نص المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 

أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.

اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة في سورة الأنفال، التي عرضت لنا غزوة بدرٍ الكبرى مضمِّنةً لها الدروس والعبر المهمة التي تحتاج إليها الأمة إلى آخر أيام الدنيا.

ومرَّ بنا الحديث بالأمس عن البعض ممن خرجوا مع النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- إلى تلك الغزوة وهم كارهون، ومجادلون للنبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، مع أنه قد اتضح لهم أنه خرج بالحق، وأنَّ الخروج هو الحق، وأنه في موقف الحق، البعض من الناس مهما كان الحق واضحاً وجلياً، فهذا لا يكفي في أن يدفعوا، في أن ينطلقوا، في أن يتحركوا في ذلك الموقف الحق، العوامل النفسية التي تؤثِّر على الإنسان، والمخاوف الكبيرة التي تضغط على نفسيته وعلى مشاعره، قد تجعله: إمَّا يتراجع، أو يتردد في تحركه.

وفي القرآن الكريم وفي تربية الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ما يعالج هذه الحالة، وما يعزز في نفس الإنسان روح الاستجابة لله -سبحانه وتعالى-، والرغبة في الانطلاقة في موقف الحق، الذي فيه مرضاة الله -سبحانه وتعالى-، ولكن يحتاج الإنسان إلى أن يتفاعل إيجاباً مع هذه التربية من الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، وأن يفتح قلبه لنور الحق، وأن يلتفت إلى القرآن الكريم التفاتةً واعية، بتقبلٍ وتفهمٍ واستفادةٍ تعالج في واقعه النفسي مثل هذا الخلل.

يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}[الأنفال: الآية9].

تاريخياً: عند الوصول إلى وادي بدر، المنطقة فيها وادٍ، منطقة بدر هذه، ووصل المسلمون مساءاً إلى الضفة الأقرب إلى جهة المدينة، الناحية من الوادي والضفة من الوادي التي إلى جهة المدينة المنورة، وصلوا مساءاً واستقروا، كان قد سبقهم الأعداء، وهم في الضفة الأخرى في الناحية الأخرى على حافة الوادي، وقد سيطروا على آبار المياه الموجودة في الوادي وبالقرب منه، وهم معسكرون في تلك الجهة، وصل المسلمون مساءاً واستقروا وعسكروا في حافة الوادي الأقرب إلى المدينة، وبقوا ليلتهم تلك استعداداً للمعركة في النهار، في نهار تلك الليلة، في صبيحة تلك الليلة، عندما وصلوا واستقروا وعسكروا في تلك الجهة في حافة الوادي الأخرى، كانوا يعيشون الوضع النفسي القلق تجاه المعركة المقبلة، ولكنهم توجَّهوا إلى الله -سبحانه وتعالى-، والتجأوا إليه، واستغاثوه، وطلبوا منه النصر، وطلبوا منه المعونة والتثبيت، وهذه هي الحالة الإيجابية الصحيحة، هي تربية القرآن، وهي تربية الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، التي نتعلم فيها أن نلتجئ دائماً إلى الله -سبحانه وتعالى-، فالتجأوا إلى الله بالاستغاثة، وطلب النصر منه -سبحانه وتعالى-، وهم يرجون منه النصر، هو ربهم، هو رب العالمين، هو الرحيم، هو العظيم، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، عندما استغاثوا الله -سبحانه وتعالى-، عندما التجأوا إليه، عندما طلبوا منه النصر استجاب لهم، فقال -جلَّ شأنه-: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، استجاب لهم -جلَّ شأنه- بهذا المدد من ملائكته، الذين وصلوا كتعزيزات؛ ليقوموا بدورٍ مهمٍ في تلك المعركة.

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: الآية10]، الله -سبحانه وتعالى- جعل هذا المدد والذي وصل إلى المسلمين والمجاهدين في تلك الغزوة خبره عن طريق الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، جعل الله هذا المدد بشارةً لهم بالنصر، وطمأنةً لقلوبهم، وإشعاراً لهم بأنهم ليسوا لوحدهم في ميدان المعركة، أنَّ الله معهم، وأنه قد أمدَّهم بملائكته، وأنها قد وصلتهم هذه التعزيزات التي هي بعدد يفوق عددهم أضعافاً مضاعفة، عدد المسلمين كان لا يزيد على ثلاثمائة شخص إلَّا عدداً قليلاً، تختلف الروايات عن: ثلاثة عشر، سبعة عشر… أو كم كان هذه الزيادة كم كانت، فكان لهذا تأثير معنوي إيجابي كبير في نفوسهم يساعدهم على الاطمئنان.

