وألقي السحرة ساجدين

|| مقالات || عبدالله علي صبري

لماذا ألقي السحرة ساجدين جميعهم وبدون تشاور مسبق، ولماذا استحقوا هذا الفضل العظيم من الله تعالى وقد سخروا حياتهم لخدمة الطاغية فرعون وإغواء الناس؟ ثم ما الذي جعلهم يصبرون على العذاب الذي حاق بهم ويتحدثون عن الحياة الآخرة بإيمان كبير وثقة مطلقة بالله؟

من يتأمل قصة سحرة فرعون مع نبي الله موسى عليه السلام بحسب ما جاء في القرآن الكريم، فإنه يتوقف أمام الحالة الإعجازية التي هيمنت على المشهد الختامي للمواجهة الكبرى بين المعجزة الإلهية ممثلة في ” عصا موسى ” وبين القدرات البشرية الخارقة التي بلغت ذروتها مع “سحرة فرعون”، الذين اعترفوا وآمنوا بأن ما جاء به موسى وهارون عليهما السلام أكبر من قدراتهم البشرية المحدودة، وأنها دليل على الإله الواحد: رب العالمين.

يقول تعالى في سورة الأعراف:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)

ويقول عز وجل في سورة طه مخاطبا موسى:

وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (70)

وفي الآتين تأكيد على أن السحرة في سجودهم وإيمانهم برب العالمين لم يتصرفوا من تلقاء أنفسهم تماما، فهم وإن كانوا قد آمنوا بالله ” رب موسى وهارون “، بعد أن رأوا المعجزة بأعينهم، فإن إعلان التمرد والكفر بفرعون وربوبيته على ملأ من الناس، كان بحاجة إلى قوة دفع خارجية، جعلتهم يسجدون تلقائيا لله الواحد مع إدراكهم لعظيم ما ينتظرهم من عذاب شديد على يد الفرعون وزبانيته.

لقد أصبح سجود السحرة – وهم بالمئات على الأقل- المعجزة المضافة التي تؤكد أن موسى وهارون مرسلان من الله، فحين حشد فرعون الناس وجاء بالسحرة لمواجهة موسى، كان على ثقة شديدة بأن الظفر في هذا اليوم من نصيب فرعون وسحرته، ولم يتوقع تلك المفاجأة الكبرى والمركبة، فبالإضافة إلى أن عصا موسى تفوقت على الكيد البشري، والتهمت كل ما جاء به السحرة، فقد سجد السحرة أنفسهم.. جميعهم ودون تشاور مسبق فيما بينهم إيمانا واعترافا بالله، الأمر الذي ضاعف من حسرة فرعون وخيبة أمله، فارتد على السحرة تعذيبا وتنكيلا، متهما إياهم بالكيد المسبق والتآمر مع موسى عليه السلام.

{ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } طه:71

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ابتداء، ما الذي فعله السحرة قبلا حتى نالوا هذا الشرف العظيم؟

لا جدل في أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن حكمته وقدرته عز وجل أكبر من أن تحتويها المدارك البشرية. لكن نحن هنا إزاء قوم سخرهم الطاغية لإغواء الناس وخداعهم، ما جعل فرعون يدعي أنه الرب الأعلى. وفي أول مواجهة مع النبي المرسل من الله ينقلب السحر على الساحر، فيؤمن السحرة أنفسهم بالله وعلى مرأى ومسمع الآلاف ممن شهدوا الواقعة.!

فما الذي فعله السحرة حتى شملهم المولى برحمته؟ واصطفاهم شهودا وشهداء على الناس؟

لا شيء يذكر على وجه التحديد، إلا أن ثمة إشارة إلى وضع مستتر رافق حياة السحرة أبان عنه الله في آي الذكر الحكيم، وتحديدا حين استنكر الفرعون ما فعله السحرة وتوعدهم بالعذاب والهلاك.

{ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } طه: 72،73

هذه كلمة السر إذا، فقد كان السحرة مجبرين ومكرهين على عملهم وخدمتهم في بلاط الفرعون، أما لماذا كانوا مكرهين في الأصل، فهذا يشير إلى أنهم كانوا على دراية بأن السحر من الأعمال التي يمقتها الله سبحانه وتعالى وإلا لما شعروا بتأنيب الضمير أصلا وهم يخدمون الفرعون وينتفعون من خدمته كسائر الجنود والسخرة من حول الطاغية..

من الواضح وبحسب الآية أعلاه، أنهم كانوا من الموحدين، وحين قالوا ” إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا” ، فإنما قصدوا الإفصاح عن الإيمان المستتر على ملأ من الناس وفي وقت يصبح فيه هذا الإعلان نصرة لدين الله ولنبييه موسى وهارون عليهما السلام.

لقد أمر فرعون بتقطيع أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف، وبصلبهم وتعذيبهم على جذوع النخل، حتى يكونوا عبرة لغيرهم ممن تسلل الإيمان إلى قلوبهم لما رأوا المعجزات بأم أعينهم، ولكنهم واجهوا العقوبة بصبر عظيم دل على رسوخ الإيمان بالله وباليوم الآخر في قلوبهم، فقالوا بكل ثبات وثقة: فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. !

لكن، إذا كان السحرة من المؤمنين والموحدين في الأصل، فكيف عرفوا أن الإله الحق هو الله الواحد، وليس فرعون أو غيره من آلهة مصر ؟

 

لكي نفهم ما جرى في يوم “الزينة” الذي احتشد فيه الناس بأمر من فرعون، وانتهت أحداثه بخيبة أمل كبيرة تجرعها الطاغية وزبانيته، يتعين التذكير بقصة مؤمن آل فرعون التي ذكرها القرآن الكريم، فلا شك أن ذلك المؤمن قد حضر ذلك اليوم المشهود، وآمن برب هارون وموسى، ولكنه خشي على نفسه من المصير الذي حاق بالسحرة حين سجدوا لله الواحد الأحد.

في هذه القصة وهي تستحق التوقف في تناولة أخرى، نرى كيف أن هذا المؤمن يلفت قومه إلى أحداث سابقة مذكرا إياهم بنبي الله يوسف عليه السلام الذي جاء إلى مصر حاملا معه دعوة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.

يقول الله سبحانه في سورة غافر:

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } الآية: 28

إلى أن يقول على لسان هذا الرجل المؤمن:

{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ }غافر:34

وهذا يعني فيما يعني أن دعوة التوحيد التي جاء بها يوسف عليه السلام إلى مصر وانقلب عليها الفراعنة بعد موته، كانت لا تزال حية في نفوس بعض الموحدين من غير بني إسرائيل، ولما بعث الله موسى وأرسله إلى فرعون وأيده بالمعجزات، جاءت فرصة السحرة للتوبة وتجديد الإيمان بالله، على النحو الذي أسلفنا.

 

والله أعـلم

قد يعجبك ايضا