُ لصالحِهم، وقد يكونُ فيهم الطيِّبُ الذي ينطلقُ بصلاحِ وزَكَاءِ نَفْسٍ ومِصداقيةٍ مَعَ اللهِ سبحانه وتعالى في تبني المَوقِفِ الحَق، تجدُ هذا في المُعَلمين في المَدرَسةِ، هذا الفَرْزُ والاختِبَارُ مِن اللهِ سبحانه وتعالى هو يتغلغلُ إلى كلِ فِئاتِ المُجْتَمَع، المُدرسين في المَدرسةِ، المُعَلمين، المُثقفين، الذين في الجامِعَة، الذين في المَسجد، الذين في مَيدانِ الحَيَاةِ بمختلَفِ فِئاتِهم، التجار، الفلاحين والمزارعين، كلِ فِئاتِ المُجْتَمَعِ المُنتمينَ للإسلام، للإيمان، الذين يقولون آمَنَّا، مَا كانَ اللهُ لِيَترُكَهُم على مَا هُم عَلَيهِ حتّى يفَرِزَهُم، فحَالَةُ الفَرْزِ هذهِ التي يتضحُ فيها كلُ إنسانٍ بمصداقيتِه، حَالَةٌ لا بُدَّ مِنها في سُنَّةِ اللهِ سبحانه وتعالى، وفي كلِ زمانٍ وفي كلِ مكانَ، والمِعيارُ فيها الذي يُعبِّرُ عَن المِصداقيةِ هو الاستجابةُ الكامِلةُ للهِ، والطاعةُ الكاملةُ للهِ سبحانه وتعالى، هو التبنّي للمَواقِفِ الصحيحةِ التي يَفرِضُها علينا دِينُنا، والتي يُعبِّرُ تَبنينا لَهَا عَن طاعتِنا لربِّنا سبحانه وتعالى.

ثم يُستفادُ مِن هذهِ الحَالَةِ مِن الفَرْزِ والتمييزِ للخَبيثِ مِن الطيِّبِ في الوَاقِعِ العَمَلي، في عَلاقاتِ الناسِ، في تأثرِهم، ألَّا يتأثروا بالخبيثِ الذي يُخَذِّلُهُم، يُثبِّطُهم، يُشكِكُهم، الذي يُرِيدُ لَهُم ألا يَقِفوا مَواقِفَ الحَقِ حتّى تجاهَ أعدائِهم الواضحين، هُناكَ مَن لا يُرِيدُ للأمَّةِ أنْ تتبنى أي مَوقِفٍ حتّى ضِدَ إسرائيل، يُرِيدُ مِن الناسِ أن يَسكتوا، يَطلبُ مِن الناسِ أن يسكتوا، يُثَّقِفُ الناسَ ويُرَبِّي الناسَ بطريقةٍ تَشطُبُ جانبَ المسؤوليةِ والجهادِ والعَمَلِ والمَوقِفِ شَطبَاً كامِلاً مِن الدِين، وكأنَّها خارجَ الالتزاماتِ الدِينيةِ والتوجيهاتِ التي وَجَّهَنا اللهُ بِها في كتابِه الكريم، وكأنَها كانَتْ غائبةً عَن حَيَاةِ رَسُول اللهِ صلواتُ اللهِ عَلَيهِ وعلى آلِهِ وفي سِيرتِه.

يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى}(محمد ـ 31:29)، حتّى ماذا؟ حتّى نَعلَمَ المُهاجرين مِنكُم في أعمالِ الدِراسةِ العِلمية؟، حتّى نَعلَمَ طُلَّابَ العِلمِ مِنكُم والمتعلمين ونبَلْوَ أخبارَكم؟، حتّى نَعلَمَ الذاهبين إلى المَسجدِ في صَلاةِ الجَمَاعةِ كلَ يوم؟، حتّى نعلَمَ ماذا؟حتّى نَعلَمَ ماذا؟ {حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(محمد ـ 31)، تِلكَ الالتزاماتُ التي يُركِّزُ عَلَيهِا البَعْضُ التزاماتٌ سهَلْة، ويُمْكِنُ للكثيرِ أن يعَمَلَها حتّى لو كانَ خَبيثاً، يُمْكِنُ للإنسانِ أنْ يتعلّمَ العِلمَ الشرعيَ وهو خَبيثٌ وقلبُهُ مليءٌ بالخُبثِ، لا يُوجَدُ مانِعٌ، يستطيعُ فِعَل ذلك، لأنَّه يستطيعُ الإنسانُ أن يَصِلَ إلى مَرتَبةِ أنْ يكونَ عَالِمَاً في العُلومِ الشرعيةِ وهو خبيثٌ يَستطيع.