وعندما نعود إلى الدروس المستفادة من هاتين الآيتين المباركتين، نجد أنَّ من أهم لوازم المعركة ولوازم الصراع عموماً في المعركة، وما قبل المعركة، وفي كل ميدان من ميادين الصراع: الالتجاء الدائم إلى الله -سبحانه وتعالى-، لا بدَّ من هذا: من الالتجاء إلى الله -سبحانه وتعالى-، أولاً: من واقع الشعور بالضعف والحاجة إلى الله -سبحانه وتعالى-، والإنسان بحاجة دائمة إلى الله -سبحانه وتعالى-، والأمة بحاجة إلى أن تلتجئ إلى الله ليمدها بنصره، بمعونته، بألطافه، بتأييده، ليرعاها برعايته، وعندما يعيش الناس هذه الثقة بالله، وهذا الأمل، وهذا الرجاء، فهذا يساعدهم للتحرك في ميدان الصراع والنزول إلى ميدان المعركة بمعنويات عالية، بطمأنينة، بثبات، بأنهم ليسوا في واقعهم سيخوضون هذا الصراع فقط بمستوى ما يمتلكونه من إمكانيات، إنما أيضاً بما يأمِّلونه ويرجونه من معونة الله، من تأييد الله -سبحانه وتعالى-، وعندما لا تبقى الحسابات ضيِّقة والتقديرات محدودة، أننا نواجه بهذا العدد، بهذه الإمكانات فقط، بل تعدى ذلك: هذا الأمل، وهذا الرجاء المفتوح في فضل الله، في تأييده، في معونته، في نصره، والاعتداد بمعيته، أنه -جلَّ شأنه- معنا إن صبرنا، إن ثبتنا على الموقف الحق، إن بذلنا ما بوسعنا، وأدينا ما علينا، فأنه -جلَّ شأنه- معنا ينصرنا، يعيننا، يؤيدنا، فهذا له أهميته، وفي نفس الوقت له نتيجته، الله -جلَّ شأنه- يقول هنا: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، عندما نكون في موقف الحق، عندما نتحرك في مسؤولياتنا وواجباتنا في هذا الموقف الحق، ونلتجئ إلى الله -سبحانه وتعالى-، ونرجوه، ونأمل فضله ونصره وعونه، هو -جلَّ شأنه- الكريم العظيم، وهو الذي قدَّم الوعود المؤكَّدة في كتابه، ولا يمكن أن يخلف وعده، فهو يتدخل، هو يستجيب، هو يأتي بمدده، تأتي منه الرعاية الواسعة المتنوعة، يأتي منه التدخل الواسع الذي يغيِّر به الكثير والكثير من الأمور، ويصنع به الكثير والكثير من المتغيرات التي تساعد على الانتصار في المعركة، التي تدفع عن عباده المؤمنين الذين استجابوا له، وتحرَّكوا على ضوء توجيهاته وتعليماته، وتمسَّكوا بالحق، وثبتوا على موقف الحق، تأتي منه الرعاية الواسعة التي تمثل دعماً لهم، وتساعدهم في الواقع، وتصنع لهم الكثير من المتغيرات التي تساهم في انتصارهم وفي ثباتهم.

وهنا قدَّم المسألة موجَّهةً إلى المؤمنين، لو بقي الحديث هنا كله موجهاً إلى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، إلى نبي الله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله-، لقال البعض: [هذا أمرٌ يخص النبي]، لكن يأتي الحديث هنا موجهاً إلى المؤمنين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، ويأتي الحديث أيضاً بالتوصيفات التي تعبِّر عن طبيعة الانتماء، وعن طبيعة السلوك، وعن طبيعة الموقف، سواءً في اتجاه المؤمنين باعتبار انطلاقتهم الإيمانية وموقفهم الحق، الحق عنوان، والإيمان عنوان، وفي المقابل هناك الإجرام والمجرمون عنوان آخر، الكفر والكافرون عنوان آخر، النفاق والمنافقون عنوان آخر، وهذه العناوين هي التي تجري وتأتي على مصاديقها في واقع الناس عبر الزمن.

الله -سبحانه وتعالى- يؤكِّد على نقطةٍ مهمةٍ هنا: أنه جعل هذا المدد من ملائكته بشارةً، طبعاً البشارات في القرآن الكريم كثيرة، منها آيات الله -سبحانه وتعالى-، ومعنى ذلك: أنَّ الله يهيئ أيضاً بشارات في الواقع، ومؤشرات تعزز الأمل بالنصر، ويحصل في واقع الناس الكثير من هذا عندما يتحركون في موقف الحق، يلحظون في الواقع نفسه مؤشرات وبشائر يؤملون من خلالها النصر، وتقدِّم لهم البشرى بأنَّ النصر الكبير آتٍ.

{وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}؛ لأن اطمئنان القلوب والعامل المعنوي هو من أهم العوامل الرئيسية في تحقيق الانتصار، وفي الثبات قبل ذلك، اطمئنان القلوب مسألة مهمة جدًّا، لها تأثيرها الكبير على مستوى الثبات من جانب، وعلى مستوى الأداء العملي في الميدان من جانبٍ آخر.

الإنسان إذا عاش حالة الارتباك، واستبد به القلق، وسيطرت على ذهنيته ونفسيته المخاوف؛ يسوء أداؤه، تكثر أخطاؤه، لا تتفرغ ذهنيته، ولا يسلم تفكيره نحو المواقف الصحيحة، والأداء الصحيح، والتصرفات الصحيحة، فذهنه مشوش، ونفسيته مضطربة، ومشاعره مضغوطة، في جوٍ كهذا تتأثر قراراته سلباً، وتتأثر تصرفاته سلباً، ويتأثر سلباً في تعامله مع المواقف والمجريات والأحداث، فتكون النتيجة في نهاية المطاف هي الهزيمة، مع الارتباك تصدر قرارات خاطئة، تصرفات خاطئة، تعاملٌ خاطئٌ مع بعض المواقف والظروف.

لكن عندما يعيش الإنسان حالة الاطمئنان في قلبه ومشاعره، ويعيش حالة الشعور بمعية الله، أنَّ الله معه، وأنه مع الله، وأنه في موقف الحق؛ سيكون أسلم في تفكيره، وأقدر وأنجح في تصرفاته، وأدق في كيفية تعامله مع المواقف والمستجدات التي تأتي في ثنايا الأحداث، وفي واقع الميدان والمعركة، فاطمئنان القلب مسألة مهمة جدًّا، ويأتي من الله -سبحانه وتعالى- الدعم المعنوي الذي يساعد على هذا.

ثم يؤكِّد على حقيقةٍ مهمةٍ جدًّا، يقول -جلَّ شأنه-: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، النصر هو من عند الله فقط، لا يمكن أن تراهن على التعزيزات، ولا على الإمكانات، ولا على القدرات… ولا على أيِّ شيءٍ آخر، هي كلها وسائل، هي مهمة كوسائل، وعليك أن تعدَّ فيها ما تستطيع، وأن تقدِّم فيها الممكن والمتاح، لكن لا تراهن عليها هي، لا تعلِّق عليها أملك، لا توجِّه إليها رجاءك. ليكن أملك بالله، رجاؤك في الله، توكلك على الله، اعتمادك على الله، التجاؤك إلى الله؛ لأن البعض من الناس عندما تصل إليهم مثلاً تعزيزات، أو تصل إلى أيديهم وسائل معينة تساعد في الموقف العسكري: أنواع معينة من السلاح، إمكانات معينة، قدرات معينة، قد يطمئنون إليها بأنها هي ستساعدهم على حسم المعركة وكسبها، فيقِل التجاؤهم إلى الله، ويضعف شعورهم بالاعتماد والالتجاء إلى الله -سبحانه وتعالى-، برهانهم على كثرة عدد، أو على توفير عدة، وتحصيل إمكانات، وتوفر قدرات، ضعف اعتمادهم على الله، وكبر اعتمادهم على تلك الإمكانات، أو تلك التعزيزات، أو تلك القدرات، أو تلك الخطط… أياً كانت، فأثَّر عليهم سلباً، فتكون النتيجة هي أن يخسروا المعركة، أن يتراجعوا وأن يفشلوا في تلك المهمة العسكرية، فلا بدَّ من أن يكون الالتجاء في كل الأحوال:

في الوقت الذي أنت تشعر فيه بقلة العدد، بقلة العدة، بضعف الإمكانات، بالظرف الصعب والحسَّاس، بكبر التحديات، في هذه الحالة تلتجئ إلى الله، وتعتد بمعيته، وتأمِّل فضله، وترجو نصره، وتبقى في حالة استغاثة ودعاء وعمل.

أو في الحالة التي توفرت لك فيها التعزيزات، وتوفرت لك فيها إمكانات وقدرات، وأعددت فيها الترتيبات التي تعتبرها ترتيبات عملية ناجحة، في هذه الحالة أيضاً لا بدَّ أن تبقى في حالة التجاء إلى الله، شعور بالافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى-، شعور بالعجز، أنك لا شيء من دون الله، والقوة بالله -سبحانه وتعالى- وبتأييده وبنصره، فلا غرور عند توفر التعزيزات والإمكانات والقدرات، وعند استتمام واستكمال الترتيبات التي تعتبر ترتيبات يعوَّل عليها في النجاح، ولا انهيار أمام المخاوف، أمام الظروف الصعبة والمعاناة، أمام التحديات الضاغطة.

