(نص + فيديو) المحاضرة الرَّمْضَـانَية الـ16 للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي للعام 1441هـ

موقع أنصار الله  – صنعاء– 17 رمضان 1441هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ..

السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

تقبَّلَ اللهُ منَّا ومنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمال.

اللهم اهدِنا وتقبَّلْ منَّا إنَّكَ أنتَ السميعُ العليمُ، وتُبْ علينا إنَّكَ أنتَ التوابُ الرحيم.

حديثُنا في هذه المحاضرة عن الظلم، يتناوَلُ الظلمَ على المستوى الاجتماعي في المعامَلة، وعلى المستوى الشخصي.

والظلمُ جُرمُهُ عظيمٌ على كُـلّ المستويات، إنما في كُـلّ مستوى معين قد يكونُ له جانبٌ معين من الحُرمة أكثرُ وآكـدُ، ولكنه بكله، بكل أنواعه خطيرٌ جِـدًّا، ومن كبائر الذنوب والمعاصي، ومما يسبب العقوبات العاجلة في الدنيا، والعقوبات الآجلة والعظيمة في الآخرة -نعوذ بالله-.

من أبرز مظاهر الظلم في المعاملة وفي الواقع الاجتماعي لدى الناس: هو الظلم الذي يتعاون عليه البعض، قد يكون على مستوى قبيلة تتعاون في موقفٍ يعتبر ظلماً، أَو على مستوى مجموعة من الناس، أَو على مستوى جهة معينة، هذا الظلم الذي يتعصب فيه البعض مع بعضهم، ويقف البعض مع بعضهم، يعتبر خطيراً جِـدًّا، ويعتبر من الظواهر المنتشرة في المجتمع الإسلامي، كَثيراً ما يحدث هذا النوع من الظلم.

وعندما نعودُ إلى القرآن الكريم يأتي النهيُ والتحذير، وكذلك عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، النهي والتحذير الشديد من التعاون على العدوان، على الظلم للناس، على موقفٍ فيه ظلم؛ ولذَلك يقول الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى- في كتابه الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: من الآية2]، وهذا يشمل كُـلّ مستويات التعاون على الإثم أَو على العدوان، التعاون على الإثم والعدوان على أي مستوى: دولة، تحالف، مجتمع، قبيلة، أسرة، مجموعة… بأي مستوى يكون.

التعاون على الإثم والعدوان أمرٌ خطير، ولهذا جاء النهيُ عنه؛ لأَنَّه من عوامل تعزيز الظلم، ومن العوامل المؤثرة سلباً على واقع المجتمع: على أمنه، على استقراره، على ألفته، على تعاونه… الحالة الصحيحة هي التعاون على البر والتقوى، هذه حالة إيجابية، حالة عظيمة، حالة مفيدة، حالة مثمرة، وفيها رضا الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-، ولها النتائج الإيجابية في واقع الحياة.

أمَّا التعاوُنُ على الإثم والعدوان بدافع العصبية، أن تتعصَّبَ للظالم، أَو في موقع ظلم؛ مِن أجلِ قبيلتك، أَو مِن أجلِ أسرتك، أَو مِن أجلِ أصحابك، أَو مِن أجلِ حزبك، أَو مِن أجلِ جماعتك، فهذا ما لا يجوز، هذا أمرٌ خطير، وهو العصبية (عصبية الجاهلية) المنهي عنها، في الحديث عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- أنه سُئل عن العصبية ما هي؟ قال: (أن تُعينَ قومَك على الظلم)، فإذا تعاونت في موقفٍ هو ظلم، وتدعم ذلك الموقف الذي هو ظلم، وتدعم ذلك الشخص الذي هو في موقف ظلم، تدعمُه على ظلمه، تعينه على ظلمه، فأنت ستكون شريكاً في ذلك الظلم، وستتحمل الوزر والإثم عند الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-.

