مرثية يسارية في أربعينية «أرامكو»

|| مقالات || صلاح الدكاك

الذين يعتقدون أن “الغناء” لا الصراع هو “سر الوجود”، هم كورس رديف لترسانة القتل الامبريالية  مهمـــا رَقَّصـــوا ناياتهـــم نواحاً على أشلاء الضحايــا، ونَغّموها بكلمات السلام ونبذ الحرب. هؤلاء الغارقون في رومانسيات هجينة “يسارية ليبرالية متحذلقة فلسفياً”،  هم أشبه بفنيي تخديـر يحقنـون أرواح الضحايا المسحوقين بمورفين خرافات  وهراء متأنسن،   من قبيل “بإمكان السلام أن يعم الكوكب إذا انتهت الكراهية في النفوس…  التسامح كفيل بإنهاء الحروب  فواجهوا أعداءكم بالحب… وأدر خدك الأيسر لمن يصفعك  على الأيمن.. و… و…” إلى أن ينيـــخ الضحـايا بلا مـقاومـــة لمباضع وسـواطـير الجلادين، فالانتحار الجمعي بالرضوخ، يغدو بالنسبة للضحايا سبيلاً لإرساء السلام،   فـــي حين تغدو المقاومة  انتحاراً لا طائل منه  سوى إذكاء لهب الحــــرب   وانحسار فرص السلام الممكنة بالاستسلام،  حسب رومانسيات اليسار المتحذلق.

إن معزوفات “أوقفوا الحرب وارفعوا أيديكم عن الزناد”، لا ترتفع بها عقائر الكورس الرديف لترسانة القتل الامبريالية، إلا عندما يبدي المسحوقون والمستضعفون قدراً من المقاومة يألم لها الجلاد، وتعجز معها آلته الحربية الفتاكة في تركيع الضحية وانتزاع صك استسلامها عنوةً بالقوة العسكرية، فيتدخل كورس الخدر وحمائم المورفين لإقناع المستضعفين المقاومين بأن طائرات الـ”تورنيدو وإف 16″ وقنابل الـ”نيوترون والفراغيات” وأساطيل البارجات والمدمرات، ستنكسر وتنحسر عن المياه والأجواء والتراب، وتدخل في حالة بطالة سرمدية، فقط إذا تنازلت الضحية عن أظافرها، وتخلت عن مسدس عتيق وبندقية أثرية تذود بها عن نفسها أحابيل القتل المعاصرة وفنونه الأحدث!

هكذا تتضخم الرصاصة “المعوَّضة” في يد المستضعف بنظر كورس الخدر والتخدير هؤلاء، فتصبح “العائق الأساسي والوحيد” أمام إرساء السلام على كوكب الأرض، والخطر الأكثر تهديداً لفرص استتبابه، بينما تلوح ترسانات القتل الجماعي الرقمية في يد الجلاد الكوني باقات ود وأكاليل حب وأضاميم عواطف إنسانية مشبوبة مترعة بالنوايا الحسنة تجاه البشرية بلا استثناء، بنظر الكورس الرديف السامج والمنافق..

إن من حسن حظ شعبنا اليمني المستضعف المقاوم لتحالف ترسانات التعبيد والعدوان الامبريالية الكونية، أن أظافره استطالت اليوم صواريخ ومسيَّرات ضاربة بعيدات المدى، وأهدابه باتت مسابير ومراقيب باتساع طموحه، وبات أسمق وأشهق وأنأى وأربأ من أن يقف على قارعة العجز المؤدلج ويقينيات الاستلاب ليتسول مناديل دموع وعبارات عزاء مشفقة سامجة من عازفي نايات السلام والإنسانية ودعاوى الحب والتسامح ونبذ العنف والكراهية الـ”ناشطين” في كراجات ترسانة القتل الكونية، يحممون سواطيرها الرقمية بعد كل مجزرة من دم الضحايا، ويشطفون مسارح جرائمها من بصمات القتلة والجلادين بالنواح فوق الأشلاء.