{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، فالنصر بيده -سبحانه وتعالى-، وهو -جلَّ شأنه- الذي يتخذ القرار بالنصر ويمد بالنصر، حتى ملائكته لا تمتلك ذلك من دونه أبداً، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ومن عزته ومن حكمته أن ينصر عباده المؤمنين الذين هم في موقف الحق إذا استجابوا له، وأدوا ما عليهم، والتزموا بتوجيهاته، وأخذوا بأسباب النصر، فمن عزته أن ينصرهم، ومن حكمته أن ينصرهم.

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}[الأنفال: الآية11].

تاريخياً: وصل المسلمون مساءاً إلى منطقة بدر، وعسكروا في حافة الوادي الأقرب إلى المدينة، وفي مساء تلك الليلة أمسوا هناك، وكانوا بحاجة إلى أن يشعروا بالاطمئنان، وأن يأخذوا قسطاً من الراحة؛ ليستعدوا للمعركة في اليوم الثاني، فالله -سبحانه وتعالى- منحهم من السكينة ومن الاطمئنان ما ساعدهم على أن يحظوا بهذه الراحة المطلوبة، والتي توفرت لهم عن طريق النعاس الذي أمدَّهم الله به، وغشاهم به، عندما كان يغشيهم النعاس، كان يصحبه الشعور بالاطمئنان، بالأمن، فكانت عملية طمأنة إضافية تساعد على الراحة النفسية، والاطمئنان القلبي، وعلى اطمئنان النفس الذي يساعد على التهدئة من التوتر والاضطراب والقلق، وتهدئة الأعصاب، فهم استفادوا من هذا النعاس الذي كان يأتي كنعاس {أَمَنَةً}، يشعرون معه بالاطمئنان وبالأمن، النعاس: هو النوم الخفيف المتقطع؛ لأنهم في تلك الحالة لا يناسب أن يمنحهم الله نوماً كاملاً، وأن يغطوا في النوم ويخلدوا إلى النوم بشكلٍ كامل إلى الصباح، الميدان ميدان معركة، لا بدَّ فيه من الانتباه، ولا يناسب أيضاً أن يكونوا في تلك الليلة في حالة توتر شديد، ولا يحظوا بأي شيءٍ ولو بمقدارٍ بسيطٍ من النوم، وأن يبقوا مبحلقين ومستيقظين وفي حالة قلق وتوتر طوال الليل، فيذهبون إلى المعركة في اليوم الثاني ولا زالت أعصابهم متعبة نتيجة توترهم طوال تلك الليلة، فأتاهم النعاس من الله -سبحانه وتعالى-، الذي كان معه الشعور بالأمنة والاطمئنان، هذا من الدعم الإلهي، دعم خاص ومتميز، لا يمكن أن يحصل الإنسان عليه من أي طرفٍ آخر.

{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، والنعمة الأخرى التي أمدهم الله بها، ومثَّلت أيضاً جزءاً من هذا الإمداد، من هذه الرعاية، من هذه المعونة المتتابعة: نزل الملائكة، تغشية النعاس أمنة، أيضاً إنزال المطر، إنزال الغيث، نزَّل الله عليهم من السماء ماءً، وهذا الماء كانوا في أمسِّ الحاجة إليه؛ لأن الأعداء كانوا قد سبقوهم إلى آبار المياه، وكان لهذا الماء فوائد متعددة:

{لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، يستفيدون منه للطهارة، الطهارة للصلاة وللاغتسال وللنظافة، ولما يستفيدون به من الاغتسال بذلك المطر بذلك الماء من راحة الجسم، من حيويته، من انتعاشه بالاغتسال، فهذه الطهارة للصلاة، وهذه الحيوية والانتعاش التي تحصل بالاغتسال، وهذه النظافة لها فائدة مناسبة ومطلوبة وصحية.

{وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، رجز الشيطان: وساوسه القذرة؛ لأن الشيطان قد استغل حالة انعدام الماء، وسيطرة العدو على الماء؛ ليوسوس ويزرع المخاوف والهواجس: [أنكم قد تموتون عطشاً، من أين ستحصلون على الماء؟ قد سيطر العدو على الماء، كيف سيتوفر لكم الماء؟]، فهو يلعب من خلال هذه المشكلة ويستغلها، وهو يستغل- الشيطان- أي مشكلة أو أي ظروف؛ ليحاول التأثير من خلالها، فهو يحاول أن يستغل انعدام الماء وسيطرة العدو عليه؛ لإثارة الهواجس والخوف والقلق تجاه ذلك، فعندما أتى غيث الله، أتى الماء من السماء، ونزل الغيث، توفر الماء بشكلٍ كبير، واستفادوا منه، وعملوا الحياض التي احتوته؛ ليستفيدوا منه أيضاً في اليوم الثاني، وتوفر لهم ما يكفيهم من الماء، واحتلت هذه المشكلة.