ولذلك في قضايا الناس: القضايا الكبيرة، والقضايا الصغيرة، والقضايا الاجتماعية، والقضايا التي تكون في إطار قبلي معين، أَو مجتمعي معين، من المنهي عنه التناجي بالإثم، والتناجي بالعدوان، والتعاون بكل أشكال التعاون: على الموقف الخطأ، على الموقف الظلم، على الموقف الباطل، على مساندة من هو في موقفٍ ظالم، لا ينبغي ذلك، ولا يجوز، ولا يليق أبداً، حتى على مستوى التناجي، التناجي بالإثم والعدوان، الله يقول في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المجادلة: من الآية9]، الناس في اجتماعاتهم، في مجالسهم، في مناقشتهم لقضايا معينة، أَو لمواضيع معينة في أي مستوى كانت، أي مستوىً كانت هذه القضايا: قضية لشخص معين، قضية لمجتمع معين، قضية لقبيلة معينة، قضية لأسرة معينة، وأياً كان هذا الموضوع: موضوعاً يتعلق بالأمور المادية، أَو النزاعات الشخصية… أَو بأيٍ كانت، {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}، التناجي بالإثم والتناجي بالعدوان، الدعم لموقف خطأ، أَو الاتّفاق على موقف خطأ، موقف يخالف ما هو رضا لله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-، يخالف توجيهات الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-، له تأثيرات سيئة، وله توجّـهات عملية خاطئة، فلا يجوز، لا يجوز أبداً أن يتجه الناس إلى مثل هذا النوع من التناجي في مجالسهم، في اجتماعاتهم، في لقاءاتهم الخَاصَّة، في مناقشتهم للقضايا المختلفة والمتنوعة، أن يحذروا من التناجي بالإثم والعدوان؛ لأَنَّ البعض قد يحصل عندهم دافع العصبية، أَو دافع العقدة، يأتي حتى في المجال العملي، حتى في مجال العمل في سبيل الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-، حتى في إطار الأعمال والمسؤوليات تحصل أحياناً عند البعض العقد، أَو الإشكالات، أَو القضايا المعينة، فقد يتعصب معهم البعض، وقد يتناجوا بدافع هذه العقد على ما هو إثم، وما هو عدوان، وما فيه تأثير سيء، لا يجوز، يشق صف المؤمنين، له تأثيرات سلبية في الواقع العملي، مثل هذا التناجي بالإثم، بالعدوان، بمخالفة توجيهات الله وتعليماته -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-، بالأعمال السيئة، بالأعمال غير الصحيحة التي تتناقض مع توجيهات الله ومع تعليمات الله القائمة على الحق، والعدل، والأخوة الإيمانية، والألفة، والتفاهم، وصلاح ذات البين، ما يخالف هذه التوجيهات الإلهية والتعليمات الإلهية لا يجوز التعاون فيه، لا يجوز العصبية والتعاون عليه بدافع العقدة، أَو بدافع العصبية، بدافع الصداقة الشخصية، بدافع الروابط، أياً كان شكل هذه الروابط، ونوع هذه الروابط؛ لأَنَّه من قبيلتك؛ لأَنَّه من أصحابِك؛ لأَنَّه من جماعتك؛ لأَنَّه من حزبك؛ لأَنَّه… أياً كان شكل هذه الروابط، لا يجوز أبداً.

الشيءُ الصحيح، الموقف الصحيح هو التعاوُنُ على البر والتقوى، ومن ذلك إذَا كان هناك شخص مخطئ، أن يتعاون الجميع لإقناعه للتراجع عن خطئه، للضغط عليه للتراجع عن خطئه، وبالحد الأدنى إذَا لم يتراجع عن خطئه، إذَا لم يتراجع عن ظلمه، إذَا لم يتراجع عن تصرفه السيء، بعد أن يثبت أنه ظلم، أَو تصرف سيء، أَو خطأ، يجتنبوه، يتركونه، لا يتعاونون معه على ما هو عليه من ظلمٍ وعدوان، أَو خطأٍ ومخالفة ومعصية، لا يقفوا معه على ذلك، هذا هو الموقف الصحيح، بدلاً من التعاون، وبدلاً من أن تشاع في واقع المجتمع الحديث الذي يزعزع الوضع الداخلي، الألفة فيما بين الناس، ما بين المجتمع المسلم، ما بين المؤمنين، من خلال إشاعة التذمر، والعقد، والكلام السلبي، والتناجي بالإثم، والتناجي بالعدوان، هذا ما يجب الحذر منه.

من أشكال هذا التعاون على الظلم، والتعاون على الإثم، والتعاون على العدوان، ومما يدخل في إطار العصبية: الجدال والمدافعة عمَّن له موقف ظلم، أَو موقف معصية، فيقف الآخرون معه في موقفه، يجادلون عنه، يدافعون عنه، يحامون عنه، يؤيِّدون موقفه، وهذا من الظواهر التي تحصل، على المستوى القبلي قد تقف قبيلة مع شخص؛ لأَنَّه منها، وقد يكون موقفه موقفاً ظالماً، وموقفاً خاطئاً، والموقف الصحيح أن تردّده عن ظلمه، وأن تدفعه إلى الحق، هذا هو الموقف الصحيح، وهذا يحصل عند بعض المجتمعات والقبائل التي تحرص على أن تكون مواقفها صحيحة وعادلة، ويحصل أَيْـضاً في كُـلّ الأطر العملية التي قد يرتبط فيها البعض مع بعضهم، أن يكون لهم هذا التوجّـه الصحيح: الدفع للظلم، الإجبار على الحق، الإلزام بالحق، الإنصاف، وهذا هو الموقف الصحيح.

