“الربيع الاميركي”: بداية نهاية الاستكبار في عقر داره
سركيس ابوزيد/ العهد الاخباري
موقع أنصار الله| صحافة |
صورة واحدة كانت كافية لتفجير إنقسامات اميركا في الإدارة والمجتمع والإعلام. قتل مواطن أمیركي أسود یُدعى “جورج فلوید” على يد شرطي أبیض كانت الشرارة لربيع اميركي بدأ ولا احد يعرف نهايته.
.. وبعد یوم واحد على خنق فلوید وقتله، إنفجر الشارع وصارت كلماته الأخیرة “لا أستطیع التنفس” شعار الإحتجاجات. غضب عارم إجتاح الشوارع واشتعلت الإحتجاجات والمظاھرات الغاضبة وامتدت من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي. واجھت السلطات الأمیركیة المتظاھرین في عشرات المدن، التي شھد بعضھا حالات شغب وتحطیم الممتلكات العامة وحرق سیارات الشرطة وسرقة المتاجر، في مشھد غير مألوف من قبل بھذا القدر منذ أعمال الشغب التي أعقبت إغتیال مارتن لوثر كینج زعیم حركة الحقوق المدنیة والإحتجاجات الطلابیة في ستینات القرن الماضي.
وحین بدأت الأمور تخرج عن السیطرة، استعانت الادارة بالجيش و”الحرس الوطني”، وأصدرت أمرًا تنفیذیًا طارئًا بتعبئة عامة، للجم “مثیري الشغب” الذین ارتكبوا أعمال نھب وأضرموا النار. ولیس شائعًا في العادة نشر ھذه القوات لقمع تظاھرات مدنیة. فاستدعاؤھا بسبب أعمال شغب واضطرابات فله حسابات أخرى.
تحركات دفعت الرئیس دونالد ترامب الى إتخاذ موقف حاد في إتصال ھاتفي مع حكام الولایات. “علیكم أن توقفوا أشخاصا”، قال ترامب، محذرا الحكام من أنھم سیبدون “حمقى” في حال لم یقمعوا. وفي تسجیل للإتصال نشرته “ذي نیویورك تایمز”، بدأ ترامب المحادثة بخطبة طویلة وغاضبة، حیث قال: “علیكم أن تسیطروا”، مضیفا: “إذا لم تسیطروا، فإنكم تضیّعون وقتكم ـ سیدوسونكم، ستبدون مثل مجموعة من الحمقى”. وتابع الرئیس الأمیركي: “علیكم أن توقفوا أشخاصا، وعلیكم أن تحاكموا أشخاصا، ویجب أن یدخلوا السجن لفترة طویلة”.
یواجه الرئیس الأمیركي دونالد ترامب، عصیانًا مدنیًا ھو الأخطر في ولایته مع إحتجاج آلاف الأمیركیین على العنف الذي تمارسه الشرطة والعنصریة والتفاوت الإجتماعي، وفي وقت لا تزال فیه بلاده ترزح تحت وطأة إنتشار وباء كورونا، فرصة ممارسة نوع من الإستعراض الذي یسھم في تقویة موقعه الانتخابي أمام قاعدته المؤلفة من الیمینیین البیض المتطرفین. فبعد دقائق من التحدث في “حدیقة الورود” عن أھمیة القانون والنظام لقمع الإضطرابات، سار عبر الشارع إلى كنیسة سانت جون الأسقفیة المعروفة بـ”كنیسة الرؤساء”. بمجرد وصوله إلى سانت جون، رفع ترامب كتابا مقدسا “الله محبة” وھو یقف أمام لافتة الكنیسة. وقال: “لدینا بلد عظیم ، وسوف نضمن أمنه”. واتھم رئیس الكنیسة الأسقفیة مایكل كاري ترامب باستخدام الكنیسة والكتاب المقدس “لأغراض سیاسیة حزبیة”.
في الواقع، أحدثت الإضطرابات وطریقة التعاطي معھا إنقساما داخلیا على عدة مستویات:
– دارت نقاشات بین الرئیس ترامب وكبار مساعدیه حول الخطوات التي یجب على البیت الأبیض إتخاذھا لتھدئة التوترات، وانقسم مساعدو ترامب إلى فریقین الأول یقوده رئیس طاقم الموظفین مارك میدوز الذي شدد على ضرورة قیام ترامب بإلقاء خطاب رسمي للأمة للتأكید على دعمه للقانون والنظام ودعمه لضباط الشرطة، فیما كان الفریق الثاني یقوده مستشار وصھر الرئیس جارید كوشنیر وعدد من كبار المساعدین یحذر من تأثیر مثل ھذه النبرة في الخطاب من إثارة الناخبین وإثارة الأمیركیین من أصول سوداء، خاصة في ظل تحدیات كثیرة مثل وفاة أكثر من 100 ألف شخص بسبب فیروس “كورونا” وارتفاع نسب البطالة بشكل غیر مسبوق.
– تباینت ردود الفعل داخل المجتمع ولدى الأمیركیین بمختلف أعراقھم وأدیانھم وطوائفھم ما بین تیار غاضب بشدة من عنف الشرطة وتكرر الحوادث ضد السود الأمیركیین، وبین تیار منزعج من تزاید مخاطر العنصریة وتیارات أخرى تعاطفت مع أجھزة الشرطة. وتباینت أیضا مواقف حكام الولایات ورؤساء البلدیات في المدن وفقا لانتماءاتھم الفكریة والآیدیولوجیة والحزبیة.