والفائدة الأخرى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، وسيلةً أيضاً مع إذهاب وساوس الشيطان وسيلة للربط على القلوب، وفي المعركة يحتاج الإنسان وفي ميدان الصراع يحتاج إلى الربط على قلبه؛ لتبقى، ليبقى متماسكاً، ليبقى كذلك ثابتاً ورابط الجأش؛ حتى لا يعيش حالة الاضطراب والقلق في قلبه التي تؤثر عليه.

{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}، فهذا الشد على القلب، وهذا الربط على القلب يساعد على بقاء التماسك والروح المعنوية العالية، والتي لها أهمية كبيرة جدًّا في المعركة، ويثبت به الأقدام، في ميدان المعركة، الميدان الذي سيلتقي فيه الجمعان في بدر كان منطقةً رملية، وكان القتال فيها صعباً؛ لأن المشاة، سواءً المشاة أولاً ثم الفرسان، لكن بالنسبة للمسلمين كانوا- تقريباً- بكلهم مشاة، ما عدا فرس واحد كان معهم فسيصعب عليهم القتال في منطقة رملية تنزل فيها أرجلهم، ويصعب عليهم التحرك الذي يستلزمهم القتال؛ لأن للقتال حركته المناسبة.

فالله -سبحانه وتعالى- من خلال ذلك المطر قدَّم هذه المساعدة الكبيرة التي تغير الوضع في ميدان المعركة نفسه، نفس هذا الميدان يتحول إلى مكان متماسك، مكان ثابت، مكان صُلب؛ نتيجةً للمطر، هذه كانت نعمةً كبيرة، فهيأ الله لهم حتى ميدان المعركة، ووفر لهم كل الظروف المساعدة على الانتصار، وحل لهم المشكلات التي تمثِّل ثغرةً عليهم يستغلها حتى الشيطان في وساوسه، ولها تأثيرات في الواقع لو لم يتوفر الماء وعانوا من العطش، كان هذا سيجهدهم حتى بدنياً، فكيف كانت هذه الرعاية الإلهية؟ كيف كانت الاستجابة من الله لمَّا استغاثوه وتوفر من خلالها هذا المدد المتنوع والمتعدد؟.

هذا فيه درسٌ مهمٌ لنا: أن الله -سبحانه وتعالى- يتدخل ويمنُّ برعاية واسعة، ويهيئ الكثير من الظروف والعوامل التي تساعد على الانتصار، والتي توفر من خلالها الظروف المساعدة للإنسان في موقفه.

يقول الله -جلَّ شأنه-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}[الأنفال: الآية12]، بدأت المعركة، تاريخياً بدأت المعركة، والله -سبحانه وتعالى- يواكب هذه المعركة لحظةً بلحظة، وتبقى رعايته المستمرة مواكبةً لمجريات المعركة بشكلٍ مستمر، فأوحى الله -سبحانه وتعالى- وقد بدأت المعركة إلى الملائكة: {أَنِّي مَعَكُمْ} وهو يواكب المعركة -جل شأنه-، {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فالوظيفة الرئيسية والمهمة الأساسية للملائكة كانت هي: التثبيت للذين آمنوا في هذه المعركة، التثبيت للذين آمنوا عن طريق تعزيز الروح المعنوية، وحتى لو لم يشعروا أو يشعر الكثير منهم أو يدركوا أو يروا الملائكة، فحضور الملائكة بين أوساطهم، والطرق التي يمتلكها الملائكة، والتي يمكنهم الله من خلالها بالتأثير الإيجابي على المستوى النفسي والمعنوي على الإنسان سيكون لها الأثر الذي يساعد الإنسان على الثبات، فالملائكة لها وسائلها وطرقها التي يمكنها من خلالها أن تؤدي هذا الدور: أن تساعد على رفع الروح المعنوية للإنسان، حتى لو لم يرَ الملك إلى جانبه، أو لو لم ير الملائكة إلى جانبه، لكن لهم طريقتهم التي تمكنهم من رفع روحه المعنوية، من الاطمئنان، من الإحساس بأنه ليس وحده في المعركة، من العوامل التي تساعده، تمده بالنشاط أكثر، بالحيوية أكثر، بالقوة أكثر، وقد تأتي مساعدات في ظل ظروف المعركة والحركة القتالية تساعد الإنسان في بعض حركاته، في بعض أدائه، تساعده بشكل أو بآخر، الله أعلم كيف تفاصيل هذه المسألة، لكنها تثمر هذه النتيجة المهمة، وهي: التثبيت للذين آمنوا، والثبات هو المطلوب؛ لأن في الميدان حتى نصل إلى النصر لا بدَّ من الثبات أولاً، لا بدَّ من الثبات، فمع الثبات والالتجاء إلى الله يأتي النصر من الله -سبحانه وتعالى-، {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}.