اللهُ -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى- قال في القرآن الكريم: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أنفسهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}[النساء: الآية107]، قد يكون البعض في موقف جريمة، أَو موقف معصية، أَو موقف ظلم، فيأتي البعض ليجادلوا عنه، وليدافعوا عنه، وليبرّروا موقفه، وليتشفعوا فيه، وليعملوا على المنع من اتِّخاذ الإجراءات بحقه، قد يكون ظالماً في قضية من قضايا الناس، قد يكون مرتكباً جريمة معينة، قد يكون من المحششين، انتشار ظاهرة الحشيش والمخدرات من أسوأ الظواهر، ولكن من أخطر الأشياء أن يتعاون الناس على دعم من يتورط في مثل هكذا جريمة، فإذا سجن، يهب البعض للمراجعة فيه، والدفاع عنه، والسعي لإخراجه، ونحن حذرنا من التعاون في مثل هذه الجريمة في المحاضرات الرمضانية في العام الماضي؛ باعتبَارها من أخطر الأشياء تأثيراً سلبياً على واقع المجتمع؛ لأَنَّ البعض من أصحاب التجارة في الحشيش والمخدرات يحاول أن يعزز موقفه، ويوفر لنفسه الحماية من المجتمع، عن طريق أن يوزعَ بعض الأموال، وأن يكسب بها صداقة أشخاص معينين: هدية لذلك الشيخ، هدية لذلك المشرف، وعلاقة مع ذلك الشخص، اهتمام بتلك القرية، اهتمام بأُولئك الناس، ويعزز هذه الروابط وينميها، ويعطيهم جزءاً يسيراً مما يحصل عليه من دخل من هذه التجارة المحرَّمة، حتى يحبوه، حتى يتعصبوا معه، حتى يروا فيه شخصاً يحقّق لهم مصالح مادية معينة، فيربطهم بمصالحه بهذه الطريقة، عندما يسجن أَو يطارد، يقفون إلى جانبه، يتعصبون معه، يراجعون فيه، يبذلون كُـلّ جهد في سبيل حمايته، والدفاع عنه، والعمل على إخراجه من السجن، ودفع العقوبة عنه، هذا من التعاون على الإثم والعدوان، وهذا من الاشتراك في الجرائم، هذا من الاشتراك في دعم الحرام، في تهديد الاقتصاد الإسلامي، في الإضرار بالمجتمع المسلم، فيما نال الناس من أضرار خطيرة ومن أضرار كبيرة.

البعضُ من الناس قد يقف الآخرون عنه ويبرّرون موقفه، والله ينهى هنا حتى عن دعمهم بالكلام، عن الجدال عنهم، فيقول: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أم مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}[النساء: الآية109]، من سيقف إلى جانبهم يوم القيامة؟ الذي وقف إلى جانبهم في الدنيا سيكون شريكاً معهم في جرمهم، وداخلاً معهم في إثمهم، ومتورطاً معهم في جرمهم، ويتحمل معهم في وزرهم، يوم القيامة هل سيجرؤ أحد على أن يدافع عنهم؟ لا، سيكون موقف الكل موقفاً خائفاً، وموقف الانشغال بالنفس، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار: الآية19]، لا أحد يتدخل لإنقاذ أحد من المجرمين في يوم القيامة، هذا تهديد ووعيد من الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-.

البعضُ من قبيلة قد يُقتل ظلماً وعدواناً في قبيلةٍ أُخرى، فتقف معه قبيلته وتناصره، أَو يقف معه أصحابه، أَو تقف معه جماعته، أَو يقف معه البعض، البعض من الناس قد يغتصب أرضاً، أَو ينهب حقاً، أَو يصادر ملكاً بغير حق، ويقف البعض معه، هذه جريمة، اشتراك في الجرم، اشتراك في الإثم، معاونة على الظلم، معاونة على الإثم والعدوان، وهذا ما ورد النهي عنه.

التوجّـه الصحيح للمجتمع، والتوجّـه الصحيح للجميع: هو التركيز على الحق والعدل والإنصاف، وبالتالي التعاون على ذلك، ورد المسيء عن إساءته، في الحديث عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-: (لا تكونوا إمَّعة، تقولوا إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساؤوا أسأنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم أنه: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا)، هكذا يكون لدى الناس هذا التوجّـه الإيجابي، التوجّـه للإنصاف، للحق، للخير، للعدل، حتى إذَا حصل ظلم، لا يقابل بظلمٍ أكبر، إذَا حصلت مشكلة، لا تقابل بمشكلة أكبر.

البعض قد يُقتل منهم شخصٌ ظلماً وعدواناً، فيتجهون للثأر بطريقة عشوائية، ويحصل ظلم أَو مفسدة كبيرة، أَو خلل كبير، أَو فتنة كبيرة، وهذا ما لا يجوز أبداً: أن يقابل الظلم بظلمٍ أكبر، فالتعدي والتعاون عليه، والتعدي قد يطال الإنسان: إما في حياته (في نفسه)، أَو يطال الإنسان في ممتلكاته وماله، أَو في عرضه وسمعته… كُـلّ أشكال هذا الإثم وهذا العدوان، كُـلّ أشكال هذا الظلم يجب الحذر من التعاون فيه، ويجب التعاون على البر والتقوى، ورد المسيء عن إساءته.

