وفدُ نجران في صنعائهم.. لماذا في هذا التوقيت؟

موقع أنصار الله || مقالات || إسحاق المساوى

كانت الكلمة مختصرة، غير أنها فاتحة عهد جديد تطول فصوله وأحداثه التي قدمت بوفد نجران إلى صنعاء في توقيت لا يخلو من رمزيات وأبعاد مولد النبوة.

وبعيدًا عن لغط اليائسين لإفراغ الوفد المليء بذاته، وبالمستقبل أكثر من الحاضر، احتفى إعلام اليمني بالوفد دون تمييز عن غيره من وفود الجاليات الإسلامية الـ 20 التي حضرت المولد، ودون توظيف أَيْـضاً، ما دفع البعض للنقد المعزز بهندسة التساؤل البراجماتي: لماذا نفوت هذا الحدث غير الاعتيادي دون توظيف إعلامي ضمن منطق المواجهة والتصدي للعدوان؟

الجواب، -وإن يكن اجتهاداً شخصيًّا- أن غير الاعتيادي، أن يكون أبناء نجران ضمن أسوار المملكة الطارئة وهيمنتها على الجزيرة العربية، بينما أن يكونوا هنا في صنعائهم، هو الأمر الاعتيادي والوارد جِـدًّا وفق منطق التاريخ والجغرافيا والفلسفة.

لعل ذلك جوهر الخبر، ومحوره، وزاوية تسلسل أحداثه بالخلفيات التاريخية للأقدار التي أودعت (نجران وكل الجنوب الغربي) للنسيان خلف بشت الملك المؤسّس لطارئة اسمها المملكة العربية السعودية.

وربما يكون هذا اختزالاً على غرار كلمة الوفد “المختزلة” يحكي سيرة الفصل الأخير للتحول في مكانة نجران من الريادة في صناعة التاريخ إلى أحد أدواته الهامشية والمغيبة أَيْـضاً.

جدير بالذكر، أن حسابات خاطئة أوقعت نجران في فخ مملكة نجد الطارئة، دون أن يكون هناك أياً من أسباب الترابط الديني والثقافي والجغرافي، عدا عن سبب بارز لخصته خارطة التمدد للسعودية الثالثة معززة بالرؤية الوهَّـابية، لتقطيع أوصال النسيج الواحد للمذاهب والفرق ذات النسق الواحد، وتفكيك كُـلّ أسباب التلاحم الفكري والجغرافي على حَــدٍّ سواء.

مضت عقود على التحاق نجران بركب بن سعود، وتعاقبت أجيال، وتوارت دول، وتداولت أدوار الهيمنة، بينما بقيت نجران عرضة لمخالب المملكة الطارئة التي تخدش بخبث ملامح الهوية الأصيلة للأرض والإنسان والمعتقد. بالمقابل كان ثلة من رجالها المخلصين يمسكون بقوة على هويتهم خشية أن يتفلّت حاضرٌ وتاريخٌ وجذور.

لم يشفع لمجتمع نجران قرابة قرن من الزمن -مع محاولات قادتها الدينين والقبليين إثبات الولاء لملوك السعودية المتعاقبين -أن يكونوا مواطنين لا رعايا، وكنوع من العجز استسلم البعض لعاصفة النجندة، والوهبنة، وآثروا المهادنة، على المواجهة، بيمنا بقي البعض الآخر راسخاً كجذع شجرة متين لا تميل به حتى الأعاصير.

إذ ظل المعتقد، والجغرافيا، تهمتان تمنحان المملكة الطارئة، ومعها الوهَّـابية، استباحة الأرض، وتغيير كُـلّ ما من شأنه أن يشي باتصال التاريخ بالحاضر؛ بدلائل النهج والممارسات الموثقة، التي ترويها الأحداث والوقائع وذاكرتها الإنسان المنسي، المعروف وفق تعبير حقوقي رفيع “مواطنون من الدرجة الثانية” وآخر نجدي له دلالة انتقاص مناطقي يعرف بـ “صفر سبعة”.

هذا الطرح، لا يأتي في سياق التحامل وتصفية الحسابات التاريخية أَو الراهنة مع السعودية، لكنه جهد شخصي يسترعي التضامن مع الإنسان المظلوم ونصرته في أي مكان وزمان وإن قل سالكوه؛ كما يستند هذا الطرح على مرجعيات سماوية، ووضعية، وجغرافية، وتاريخية، وإن كان الثمن المؤجل أبهظ من المدفوع.