هُناكَ تصنيفٌ في الإسلامِ للعُلَمَاء إلى صِنفين: عُلَمَاءُ سُوءٍ، وعُلَمَاءُ حَق.

هذا تصنيفٌ مَعَروفٌ في الدِينِ الإسلامي، هُناكَ تشبيهٌ في القرآنِ الكريمِ للحَالَةِ هذهِ وفَرْزٌ للحَالَةِ هذهِ في سُورَة الجُمعَة {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يُحْمِل أَسْفَارًا}، {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}(الجمعة ـ من الآية 5)، مَن كانوا هؤلاء، مَن كانوا؟ كانوا عُلَمَاءَ في بَني إسرائيل، وماذا كانَ مَثلَهُم؟ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يُحْمِل أَسْفَارًا} أي كَمَثَلِ الْحِمَارِ المُحمّل بالكتب بأسفار التوراة، وهو يُحْمِلها على ظهره، لكن هَلْ اهتدى بها؟ هَلْ الحمارُ الذي يُحْمِل أسفارَ التوراة مهتدٍ بها، مستبصر بها؟ هَلْ كسبَ مِنها الوعي؟ هَلْ التزمَ بها في الوَاقِعِ العَمَلي؟ هَلْ أصبحَ مُستبصراً ومستنيراً؟ هَلْ وقفَ مِن خِلالها المَواقِف الصحيحة؟ وماذا عَن القرآن، أليسَ القرآن أعلى شأناً؟ أليسَ القرآن أعظم شأناً مِن التوراة؟ فمَا هو مَثَلُ الذين حُمِّلُوا القرآنَ ثم لم يَحْمِلُوه لا بصيرةً، لا وَعياً، ولا مَسؤوليةً، ولا مَوقِفاً، يتفرجونَ اليومَ أمامَ صفقةِ “ترامب”، ولا يَنْبِسُونَ بِبِنْتِ شَفَة، ولا يتحركونَ أيَّ تحرك، والأعداءُ يبذلُون قُصارى جُهْدِهم في الاستهدافِ للأمَّةِ، في تَضييعِ مُقدَّساتِها، ينظرونَ إلى الأحداثِ الرهيبةِ والمَظلوميةِ الكبيرةِ لشعبِنا العزيزِ فلا يتخذون أيَ مَوقِف، ولا حتّى كلمةِ تأييدٍ ومُساندةٍ لمَن يتحملونَ هذهِ المسؤوليةَ في التحركِ الجادِ للتصدي للعُدوان، ولا حتّى كلمةِ مُبَارَكةٍ أو دُعاءٍ أو مُسانَدة، بَلْ على العَكس، البَعْضُ يُوجِّهُ مَوقِفَهُ السَلبيَ تجاهَ مَن يقفونَ المَوقِفَ المَسؤولَ والمَوقِفَ الصحيحَ، وليسَ لهُ شُغلٌ شاغِلٌ إلا التكلمُ فيهم، إلا السَبُّ لَهُم، إلا التحذيرُ مِنهُم، إلا التثبيطُ عَنهم.

{حتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِين مِنكُمْ}، لأنَّ الجهادَ هو أعلى تعبيرٍ عَن المِصداقيةِ مَعَ اللهِ، {وَالصَّابِرِينَ وَنَبَلْوَ أَخْبَارَكُمْ}، الخُبثُ يُمْكِنُ أن يتقمّصَ الإنسانُ مَعَهُ أيَ عَمَل، أيَ اتجاهٍ في هذهِ الحَيَاة حتّى تصِلَ المَسألَةُ إلى المَوقِفِ والولاءِ والتضحيةِ وهي المَسألَةُ الحسَّاسةُ جداً، {حتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِين مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ}، لأنَّهُ لا بُدَّ مَعَ الجهادِ مِن صَبْرٍ، ولا بُدَّ مِن استمراريةٍ، فالآيةُ هُنا تتحدَّثُ عَن الكشفِ لحقيقةِ الذين في قُلوبِهم مَرَضٌ، وتوضيحِهم مِن خِلالِ هذا الابتلاءِ بالتحديد، لأنَّه هو الابتلاءُ والاختِبَارُ الذي يكشفُ حقيقتَهم، يُمَيِّزُ الذين في قلوبِهم مَرَضٌ مِمَّن قلوبُهم سليمةٌ ومُطمئِنةٌ بالإيمان.

يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا} أيْ مِن دُونِ اختبارٍ يُبيّنُ مِصداقيتَكم مَعَ اللهِ، { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أيْ دخيلةً في ولائِهم، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(التوبة ـ 16)، أيْ لا يُمْكِنُ لا يُمْكِنُ في أي زَمَنٍ ولا في أي مكانٍ أن تُتركوا مِن هذا الاختِبَارِ الذي سيُبيّنُ مَن سيقفونَ المَواقِفَ الصحيحةَ الثابتةَ على الحَق، مِمَن سيُحاولون أن يكونَ لَهُم مَواقِفُ سلبيةٌ وولاءاتٌ مُنحرِفةٌ، ولاءاتٌ باتجِاهِ أعداءِ الأمَّة.

يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى أيضاً {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ}، شَغَفٌ بالقرآن، علاقةٌ بِهُدى اللهِ، ارتياحٌ لتوجيهاتِ اللهِ وهَديه، {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} كارثةٌ، طامةٌ، لأنَّه ذُكِرَ في هذهِ السُورَةِ أو في هذهِ الآيةِ القتالُ، وهو موضوعٌ غيرُ مَرغوبٍ أبداً، لا يتحمّلون أنْ يكونَ موضوعاً يُقدَّمُ في كَلمةٍ أو في خُطبَةٍ أو في مَوعظةٍ حتّى في سُورَة، حتّى السُورِ القرآنيةِ التي فيها حديثٌ عَن الجهادِ لا يرغبون فيها، يرغبُ في سُورَةٍ أخرى لا يكونُ فيها ذِكرٌ لهذا الموضوع، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} رَأَيْتَ أيْ ينكشفون، يُمثِّلُ هذا الموضوع ُ كاشِفاً لَهُم، وفاضِحاً لَهُم حتّى في الحديثِ عَنه، حتّى في الحديثِ عَنه، فالذين في قلوبِهم مَرَضٌ لا يتحمّلونَ حتّى السماعِ لهذهِ المَواضيع، القرآنُ يَعتبِرُ هذهِ علامَةً لَهُم، فيُمْكِنُ للمُجْتَمَعِ أن يَعرِفَهم بذلك، ويَعرِفَ أنَّ مُشكلتَهم الحَقيقيةَ هي أنَّ في قلوبِهم مَرَضٌ، ومَرَضٌ مَعَنوي أي غيرَ المَرَضِ الصمَّاماتِ والشرايين هذا مَرَضٌ طبيعي، لكن مَرَضٌ مَعَنوي، خُبْثٌ، خُبْثٌ، ليسَت مُطمَئنَةً بالإيمانِ كما يَنبغي، مَهما برَرُوا، مَهما قدَّمُوا مِن عَناوينَ تُبرِرُ مَوقِفَهم، هذهِ علامةٌ، التي جَعَلَها علامةً تفضحُهم وتكشفُهم مَن؟ اللهُ سبحانه وتعالى الخبيرُ بالعِبَاد، والعالِمُ بذاتِ صُدورِهم، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}(محمد ـ مِن الآية 20)، تعقَّدوا عُقدَةً شديدةً جداً.

{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَة} مِن هذهِ السُورِ التي فيها حديثٌ عَن الجهادِ والمسؤوليةِ والعَمَلِ، {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ}، إذا كانَوا في مُجْتَمَعٍ أو في مَسجدٍ ويتعارفون في ما بينَهم قد ينظرُ كلٌ مِنهم إلى الآخَرِ نظراتِ الإشارةِ للانصرافِ والذهاب، {هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ}(التوبة ـ 127)، هؤلاء الذين في قلوبِهم مَرَضٌ وفيهم خُبْثٌ وينزعجون أشدَّ الانزعاجِ مِن هذهِ الفريضةِ العظيمةِ التي هي الجهادُ في سَبيلِ اللهِ، والمَوقِفُ الحَق، والولاءُ لأولياءِ اللهِ، والعِداءُ لأعداءِ اللهِ، هَلْ يُمْكِنُهم أنْ يكتفوا في انتمائِهم الإيماني بتِلكَ الأعمالِ التي قد قرَّرُوا الاكتفاءَ بِها، وقرَّرُوا أن يرفضوا هذا الجانبَ مِن توجيهاتِ اللهِ وتعليماتِه، وأن يتخذوا مَوقِفاً سلبياً مِنه ومِمَن يتبناه، هَلْ هذا ينفعُهم؟ هَلْ هذا يُجديهم؟ هَلْ هذا ينفعُهم يومَ القيامة؟ اللهُ يقولُ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران ـ الآية 142)، المَسألَةُ في الأخيرِ في الجَنَّةِ، والبَعْضُ مِنهُم قد يقولُ “أنا أريدُ الجَنَّةَ”، والبَعْضُ قد يُحاولُ أنْ يُغطّيَ تقصيرَهُ في هذهِ الواجباتِ الكبيرةِ والمسؤولياتِ العظيمةِ بالاهتمامِ الواسعِ بالمُستَحبَّاتِ والمَندوبَاتِ فيتحركُ في مَجالِ العِبَادةِ في المُستَحبَّاتِ والمَندوبَاتِ على نحوٍ واسع، والالتزامِ في الأمورِ البسيطةِ والمحدودةِ والسهلةِ، قد يُظهِرُ التزاماً شديداً بِها، هو يُحاولُ أنْ يُعوّضَ لأنَّه مُقصِّرٌ في هذهِ المَسائلِ الكبيرةِ المُهِمَةِ للغايةِ التي جَعَلَها اللهُ في تأكيدِهِ في كتابِهِ مِعياراً للمِصداقية، هَلْ سيدخلُ بتِلكَ الجَنَّة؟ اللهُ يقولُ لا بُدَّ مِن الجهادِ والصَبْرِ لكي تدخُلَ الجَنَّة، الحدُّ الأدنى لِمَن لَهُم عُذرٌ شرعيٌ هو النُصْحُ {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِه}(التوبة ـ مِن الآية 91) في سُورَةِ التوبة، النُصح، يَنصح، يُشجع، يَدعو، يتكلمُ بالكلمةِ الطيِّبةِ لمَن له عُذرٌ شَرعي.

يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}، مَن الذين يَحسبونَ هذا الحسابَ؟، مَن الذين لديهم هذهِ الفكرةَ وهذا التقدير؟ {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(البقرة ـ 214)، ماذا تعَني هذهِ الآيةُ؟ لا يُمْكِنُ أنْ تدخلوا الجَنَّةَ بِدُونِ أن تَمرُّوا مِن هذهِ البوابة، مِن هذا المَمَرِ، مَمَرِ الاختِبَارِ الإلهي، {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم}، لأنَّ اللهَ قد اختبرَ بهذا الاختِبَارِ الذين مِن قبَلِكم مِن أتباعِ الأنَّبياءِ والمُنتمينَ للإيمان، فهذا المَمَرُ هو المَمَرُ الرئيسي الذي تَمرُ مِن خِلالِه إلى الجَنَّة، إذا كُنتَ لا تُرِيدُ أن تَمُرَّ مِنهُ ليسَ هُناكَ طريقٌ أخرى إلى الجَنَّة، مثلاً ليسَ هُناكَ طريقُ تهريبٍ إلى الجَنَّة، حتّى تتفقَ مَعَ بعضِ المُهرِّبينَ على أن يُحاولوا أن يُهرِّبُوكَ مِن أي بابٍ مِن الأبوابِ الثمانية، أو مِن خَلفِ السُور، أو بأي شكلٍ مِن الأشكال، المَمَرُ الذي لا بُدَّ مِن العُبورِ مِنه هو هذا الذي حدَّدَهُ اللهُ، اللهُ الذي يَملِكُ الجَنَّةَ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}، ماذا كانَ هذا الزلزالُ؟ هَلْ هِزاتٌ أرضيةٌ دَمَّرَت بُيوتَهم؟ أمْ زلزالُ المَواقِف، الأحداثِ، الفِتَنِ، الشدائدِ التي هي مِن خِلال أحداثٍ وصِراع؟ ولهذا قال {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}، مَتى يتحدَّثُ الناسُ عَن النَصْرِ، متى يطلبون النَصْرَ؟ هَلْ عِندَ الهِزاتِ الأرضيةِ التي تُدمِّرُ المَساكن، نَصْرٌ على مَن؟ النَصْرُ في المَوقِف، تَصِلُ الحَالَةُ مِن الشدائدِ هذهِ بالالتجاءِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى لِطلَبِ النَصْرِ {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، مَهما كانَتْ الشدائد، مَهما بَلْغَ حجمُ التضحيات، مَهما كانَ مُستوى التحدي، نَصْرُ اللهِ قريبٌ والعاقبةُ للمُتقين.

نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يوفقَنا وإياكم لما يُرضيه عَنا، وأن يرحمَ شهدائَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جَرحانا، وأن يُفرِّج عَن أسْرَانا، وأن ينَصْرنا بنَصْره، وأن يجمَعَنا بنَبيهِ ورَسُولِه محمدٍ صلواتُ اللهِ عَلَيهِ وعلى آلِهِ في مُستقَرِ رَحمتِه، إنهُ سميعُ الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه

 

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com