على مستوى الظلم في الأموال والحقوق، هو أَيْـضاً من أسوأ أنواع الظلم، ومن الظلم المنتشر بين الناس لدرجة عجيبة، حتى داخل الأسرة الواحدة، من أقبح وأشنع أنواع الظلم داخل الأسر هو: ظلم النساء والأيتام، عندما يظلم الإنسان النساء عنده، أَو يظلم اليتامى، من أبرز مظاهر الظلم في الأموال والحقوق هو الظلم في الإرث، وأكل إرث النساء، وهذا من الظواهر المنتشرة والخطيرة جِـدًّا؛ لأَنَّ الإنسان عندما يأكل إرث قريبته، حتى لو تظاهرت بالمسامحة له مجاملةً، لا ينفعه ذلك، هو وزرٌ يتقلده، وإثمٌ وظلمٌ يرتكبه، يحاسب عليه يوم القيامة، ولا ينفعه معه أي عمل صالح، إذَا لم يتخلص منه في الدنيا فأعماله كلها باطلة، أعماله كلها محبطة: صلاته محبطة، صيامه محبط… حبطت أعماله كلها في الدنيا؛ لأَنَّه مع هذا الظلم -الذي هو ظلم خطير جدًّا– خرج عن إطار التقوى، وعن دائرة المتقين، والله -جلَّ شأنه- يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: من الآية27]، وللأسف تنتشر هذه المظالم بشكل كبير في أوساط المجتمعات، ولربما القليل من يحاول أن يخلِّص نفسه من هذا النوع من الظلم والإثم والعياذ بالله.

ينبغي على الإنسان إذَا أكل أَو لديه إرث قريبته أن يحرص على التخلص، ألَّا يستمر في هذا الظلم وفي هذا الوزر، يمكن للإنسان إذَا كانت قريبته بنفسها: أخته، أَو قريبته أياً كانت، أمه… أي شكل من أشكال القرابة التي فيها إرث، ورغبت هي أن يبقى إرثها عنده، فأن يسوق إليها حصتها من الغلول (غلول الإرث)، من الثمار، من النتائج المادية التي سيحصل عليها ويحصلها، ويكون عمله كشريك، بحسب العرف المعتاد عليه في الشراكة بين المجتمعات، وبطريقة صحيحة لا يكون فيها غبن، ولا يكون فيها ظلم، هذا هو -بالحد الأدنى- الذي يمكن أن يعمله الإنسان، أَو أن يسلمها بالكامل ويخلص رقبته (ذمته) من ذلك.

من أنواع الظلم أَيْـضاً في أكل الأموال والحقوق حتى داخل الأسرة الواحدة: أكل مهور النساء، وهذه من الظواهر المنتشرة والسلبية جِـدًّا في المجتمعات، البعض يرى في ابنته وكأنها سلعة، يفرح بأن يزوجها، ليحصل على مبالغ مالية يأكلها شخصياً، ويجعل من مهرها قيمةً لها كسلعة يأكله ويستغله، وهذا من الحرام، ومن الظلم، وظلم للنساء، وظلم للأرحام، وظلم للأقارب، ظلم مضاعف وسيء، وينبغي الخلاص من مثل هذا الظلم، الإنسان إذَا قد فعل ذلك في الماضي يحاول أن يسدد وأن يتخلص، وفي المستقبل يقلع الإنسان عن مثل هذا التصرف، ويكف عن مثل هذا الظلم ولا يتورط فيه، هذه قضية خطيرة جِـدًّا، ممكن أن يكون هناك مخصص لتكاليف العرس، ويكون بالمعقول، يكون بما يراعي الظروف العامة للمجتمع، وممكن وقد عملت بعض المجتمعات هذا: اتفقت على مقدار معين لتكاليف الزواج وللمهر، وهذا شيء إيجابي بما يساعد على الزواج؛ لأَنَّ تيسير الزواج مسألة مهمة جِـدًّا للناس في حياتهم، سواءً للشباب أَو للشابات، الكل بحاجة إلى ذلك، وللمجتمع بكله، بما يحافظ على العفة، والطهارة، والشرف، والأمن، والاستقرار في المجتمع: تيسير تكاليف الزواج بما يساعد الشباب أن يتزوجوا، فأكل مهور النساء يعتبر من الظلم، ومن الإثم الخطير، ومن أكل أموال الناس بغير حق.

أكل أموال اليتامى، ومع ما يحصل في هذا الزمن من حروب وكثرة اليتامى، اليتامى موجودون في كُـلّ زمن، لكن مع الحروب بشكلٍ أكثر، أكل أموال اليتامى من أبشع أنواع الظلم، وعادةً ما يكون من قريب (من القرابة)، قد يكون الأخ، قد يكون الأب، قد يكون قريباً من القرابة، يأكل أموالهم أَو يأكل حقوقهم، وهذه قضية خطيرة جِـدًّا وعليها وعيدٌ شديدٌ في القرآن الكريم، الله -جلَّ شأنه- يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أموال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء: الآية10]، وعيد شديد وواضح وصريح بالعذاب في جهنم، فالذي يأكل أموال اليتامى أَو حقوقهم، عقوبته جهنم، ولا تنفعه أي أعمال صالحة: لا صلاة، لا صيام… ولا أي عمل آخر، وهذا من أشنع أنواع الظلم، ظلمٌ رهيب، وظلمٌ خطيرٌ جِـدًّا، {وَلَا تَأْكُلُوا أموالهُمْ إلى أموالكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النساء: من الآية2]، فهو ظلم شنيع، شنيع جِـدًّا، فيه لؤم، فيه دناءة، فيه خسة، أن يعمد الإنسان إلى ظلم اليتامى، بينما الشيء الذي يربينا عليه الإسلام هو الرحمة والعطف بالمستضعفين، بالمظلومين، باليتامى، وهذا من الأمور المهمة جِـدًّا.