إن عزاء شعبنا الموجوع والمكلوم اليوم هو أن مداميك تضحياته ارتفعت صرحاً يطَّلع منه على آلهة الامبريالية التي تتعبدها معظم الشعوب والأنظمة، فيراها زائفة وواهنة، ويرى أن حفاه المثخن بالشوك أعلى من رؤوسها المستكبرة المتغطرسة، ويسمع نشيجها البائس إثر كل ضربة بطولية مقتدرة يسددها أبطال جيشنا ولجاننا لحواضن ألوهيتها وتجبُّرها، فتهون عليه آلامه وأوجاعه، ويزداد إيماناً فوق إيمانه بجدوى التضحيات على طريق الحرية والاستقلال والنهوض الوازن، ويوقن بلا ريب بأن الأماني العظيمة لا تُنال بالتمني، وإنما تؤخذ غلاباً في دنيا ليست بستاناً ممهداً ولا حديقة للسلام المجاني وفقاً لمقولة سيد الثورة، بل صراع وجدل ومقارعة ونقائض وتدافع لا مناص منه في سبيل الكرامة والنهوض برسالة التعمير والاستخلاف كآدمية مكرمة.

لقد تعلمنا من مدرسة الحسين والمسيرة القرآنية كيف نرفع قهرنا ثورة لا ذلة في قاموس خياراتها، وها هم رجالنا اليوم يسندون بقاماتهم النحيلة الضامرة سقف الكوكب ليتسنى للبشرية أن ترفع رأسها المنكس بخرافات السلام الخانع والمحبة المبتذلة المتملقة لمحاذير وإملاءات الجلاد الأمريكي الكوني حول “الأمن والسلم الدوليين ومكافحة الإرهاب”، ومقادير وجرع الحرية التي يتعين على البشرية ألا تتجاوزها حفاظاً على موازين الخنوع على كوكب الأرض، وحرصاً على استتباب سكينة الحظيرة الكونية المعولمة.

ندرك أننا نوقع العالم المعاصر في درك الحرج الشديد لانفضاح أكاذيبه الحضارية الكبرى أمام دمنا المكابر، الذي لا يثير ارتفاع منسوبه، انتباهه إلا حين تخفض صواريخنا وطائراتنا منسوب النفط في السوق المعولمة، ثأراً مشروعاً للدم المسفوك، فيعلن العالم المنافق حالة طوارئ قصوى، وتشرع نايات السلام الزائف في الابتهال لوقف الحرب خاطر عيون “أرامكو”، لا خاطر دمنا، وحرصاً على عافية الجلاد المهددة بتعافي الضحية وتطور وسائط دفاعها عن نفسها.

إن بنادقنا تضرب يباس الأرض اليوم خصباً ومواسم خير للبشرية وتشق فجاجاً رحبة للسلام الكريم، بالنقيض تماماً لنايات النشيج الرومانسي التي تعزف باسم أشلاء أطفالنا الممزقة عدواناً وظلماً، وتحث الإصبع المقاومة على أن تفض اعتناقها بالزناد باسم أشلاء «أرامكو» المنثورة اقتصاصاً لأشلاء المستضعفين في عموم الأرض.

لم يكن أحدٌ من أدعياء المحبة والتسامح والشفقة والرحمة هؤلاء ليبكي على دمنا لو أننا لم نُبكِ أوثان الامبريالية المعبودة ولم نهدم معبدها الكوني فوق رؤوس عُبَّاده من فصيلة عازفي أكاذيب السلام الآكلين بصحن حساء على عتباتها وعند أقدام سدنتها, فلا أحد يبكي اليوم على الصومال العاثر في الدم, ولا على ليبيا المذبوحة بتوافقية ثنائية وكيلة للغرب الامبريالي.. بكاء جوقات الرومانسية الغربية اليوم هو عزف ممجوج وفاضح في أربعينية “أرامكو” ونواح صريح عليها، لا في طواريد مرضى الفشل الكلوي بالحديدة وصنعاء وإب ولا عليهم.. فليعزف هؤلاء المبتذلون سيمفونياتهم المتأنسنة في أذن عاصفة تحالف القراصنة الذين يصادرون للسنة الخامسة خبزنا ودواءنا ووقودنا بصفاقة محروسة بغطاء من النفاق الأممي والعالمي؛ فمشافينا لا تعوزها النايات النواحة كذباً, بل قراب المحاليل وقطع غيار الأجهزة النافقة والمشتقات النفطية, ومطار مفتوح لاستنقاذ مئات آلاف المرضى المحتضرين في خناق الحصار وانعدام إمكانات التطبيب الناجع.

لقد ورّث أباطرة الاستكبار الأمريكي لأحفادهم مقولة نحن أحرى بها: إذا أردت السلام فاحمل السلاح وكن مستعداً للحرب.. والعاقبة للحفاة الأحرار والبنادق المعصوبة بالخرق وهي تسند سقف الكوكب للأجيال القادمة التواقة لحرية بلا سقف.

قد يعجبك ايضا