“ذو الفقار”: مدرسة إبداع منذ الطلقة الأولى إلى تأسيس جيش المقاومة

/ صحافة / العهد 

قيل القليل من كثير عن مصطفى بدر الدين، أو السيد “ذو الفقار” كما كان يحب أن يُنادى. ولكن مهما قيل أو كُتب يبقى هذا الرجل كتاباً يحوي فصولاً ممتدّة ومسارات موصولة، لا تقف عند سنينه التي قضاها منذ نشأته وفي مسيرته الجهادية وإنجازاته العسكرية والأمنية، بل تفتح على مجالات علم وسياقات فكر وعلى تنوّر تميّز به منذ نعومة أظفاره. فهو لم يكن يوماً يركن إلى قناعة مستقرّة، أو يعتمد على خلاصات جامدة، فتراه في إنجاز كل خطوة يعكف على اجتراح بدايات جديدة يرى فيها انطلاقة لمسار جديد، حتى يخال من حوله أنه يتحدّث بلغات أخرى ويقرأ في قواميس مختلفة، وهو المعروف بنهمه للقراءة والتحصيل العلمي، على الرغم من انشغالاته التي لا تنتهي، فاستحق بذلك لقب “رجل المفاجآت”.

لبّ الحكاية

مصطفى الذي ترعرع في أحياء الضاحية الجنوبية، لم ينطلق فقط من معاناة الواقع، كما معظم رجالات الثورة والقادة الأمميين، بل كان ينظر إلى أفق يتجاوز حدّ ردّ الفعل باتجاه المبادرة والفعل، فلم تكن حدود ساحته في الرؤية والعمل مقتصرة على لبنان فحسب، بل كان يرمي بنظره إلى أقصى القوم حيث فلسطين والمسجد الأقصى تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، وإلى شمولية الهدف المرتكزة على محورية المشروع الأكبر في سياق المواجهة الأوسع مع قوى الاستكبار، وهنا لبّ الحكاية.

في زمن ذروة الاعتداءات والاجتياحات الإسرائيلية لجنوب لبنان، تلقّى السيد ذو الفقار تدريبه العسكري الأول في مخيّم تابع لحركة فتح في الجنوب مع رفيق دربه الجهادي القائد الشهيد الحاج عماد مغنية، فاتّجه سريعاً إلى تثمير ما تلقّاه وتطويره بأسلوبه الخاص، فبادر إلى إجراء دورة عسكرية لمجموعة من الشباب في ملعب إحدى مدارس الضاحية، ليشكّل النواة الأولى لحركة جهادية أخذت آنذاك مسمّيات عديدة من “لجان العمل” إلى “تجمّع الشباب المؤمن” وغيرها من التسميات التي وسمت تلك المرحلة بسمة الثورة، وكانت أولى محطاتها المواجهة البطولية عند مثلث خلدة خلال الاجتياح الصهيوني عام 1982 وكذلك في محور كليّة العلوم في الحدث والمدخل الشرقي للضاحية الجنوبية.

لا وقت لديّ للنوم

ليس المقال هنا عن مآثر السيد ذو الفقار في محطات المواجهة فمعظمها موقّعة باسمه في التخطيط والتنفيذ والإشراف والحضور المباشر، منذ الطلقات الأولى وحتى استشهاده، وفي كل مكان وطئته قدمه في لبنان وخارجه، وكان في كل منها يقترب من منصّة الاستشهاد، بل المقال في سبر أغوار هذا الرجل الذي لا ينام، كما يعرّفه رفاقه، وهو الذي كان يردّد: “لا وقت لدّي للنوم.. فعدوي لا ينام”. هذا الرجل الذي نقل المقاومة في أدائها وتكتيكاتها وآلياتها وأساليبها وتخطيطها إلى مراحل متقدّمة بتدرّج مدروس، ولم يكن بذلك يغفل أي تفصيل، ليس في التطبيق الميداني واعتماد التقنية العالية فحسب، بل حتى في الشكل بحيث حرص على تقديم المجاهد في حلّة كاملة وكأنه عريس في ليلة زفافه، من تسريحة شعره وبزّته العسكرية وحتى تلميع حذائه، حتى قال الرئيس الأسبق لأركان جيش الاحتلال بني غانتس في أعقاب إحدى المواجهات النوعية في العام 2005 إن “حزب الله أصبح في مرحلة متطوّرة من عملياته الميدانية، فكل مقاتل أصبح بتجهيزه العسكري قادراً على فتح جبهة وحده”.

مدرسة ذو الفقار

يقول بعض من عاصر السيد ذو الفقار إنه رجل ضاق رأسه بعقله، فكل شيء فيه يؤشر إلى تحفّز لا يستطيع أي أحد أن يجاريه فيه أو يلحق به، فقد كان دائماً يسعى لتحقيق السبق في الضربة الأولى ويحرص على أن تكون الضربة الأخيرة بتوقيع المقاومة، وتشهد بذلك كل محطات الانتصار التي هندسها وخطّط لها، سواء في مواجهة العدو الإسرائيلي في لبنان وخارجه أو في دحر العدو التكفيري في سوريا وغيرها، على أن الإنجاز الأبرز هو في مدرسة الإبداع العسكري والأمني التي أسّسها السيد ذو الفقار في تأسيس جيش المقاومة بحيث عمل على الدمج بين تكتيكات حرب العصابات وبين الأساليب القتالية التي يعتمدها الجيش الكلاسيكي، وهي مدرسة لم يسبقه إليها أحد في تاريخ حركات التحرّر، على أن عنصر القوة الذي شكّل دعامة هذه المدرسة هو مراكمة الخبرات والتجارب وأساليب التدريب والاطّلاع الشامل في مجال فنون الحرب، عسكرية كانت أو أمنية أو حرباً إعلامية ونفسية، تتكامل لتشكّل دائرة النار التي حاصرت العدو في كل مواجهة.. دائرة رسمها وكتبها بحبر شرايينه وعرق جبينه وخطوط جراحاته وحبّات الرمل التي عشقت أن تعانق صفحة وجهه في كلّ مرة كان يسجد فيها شكراّ لله تعالى بعد كل انتصار..

هذا هو السيد ذو الفقار..

قد يعجبك ايضا