يعتبر الطمع أَيْـضاً من أكبر عوامل الظلم في أخذ أموال الناس بغير حق، وما أكثر ما يحصل بين الناس من نزاعات ومشاكل على الأموال، وكثيرٌ من المظالم هي تتجه إلى المال، البعض قد يطمع في جربة شخصٍ معين في منطقة معينة، أَو أرض لشخص معين، أَو مال بأي شكلٍ من الأشكال: بضاعة، تجارة… إلخ. وقد يتجه إمَّا إلى أخذها، أَو مضاررته فيها بأي شكلٍ من الأشكال، وهذا من الأمور الخطيرة التي ورد فيها التحذير الشديد، سواءً كانت الوسيلة للحصول عليها هي الاغتصاب، أَو كانت الوسيلة هي المشاجرة واليمين، أَو الرشوة.. أَو بأية وسيلةٍ كانت، كُـلّ ذلك محرم، وكل ذلك يعتبر من الظلم الشنيع الذي عقوبته جهنم، الله -جلَّ شأنه- قال في القرآن الكريم: {وَلَا تَأْكُلُوا أموالكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أموال النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية188]، عندما يسعى الإنسان إلى أن يأخذ مال الآخر بأي وسيلة، ولو بوسيلة الرشوة، والتزييف للحقائق، والاستغلال للقضاء، أَو استغلال التقاضي عند شخصٍ معين، ثم السعي للتزوير للحقائق، والتحيل بالرشوة أَو بالتزوير، للوصول إلى حق ذلك الآخر، هذا يعتبر من الظلم الشنيع الذي عقوبته النار، أَو حتى باليمين، اليمين ورد تحذير شديد جِـدًّا في القرآن الكريم بسخط الله وغضبه ووعيده بجهنم، وعن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- الذي قال فيما روي عنه: (لا يقطع رجلٌ حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه -يعني: باليمين- إلَّا حرَّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار)، هكذا النتيجة هي النار، هي النار، أن تخسر الجنة.

ولاحظوا كم يكون غباء إنسان يقتطع حقاً على الآخرين، على شخصٍ آخر، أَو على أشخاص آخرين، قد يكون شيئاً تافهاً، قد يكون أرضاً، قد يكون مبلغاً مالياً معيناً… قد يكون شيئاً من أعراض هذه الدنيا، في مقابل أن يخسر الجنة، وأن يدخل النار، وأن يتعذب للأبد في نار جهنم، عندما قال رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- هذا الكلام، كلام خطير جِـدًّا على الإنسان الذي يتورط في ذلك، (فقال له رجلٌ من القوم يا رسول الله: وإن كان شيئاً يسيراً)، يعني: حتى لو كان هذا الشيء الذي اقتطعه الإنسان من حق الآخرين شيئاً يسيراً، شيئاً بسيطاً، (قال: وإن كان سِواكاً من أراك)، لو لم يكن إلا سواكاً من أراك، مسواك صغير أخذه الإنسان بغير حق على الآخرين، يمكن أن يدخل به نار جهنم، يعني: حتى أبسط الأمور، خطير هذا، خطير على الإنسان، يجب أن يكون الإنسان متورعاً من أخذ حق الآخرين بغير حق، من الأخذ ظلماً على أي أحد، ولو كان شيئاً يسيراً، مسألة خطيرة جِـدًّا، (الطمع شجرةٌ في النار، أغصانها في الدنيا، من تمسك بغصنٍ منها، قاده ذلك الغصن إلى النار) والعياذ بالله! هكذا ورد في الحديث عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وقد شبّه الطمع بهذا التشبيه، فالطمع خطير جِـدًّا على الإنسان، قد يتهاون الإنسان ويطمع، فيأخذ شيئاً من الحرام من هنا أَو هناك، أَو من حقوق الآخرين، فيكون هذا جرماً خطيراً.

من أنواع الظلم: الظلم بالكلام؛ لأَنَّ الظلم قد يطال الإنسان في نفسه: اعتداء عليه إما بضرب أَو بسجن، أَو اعتداء عليه بجرح أَو بقتل، وقد يطال الإنسان في ممتلكاته، أَو يطال الإنسان في عرضه وكرامته وسمعته، وقد سبق المظالم العامة التي ينشأ عنها الكثير من الظلم سبق الحديث عنها: الظلم العام، الظلم بالافتراء على الله كذباً، التزييف للحقائق، المظالم الكبرى في الواقع البشري، ثم هذا على مستوى المعاملة.