{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، وهذا الدعم الكبير العظيم الذي يأتي عندما يثبت الذين آمنوا، عندما يؤدون واجبهم، يتحركون في مسؤولياتهم، يأتي مع ذلك هذا الدعم والمعونة من الله -سبحانه وتعالى- بإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وهذه الحاسمة، هذه الضربة الحاسمة التي يأتي بها النصر.

الله -سبحانه وتعالى- يربط على قلوب المؤمنين في موقفهم الحق عندما يثبتون، وفي نفس الوقت يلقي الرعب في قلوب أعدائهم، وعندما يلقي الرعب لا يتماسكون، لا يثبتون، ينهزمون فوراً، تنهار معنوياتهم ويفشلون، فتصبح هزيمتهم حتمية، وهذا يأتي على ضوء هذه الخطوات العملية: الانطلاقة في موقف الحق، الأخذ بأسباب النصر، الاستغاثة والالتجاء إلى الله -سبحانه وتعالى-، الثبات. تأتي هذه الرعاية والتي في نهايتها يلقي الله الرعب في قلوب الأعداء، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي يملك القلوب ويسيطر عليها، ويسيطر على أزِمّة النفوس، وهو الذي يستطيع أن يلقي الرعب إلى قلوبهم، وكأنها قذائف تصل إلى قلوبهم، فيشعرون بالرعب والخوف والفزع الشديد، فلا يتماسكون، ولا يستطيعون الثبات، وينهزمون، وهذا من أهم ما يقدمه الله -سبحانه وتعالى- من دعم وإسناد وتأييد لعباده المؤمنين في موقفهم الحق، ومهما كانت إمكانات الأعداء، إذا ألقي الرعب في قلوبهم لا يستطيعون الثبات، وتصبح نتيجتهم حتمية، مهما امتلكوا من السلاح، مهما امتلكوا من العدة والعدد، من الإمكانات والقدرات، من الخبرات والمهارات، كلها تضيع إذا ألقى الله في قلوبهم الرعب كل تلك الإمكانات والخبرات تتلاشى في تأثيرها، وفي تمكينهم من الثبات بها.

{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، هذا توجيه للمؤمنين أن يضربوا ضربات مُنَكِّلة بالعدو؛ لأنها أيضاً من العوامل المهمة التي تساعد على تحقيق النصر، وطبعاً لو لم يكن في زمن السيوف، الضربات مطلوبة في ميدان المعركة التي تترك تأثيرها على العدو، يعني: في مقابل: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، هناك ضربات أيضاً تؤثر بشكل كبير على العدو، ضربات حساسة، ضربات استراتيجية، ضربات منكلة، ضربات موجعة للعدو تعزز الهزيمة، وتساعد على التنكيل به، وكذلك: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يقابلها الضربات التي تترك تأثيراً منكلاً بالعدو، وتؤثر عليه فلا يستطيع الاستمرار في المعركة، فمع الثبات، ليس مجرد ثبات وجلسة، لا، ثبات بتوجيه ضربات قوية لاستهداف العدو، وللتنكيل بالعدو، وضربات نوعية أيضاً، وضربات استراتيجية تساعد على التنكيل بالعدو، وهذه من الدروس المهمة في هذه الآية المباركة.

ولماذا كل هذا؟ لماذا يقف الله مع بعض عباده ضد بعض؟ أليسوا بكلهم من عبيده وخلقه؟ يقول الله -جلَّ شأنه-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}[الأنفال: 13-14]، لا يمكن أن يقف الله مع بعضٍ من عبيده ضد بعض لاعتبارات تخرج عن إطار الحق، لا لمنطقتهم، ولا لأي اعتبارٍ آخر، ولا لاسم، ولا لعنوان… ولا لأي شيء آخر مما لا يرتبط بالحق، هو -جلَّ شأنه- يقول هنا: {ذَلِكَ} يعني: السبب في أن يكون سخط الله عليهم إلى هذا المستوى، وأن يمنح عباده المؤمنين هذا النصر والتأييد، وأن يقدم لهم هذه التوجيهات بضربهم على هذا النحو، وأن يمكنهم منهم، وأن يلقي في قلوبهم الرعب، السبب في ذلك بكله: {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.