– أما الإعلام الأمیركي، فینقسم الیوم في مقاربته الأزمة، إذ تعتمد شبكة “فوكس نیوز” المقربة من الرئیس دونالد ترامب والحزب الجمھوري السرد الذي یحاول تمریره روبرت أوبراین، مستشار الأمن القومي الأمیركي، أي إنھا مجرد مشكلة لدى بعض العناصر من الشرطة العنصریین ویمكن التخلص منھا عبر إصلاحات. غیر أن ترامب ذھب بالأمر بعیدا وإلى حدود خطیرة، عندما قال خلال تغریدة على “تویتر”: “عندما تبدأ أعمال النھب، یبدأ إطلاق الرصاص”.
أما الإعلام المقرب من الحزب الدیمقراطي، مثل “سي أن أن”، فیحاول توجیه الإنتفاضة الحالیة إلى إنتفاضة في وجه الرئیس. یأمل منتقدو ترامب بأن تؤدي التحركات الحالیة إلى خسارته في الانتخابات الرئاسیة، ویذّكرون بتاریخه في التعاطي مع العنصریة في الولایات المتحدة، بدءا من تشكیكه بمكان ولادة الرئیس الأمیركي السابق باراك أوباما، مرورًا باحتجاجات شارلوتسفیل في فریجینیا في عام 2017، وصولًا إلى إحتجاجات الیوم. أما داعموه یعولون على أن تؤدي عملیات الشغب إلى قلب الطاولة على بایدن، وتجییش الدعم لترامب في الانتخابات الرئاسیة.
في وقت يخشى بایدن من خروج الوضع عن السیطرة في ظل عملیات النھب والشغب، واستغلال حملة ترامب لھا، لذا حذر مما وصفه بالتدمیر غیر الضروري، مشددا على أھمیة الإحتجاجات السلمیة.
الإضطرابات التي تشھدھا أمیركا حالیًا، تتجاوز كونھا رد فعل على مقتل مواطن أسود على ید شرطي أبیض، أو إحتجاجا على عنف الشرطة الأمیركیة، لتكون إنتفاضة واسعة ضد تمییز یتخذ أشكالا مختلفة لا حیال السود فحسب، وإنما أیضا حیال فئات واسعة من المجتمع الأمیركي.
ما یحصل حالیا ھو غضب واسع من الحیاة السیاسیة في ظل رئیس یثیر الكثیر من الجدل والإنقسام، واقتصاد یواجه ركودا قد یكون الأقسى منذ الكساد الكبیر. الإنتفاضة الراھنة لها أيضًا خلفیة مأسویة تتمثل في فیروس “كورونا” الذي أنھك المجتمع الأمیركي وفضح ثغرات كبیرة في مؤسسات الاقتصاد الأول في العالم.
تكشف أحداث الأیام الأخیرة أن أمیركا لا تزال بعیدة كل البعد عن القیم التي تنادي بھا، وأن حلم مارتن لوثر كینغ لا یزال بعیدا من التحقق. ولا تزال الوعود بالعدالة تحدیدًا حبرًا على ورق، ولا یزال الشغب اللغة الوحیدة القادرة على إیصال الصوت والموقف.
ولعل أفضل من وصف ما یجري ھو البروفیسور كورنل وست، من جامعة برینستون، خلال مقابلة صادمة له على “سي أن أن”، قال فیھا: “نشاھد فشل أمیركا كتجربة إجتماعیة، وما أقصده أن تاریخ السود في أمیركا منذ أكثر من 200 عام یشھد على فشل النظام الرأسمالي الأمیركي في إیصال قیمه التي یتغنى بھا، مثل العدالة والحقوق وحریة الأفراد، إلى جمیع مواطنیه بالتساوي”. وأضاف: “إن ثقافة ھذه البلاد بات یحركھا سوق المبیعات. كل شيء للبیع ھنا، كل شخص كذلك. ھذا لا یؤمن أي تغذیة لھدف أو معنى لحیاة أي شخص ھنا. ھذا فشل للإمبراطوریة الأمیركیة وعلى المستویات كافة. لقد حذرنا مارتن لوثر كینغ، كأنه یقول لنا الیوم: لقد حدثتكم عن العسكرتاریا، وعن الفقر والأفكار المادیة والعنصریة بكل صورھا”. وأكمل: “یبدو أن النظام غیر قادر على تصحیح نفسه.. لم یستطیعوا جعل النظام یقدم الإصلاحات التي یحتاج إلیھا مجتمع السود والأعراق الأخرى. الیوم لدینا فاشي جدید یجلس في البیت الأبیض، یرى المتظاھرین لصوصًا، في حین یبجل ظھور جماعات مؤیدة له بالسلاح”.
هذه الأحداث أنزلت الاستكبار الاميركي عن عرش التفرد بالهيمنة العالمية.. الربيع الاميركي الى اين؟ هل سنشهد حربًا أهلية وانفصال ولايات، أم تستطيع الفاشية قمع الانتفاضة؟ الجواب في الأسابيع الأتية.