لربما من أكثر أنواع الظلم انتشاراً وشيوعاً هو الظلم في الكلام، الكثير من الناس قد يتورع عن الظلم فعلاً يعني: لا يقتل، لا يجرح، لا يسجن بظلم، لا يعتدي على أحد في جسده أَو بدنه، وقد يتورع أَيْـضاً عن الظلم في المال: لا يأخذ من حق الآخرين شيئاً من أموالهم، ولكن أكثر أنواع الظلم انتشاراً وشيوعاً هو الظلم في الكلام؛ لأَنَّه سهل عند الكثير من الناس، وعملية قد لا تكون عليها مشاكل في كُـلّ لحظة، مع أنه ينتج عنها مشاكل رهيبة وكبيرة، ولها أضرار رهيبة، لكن اللسان وسيلة سهلة يتكلم بها الإنسان، والكلام لدى الإنسان كذلك -عند كثيرٍ من الناس- مسألة سهلة، فيتجرأ، ولا ينضبط، ولا يلتزم، مع ورود تحذير كبير في القرآن الكريم: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: الآية18]، كُـلّ كلمة محسوبة على الإنسان، لكن الكثير قد يتجرأ؛ ولذَلك ورد في القرآن الكريم التحذير من كُـلّ أنواع الظلم التي تأتي عن طريق الكلام.

يقولُ اللهُ -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى- في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أنفسكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئك هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات: 11-12]، ويقول الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب: الآية58].

الظلمُ بالكلام يشمل أشياءَ كثيرةً، منها السخرية في الكلام، سواءً تسخر من شخص معين، أَو تسخر من قومٍ معينين، من قبيلة معينة، من مجتمع معين، من أهل منطقة معينة، السخرية في الكلام هي ظلم، وهي إساءة، وهي من العوامل التي تفكك المجتمع، المجتمع المفترض منه والمطلوب منه: أن يكون مجتمعاً متآخياً بالأُخوَّة الإيمانية، متعاوناً على البر والتقوى، معتصماً بحبل الله جميعاً، متوحداً في موقف الحق، متحَرّكاً في إطار مسؤولياته الجماعية الكبرى: من جهادٍ في سبيل الله، من إنفاقٍ في سبيل الله، من إقامة للحق، من دفعٍ للظلم… هذا المجتمع عندما تأتي بما يفرقه، بما ينشر بينه العداوة والبغضاء، بما يفككه، وبدلاً عن الاحترام تأتي السخرية، والاستهزاء، والاستهتار، والاحتقار، وتبادل الكلمات المسيئة، هذا حرامٌ، وهذا ظلمٌ، وهذا جرمٌ، وهذا إثمٌ؛ لأَنَّ العمل بهذه الطريقة هو مما يزرع بين الناس -في نهاية المطاف- العداوة والبغضاء والكراهية.

والمطلوبُ في حالتنا الإسلامية، وفي القيم الإسلامية والتعليمات من الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-، أن يكون المجتمع متآلفاً، متآخياً، متعاوناً، متوادًّا، متحابًّا، متراحماً، متعاوناً على البر والتقوى، لا يأتي ما يفرقه، إذَا أتى ما يفرقه يضعفه، ويحول دون اجتماعه للقيام بمسؤولياته الجماعية، هناك مسؤوليات جماعية على المجتمع كمجتمع، على المؤمنين كمؤمنين، مسؤوليات جماعية: الأمر بالمعروف والنهي على المنكر مسؤولية جماعية، الجهاد في سبيل الله مسؤولية جماعية، التعاون على البر والتقوى مسؤولية جماعية، دفع الظلم والفساد مسؤولية جماعية، فالمجتمع بحاجة إلى أن تسودَه الأُلفة، والأُخوة، والمحبة، والتراحم، والتعاطف، والتعاون، والتفاهم، والسائد في التعامل فيما بين الناس والكلام فيما بينهم يكون هو الاحترام المتبادل، الاحترام المتبادل في الكلمات التي تعبر عن هذا الاحترام.

بينما السخرية هي عكس الاحترام، هي استهتار، واحتقار، واستهزاء، ولها نتائج سيئة، وهي مستفزة، إذَا وجَّه الإنسان كلماتِ السخرية إلى شخص آخر هو يستفزه، ويسيء إليه، ويظلمه، إذَا وجه كلمات السخرية والاستهزاء إلى قبيلة معينة، أَو مجتمع معين، أَو قرية معينة، هو يستفزهم، يجرح مشاعرهم، وهو يؤثر على مستوى الألفة والأخوة والتعاون، وهو يظلم.

لا تجوزُ السخرية، ولا يجوزُ الاحتقار، لا يجوز الاحتقار لأي إنسان، أي إنسان مسلم، لا يجوز الاحتقار له لا بنسبه، ولا بمنطقته، ولا بقريته، ولا بعادته في الحياة في طريقة معيشته… ولا بأي شكلٍ من الأشكال.

الاحتقارُ يوجَّهُ إلى الظالمين، إلى المجرمين، إلى الطغاة، إلى المفسدين الذين يبغون في الأرض بغير الحق، يوجه لهم الاحتقار، توجّـه إليهم الكلمات القاسية، أما إنسان في ظل المجتمع المسلم والمؤمن لا يجوز أن يوجه إليه كلمات فيها احتقار، أَو إساءة، أَو سخرية، أَو استهزاء به، هذا من الظلم، هذا من الإثم، هذا من الجرم، هذا من المعصية.