كيف تكون مشاققاً لله؟ وما هي المشاققة هذه، المشاقَّة لله ولرسوله؟ عندما تقف في موقف الباطل ضد الحق، عندما تحارب الحق، عندما تخدم الباطل فأنت في مشاقَّة لله، عندما تقف مع الظالمين ضد المظلومين، عندما تقف مع المبطلين ضد أهل الحق، عندما يسعى العدو إلى محاربة من يريدون أن يبنوا أنفسهم وواقعهم على أساس منهج الله وتعليماته، عندما تكون المعركة من هذا النوع يأتي هذا التدخل الإلهي مع الأخذ بالأسباب، ومنها الأسباب المذكورة.

{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، العقوبة من الله عقوبة شديدة، وهي التي ينبغي الخوف منها، في هذا درس مهم جدًّا للمؤمنين أولاً: أن يفهموا أن الله يقف معهم لموقف الحق، فلا ينحرفوا عن موقف الحق، وعليهم أن يحذروا ألَّا يشاقَّوا الله، عليهم أن يطيعوا الله، أن يلتزموا بمنهج الله، أن يسيروا وفق توجيهاته وتعليماته، ثم ليطمئنوا أن الآخرين الذين يحاربونهم لما هم عليه من الحق، ولتمسكهم بهذا الحق هم في الموقف الخطير الذي يشاقّون فيه الله ورسوله؛ وبالتالي هم محط سخط الله وغضب الله وعذاب الله وانتقام الله وعقوبة الله، فهم في الموقف الخطر، ونقاط ضعفهم كبيرة وخطيرة، وهذا درسٌ مهم. {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}، عقوبة عاجلة في الدنيا؛ أما في الآخرة فالنار وهي أشد.

ثم تأتي التعليمات المهمة من الله -سبحانه وتعالى- على ضوء هذه الأحداث المهمة، كما هي عادة القرآن الكريم، وكما هي الطريقة في هداية الله -سبحانه وتعالى- لعبادة، يقدم الحدث ومعه الكثير من الهداية، الكثير من الدروس، والكثير من العبر.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الأنفال: 15-16]، لا بدَّ من التحرك للقاء العدو، عندما يأتي العدو، عندما يزحف العدو، عندما يتحرك العدو عسكرياً لا بدَّ من لقائه، لا بدَّ من التصدي له، وهذا التصدي يجب أن يكون بفاعلية، بثبات، بتوكل على الله سبحانه وتعالى-، في القرآن الكريم وفي تربية الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ما يساعد الإنسان أن يتحرك بفاعلية عالية، بمعنويات كبيرة، بثبات، باستبسال، بصمود، فعندما يتم لقاء العدو والتصدي لزحفه، والتصدي لهجومه، والتصدي لعملياته العسكرية يجب أن يكون بثبات واستبسال وصمود، ولا يجوز أن يهرب الإنسان، لا يجوز للذين آمنوا أن ينهزموا، هذه تعتبر جريمة كبيرة جدًّا.

{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ينهزم ويهرب، {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، المنهزم الهارب من المعركة يغضب الله عليه غضباً شديداً، الله عزيز ولا يرضى لعباده الذين آمنوا في موقف الحق أن يكونوا انهزاميين، وأن يكونوا جبناء وأن يفروا، وأن يكون تحركهم في سبيل الله وفي موقف الحق تحركاً بضعفٍ نفسي وفشل (انهيار وتراجع وذلة) |لا| الله هو القوي العزيز، ويريد لأوليائه ولعباده المؤمنين في موقف الحق أن يتحركوا بقوة وثبات واستبسال، وقدَّم لهم في هديه ما يساعدهم على ذلك، ويمدهم في الميدان إذا أخذوا بأسباب النصر والتزموا بموقف الحق بكل ما يساعدهم على ذلك، ويمكنهم من ذلك، ويوفقهم لذلك، فإذا انهزموا فتعتبر جريمةً كبيرةً جدًّا عقوبتها النار، من يهرب فهو هرب وهو متحمل لهذا الوزر الرهيب جدًّا، فقد باء بغضبٍ من الله، هرب وهو يتحمل هذا الغضب من الله -سبحانه وتعالى-، يغضب الله عليه غضباً شديداً، ويكتب له عقوبته جهنم، فتكون مأواه، فهو كما لو هرب من المعركة إلى جهنم، نعوذ بالله، {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ}.