كذلك اللمز، (اللمز): الطعنُ بالكلام والتجريحُ بالكلام، غيرُ مسألة الاستهزاء والسخرية والاحتقار، اللمز: الطعن والتجريح في الإنسان عندما تهتك عِرضَه بالذم، بالتجريح فيه، بالكلام فيه، هذا محرَّم؛ لأَنَّ الواجبَ هو الاحترام، وأن يكونَ هذا الاحترام متبادلاً بين المجتمع.

التنابُزُ بالألقاب: كذلك إطلاق الألقاب السيئة والجارحة والمنقصة على شخص معين، عندما تطلق عليه لقباً معيناً تنتقصه به، هذا لا يجوز، الواجب هو الاحترام، اللازم هو الاحترام، والآية هنا تقول: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}، ثم تختم بهذا الختام المهم: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئك هُمُ الظَّالِمُونَ}، هذا هو الشاهد، هذا من الظلم.

اللمز من الظلم، السخرية من الظلم، التنابز بالألقاب من الظلم، كُـلّ هذه التجاوزات في الكلام تعتبر ظلماً، من لم يتب منها عندما تصدر منه، فيعتبر عند الله من الظالمين، حتى أن من التوبة إذَا قد وصل كلامك إلى الشخص الذي لمزته، أَو سخرت منه، أَو استهزأت به، أَو نبزته بلقب، إذَا قد وصل الكلام إليه لا بدَّ أن تسترضيه، لا بدَّ أن تطيب خاطره، وأن تسعى إلى عودة الأُلفة معه، وإلى إنصافه واحترامه، وأن تعتذر منه، لا بدَّ، وإلا بقي الذنب عليك.

فاللهُ يقول: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئك هُمُ الظَّالِمُونَ}، إذَا لم تنصف فتعتبر من الظالمين، إن لم تتب من ذلك فتعتبر من الظالمين، قضية خطيرة جِـدًّا على الإنسان، إذَا لم يكن قد وصل الكلام إليه فلا ضرورة لأن يصل، بل تب إلى الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى- واستغفر لك وله، وتب إلى الله من ذلك؛ لأَنَّك عندما تخبره قد تجرح مشاعره من جديد، إن لم يكن قد وصل إليه الكلام.

ثم يحذر من الكثير من الظن، ويأمر باجتنابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ}، الظن السيء هو الذي نحن مأمورون باجتنابه الظن السيء، عندما تظن ظناً سوءاً بأخيك المسلم، بأخيك المؤمن، قضية خطيرة جِـدًّا، من أسوأ الأشياء على الناس سوء الظن، سوء الظن يفكك العلاقات، سوء الظن يهدم كُـلّ مبنىً للأخوة، وينشر بين الناس التعامل السيء، العقد على بعضهم بعض، الكراهية، البغضاء، يضعف فيما بينهم التعاون حتى في الأعمال المهمة، حتى في أعمال الخير، حتى في أعمال الجهاد في سبيل الله، حتى في النهوض بالمسؤوليات، إذَا دخل سوء الظن أفسد بين الناس التعاون حتى على البر والتقوى، أفسد فيما بينهم صلاح ذات بينهم، يعتبر خطيراً جِـدًّا، ولهذا نهى الله عنه، وهو -في نفس الوقت- يمثِّل مشكلة كبيرة وينتج عنه الظلم، بدءاً بما أصبح في نفسك من تصور باطل تجاه شخصٍ ما، أنت بذلك التصور ظلمته، ثم تبني على ذلك معاملة، فيكثر الظلم، ويزداد الظلم إلى ظلم، ثم تضيف إلى ذلك أَيْـضاً مواقف معينة، ويترتب على هذا تأثير سيء حتى في الواقع العملي، سوء الظن من أخطر الأشياء حتى في مجال العمل في سبيل الله، سوء الظن من أخطر الأشياء، وَإذَا اعتمد الإنسان على سوء ظنه، فسيتورط في مظالم، في تصرفات سيئة، قد يصل هذا التورط إلى مستوى جرائم والعياذ بالله، قضية خطيرة جِـدًّا.

{وَلَا تَجَسَّسُوا}، التجسس كذلك مدعاةٌ للظلم، وتفكيكٌ لعرى المجتمع.

{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، الغيبة كذلك من أخطر الأشياء على تفكيك المجتمع، عندما تنتشر الغيبة في مجتمعٍ معين، وضاعت عن الناس حرمة بعضهم بعضاً، وحرمة أعراض بعضهم البعض، فيتجرأون على الكلام في بعضهم البعض، والانتقاص من بعضهم البعض، والإساءة إلى بعضهم البعض، والكلام على بعضهم البعض في غيبتهم، تغتابه، تتحدث عنه وهو غائب بما يسوؤه، بما يسيء إليه، بما ينتقص منه، هذه من المحرمات، وقدِّم لها هذا المثل: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، تأكل لحم أخيك وهو ميت، هل ستجرؤ على ذلك أن تأكل لحم أخيك وهو ميت؟ كيف سيكون منظرك بشعاً جِـدًّا، لو رآك الآخرون، وهذه الحالة حالة المغتاب وكأنه يأكل لحم أخيه ميتاً حالة خطيرة جِـدًّا، ذنب عظيم، ووزر كبير، وحالة دنيئة، من الدناءة في الإنسان، من نقص الشرف فيه أن يكون من المغتابين، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.

أيضاً من الجرائم في الكلام البُهتان: عندما تبهت إنساناً بما ليس فيه، عندما تنسب إليه ما هو بريءٌ منه، تتكلم عليه أنه فعل كذا، وأنه صنع كذا، وأنه الذي قال كذا، وأنه الذي تصرف كذا… وهو بريءٌ من ذلك، وهذا مما يكثر في هذا الزمن، خُصُوصاً مع انتشار الشائعات، وتقبّل الشائعات، على مواقع التواصل الاجتماعي أول ما تنتشر شائعة يتفاعل معها -أحياناً- الآلف من الناس، وهي شائعة على إنسان قد يكون بريئاً، قبل التثبت، قبل التبين، ينطلق الآخرون ليتكلموا فيه، ليلمزوه، ليسيئوا إليه.

في واقع الناس في المجتمع، الكثير من الناس ما إن يسمع كلاماً في أحد حتى يبادر بتصديقه، ثم يتكلم فيه، ويسيء إليه، وهذا مما لا ينبغي، مما لا يجوز، يجب التثبت، يجب التبين، حتى لو كان الذي سمعته شكوى، أَو تظلماً، أَو كلاماً مؤلماً عن شخص أنه فعل كذا، أَو شيئاً مستفزاً، يجب التبين، فتبينوا، الله يقول: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}[النساء: من الآية94]، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: من الآية6]، كم في القرآن الكريم يأمر بالتبين والتثبت، {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأنفسهِمْ خَيْرًا}[النور: الآية12]، حسن الظن يجبُ أن يكونَ هو السائد، التبين يجب أن يكونَ هو السائد، التثبت يجب أن يكون هو السائد، والقاعدة الأَسَاس التي يعتمد الناس عليها، لكن التسرع عادة سيئة جِـدًّا لدى الناس، بمُجَـرّد أن يسمعوا شائعة يتفاعلون معها، ثم هذا يقول، وهذا يكتب، وهذا يتحدث، وهذا ينشر الكلام في المجالس، وهذا في الشارع، وهذا عند من يلقاه، وهذا في مواقع التواصل الاجتماعي، ويحمِّل الناس أنفسهم وزراً وظلماً وجرماً وإثماً بغير لازم، هكذا بكل استهتار وتهاون.

التهاوُنُ في هذه الأمور من أخطر الأشياء التي تؤثر على الإنسان، والظلم حتى بهذا المستوى: الظلم في الكلام، الظلم في نشر الشائعات قبل التثبت والتبين، والإساءة إلى الآخرين فيما هم منه براء، هذا خطيرٌ على الإنسان في نفسه، في مشاعره، فيما بينه وبين الله -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى-، في إحباط أعماله، (إياكم والظلمَ فإنه يخرِّبُ قلوبَكم) في الحديث عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- (كما تُخَرَّبُ الدُّور، أَو تُخْرَبُ الدور)، مثلما تهدم بيتاً بأكمله، الظلم يفسد حتى نفسيتك، حتى قلبك، حتى مشاعرك، عندما تكون ظلوماً ولو بكلامك، ولو بشائعاتك، ولو بلمزك وهمزك، الله يقول: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة: الآية1]، الإنسان الذي اعتاد الطعنَ في أعراض الناس، والكلام في هذا، والكلام في ذاك، والإساءة إلى هذا، والإساءة إلى ذاك، ونشر شائعة عن هذا في مواقع التواصل الاجتماعي، في المجالس، في الاجتماعات، في اللقاءات، قضية خطيرة جِـدًّا، قضية خطيرة.

الإنسانُ قد يستهتر، قد لا يبالي، قد يصر، قد يستمر على ذلك، ولكن هذا يفسد عليه نفسه، يبطل أعماله الصالحة، يحمِّله الأوزار العظيمة والكبيرة، ويجعله من المساهمين في تفكيك المجتمع، في نشر الفتن، في إفساد ذات البين، ذات بين المؤمنين والمؤمنات، قضية خطيرة جِـدًّا، الواجب هو الكلمة الطيبة، الله -جلَّ شأنه- يقول في كتابه الكريم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإنسان عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: الآية53].

الكلامُ السيء، الكلمة الجارحة: كلمة السخرية، كلمة اللمز، كلمة البهتان… الكلمات الجارحة هي مدمّـرة لأُلفة المجتمع، وتنزغ الشر، تُعطِي فرصةً للشيطان ليثيرَ الفِتنةَ والكراهية بين المجتمع، ويؤثرُ عليه في النهوض بمسؤولياته وواجباته الجماعية.

لذلك يجبُ التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والتناصُحُ بترك مثل هذه العاداتِ والظواهرِ السلبية.

نكتفي بهذا المِقدارِ.

وَنَسْأَلُ اللهَ -سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى- أَنْ يوفِّقَنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وَأَنْ يَرْحَــمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..

قد يعجبك ايضا