وطبعاً الغضب من الله يترتب عليه عقوبات في الدنيا، عقوبات متنوعة، قد يكون منها: أن يخذل الإنسان، أن يسلب التوفيق، أن يسلب من الله المعونة النفسية، فيعيش دائم الخوف والهواجس والقلق والاضطراب، أن تضرب عليه الذلة والمسكنة… أشياء كثيرة يمكن أن يعاقبه الله بها، ومأواه في الآخرة: {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، مأواه الذي يأوي إليه وكأنه هرب إليه والتجأ إليه {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، أسوأ مصير يصير الإنسان إليه، بهذا درس مهم وكبير جدًّا، هذا الغضب من الله، وهذا الوعيد بجهنم من الله هو لمن هو مؤمن، يعني: من الذين آمنوا، ينتسب للإيمان، وقد تحرك مجاهداً، وقد نزل إلى ميدان المعركة، لكنه انهزم، فكيف بالذي يعارض الجهاد أصلاً؟! كيف بالذي يثبط عن التصدي لأعداء الله، وهم في عملياتهم الهجومية التي يسعون فيها للسيطرة على الأمة؟! كيف بمن يعمل لخدمة أعداء الأمة؟! كيف بمن يقاتل في صف أعداء الأمة؟! هو في وضع خطير، كيف غضب الله عليه!.

عندما نتأمل في هذه الآية المباركة، وهذا الوعيد شمل حتى المعاصرين للنبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، بل أنهم أول من خاطبهم الله بهذا، الصحابة الذين في عصره أول من خاطبهم الله بهذا، وتوعدهم بهذا، ثم يتلوهم بقية الأمة، بقية الذين آمنوا إلى آخر أيام الدنيا، لا يجوز أبداً أن يتحرك المؤمنون في موقف الحق بنفسية مهزوزة، بمعنويات ضعيفة بتردد، بتذبذب، لا بدَّ أن تكون الانطلاقة أصلاً انطلاقة جادة، انطلاقة قوية، يحصل الإنسان على هذا من خلال الإيمان، الإيمان الذي يساعدك وأنت تنطلق، ويساعدك في الميدان وأنت تلتجئ إلى الله، فيمدك بالسكينة، فيربط على قلبك، هذا أمرٌ مهمٌ جدًّا.

الهزيمة مسألة خطيرة جدًّا؛ لأنها تمكِّن العدو، تقدم صورة مشوهة عن الدين، عن الإسلام، عن الحق، وفي نفس الوقت تساعد العدو، الهزيمة تمثل عاملاً مساعداً ومساهمةً تساعد العدو على التمكن من السيطرة على الأمة، وتساعد أيضاً العدو في أن يرتكب الجرائم بحق الناس، تساعد العدو عندما يتمكن أن يمارس ما يمارسه من: ظلم، وفساد، ومنكر، وباطل… فالهزيمة دعم ومساهمة لصالح الباطل، المنهزمون هم ليسوا فقط ارتكبوا جرماً في حدود فعلتهم التي شوهوا بها الدين وشوهوا بها الحق، ولكنهم قدموا أيضاً مساهمة دعموا بها الأعداء، فكأنهم مكنوا الأعداء، وكأنهم أعانوهم، وكأنهم ساهموا معهم ومكنوهم، فهي خطيرة جدًّا، عقوبتها غضب من الله -سبحانه وتعالى- في الدنيا يترتب عليه الكثير من الأشياء، ثم المأوى جهنم وبئس المصير، والعياذ بالله.

كما قلنا المسألة خطيرة جدًّا، والاستثناء فيها لحالتين: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ}، عندما تكون حركته القتالية فيها كر وفر، أو فيها انتقال من مكان إلى آخر ضمن تكتيك عسكري، واستراتيجية عسكرية، وخطة عسكرية يتحرك على ضوئها، فما كان ضمن الحركة القتالية والأداء القتالي، ليس للهروب، ليس للعزوف عن المواصلة في القتال، فهذا له استثناؤه.

وما كان أيضاً تحيزاً إلى فئة، عندما مثلاً: يستشهد رفاقك في المعركة، وبقيت أنت تريد أن تنتقل إلى فئة أخرى من المؤمنين لتواصل مشوارك معهم، أو كذلك في إطار جبهة معينة، أو موقع معين لم يبق إلا البعض الذين لم يصبح لوجودهم في ذلك الميدان، أو في ذلك الجهة أي تأثير في صد العدو، فأرادوا أن ينتقلوا إلى جانب اخوتهم المؤمنين؛ ليواصلوا مشوارهم، فهذا له استثناؤه: ما كان تحرفاً للقتال، ما كان تحيزاً إلى فئة.

أما الهزيمة، أما الهروب، أما العزوف عن القتال فهو من أكبر الكبائر، ومن أعظم الذنوب التي تسبب لغضب الله، والعقوبة عليها جهنم وبئس المصير، وهذا ما يجب أن يستحضره الإنسان وهو في ميدان المعركة؛ ليثبت، ليستعين بالله، ليحذر حتى لا يتورط في مثل ذنبٍ كهذا.

نكتفي بهذا المقدار…

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

قد يعجبك ايضا