وبالعودة، إلى سياق الوهبنة، والنجدنة، يمكن لأي شخص من نجران، أن يوسع حدقة عينيه لتشمل رؤية اليمن ضمن تردّدات الوضع في نحران، ويتساءل بتجرد: “هل ما نتعرض له جزء منفصل بحد ذاته، أم ضمن سياق واحد يستهدف النسيج الواحد؟”.

منذ 94 عاماً لسطوة السعودية على نجران، ظلت هذه المنطقة المنسية، تراقب كغريب ما أحدثته طفرة النفط من انتقالات تنموية على معظم مناطق السعودية.

فنجد لم تكترث كَثيراً لتنمية نجران أسوة بغيرها من المناطق الـ 13، إلَّا بشكل محدود، وبالقدر الذي يزيل المخاوف من أن تضع نجد نفسها في مواجهة الجار الجنوبي اليمن.

هذه المعادلة رسمت سياسة نجد تجاه الجنوب الغربي لشبه الجزيرة وتحديداً نجران، فاليمن القوي يقتضي بالضرورة أن تنظر نجد بإنصاف نسبي نحو نجران، وعلى العكس من ذلك تماماً تبدأ مخالبها ووهَّـابيتها في تغيير ملامح نجرن، بدلائل التغيير الديمغرافي الذي تصاعدت وتيرته مع تعين مشعل بن سعود أميراً عليها عام 1996م، ووصل ذروته بمعاهدة جدة لترسيم الحدود عام 2000م، نظراً لهيمنة السعودية على القرار اليمني وسلطته الهزيلة والهشة.

ولعل معاهدة جدة بما تزامن معها -من مصادرة المساجد، واقتحام مقرات الداعي الإسماعيلي، وانتهاك الحرمات، وظلم المعتقلات والمحاكم، وفتاوى التكفير، وقرارات التهجير والعزلة المميتة –ستبقى شاهداً على ترابط المصير، وناقوس ذكرى مؤلمة توقظ العقل من النسيان.

وتهديه سبيل الحقيقة الواضحة، بأن الإخفاق التاريخي، كان هذا ثمنه، وبأن اليمن الذي كان هزيلاً ومرتهناً، فأمكن لنجد أن تستفرد بنجران من خلاله معاهدة ترسيم الحدود، هو ذات اليمن الذي بدأت تتشكل فيه نواة القوة، فقاد الملك عبد الله بن عبد العزيز، لزيارتها في 31 أُكتوبر 2006م، وهي بالمناسبة أول زيارة لملك سعودي إلى نجران، افتتحها بتلميح غريب قائلاً: “لا ينبغي أن نعول في حَـلّ مشاكلنا على أي طرف خارجي”.

ما يجدر الإشارة إليه هنا أن الزيارة لم تكن طفرة حنان فاضت بالراعي على الرعية، ولم تكن لتحدث لولا هواجس القلق السعودي من أن تترابط قضية الإسماعيليين، بقضية أنصار الله في محافظ صعدة، التي كانت تتعرض لحرب مماثلة في الأهداف مغايرة الوسائل، من الحكومة اليمنية، المدعومة من الرياض وبغطاء دولي.

ولولا تعزيز هذه الهواجس بمصادفة المظاهرة التي خرجت في نجران بسبتمبر 2006م، احتجاجاً على تدني المعيشة والحالة الاقتصادية، الأمر الذي دفع بالملك للإعلان عن مشاريع تنموية هي بالأَسَاس تعد تقليداً يترافق مع صعود أي ملك، غير أن هذا التقليد لا يشمل نجران في الغالب.

وهكذا ظلت اليمن هاجساً مخيماً على سياسة نجد، مدعوماً بمخاوف السفير الأمريكي في برقية (مسربة) بعث بها إلى خارجية بلده، حول ما أسماها بـ”المقاطعات الجنوبية التي تم الاستيلاء عليها من اليمن في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي”. ومخاوفه من انعكاسات الأوضاع المتدنية القادرة “على تغذية مشاعر الاستياء الكامنة، خَاصَّة إذَا استمر قادة السلالات في توجيه الموارد النادرة بشكل غير متناسب إلى نهر نجد”. حَــدَّ قوله.

الشاهد هنا، أن عشرات العقود من الاستيلاء على نجران، ومحاولة تماهي مجتمع الأخيرة مع الروابط الوطنية، لم يكن كافياً، طالما أـن الروابط الدينية متباينة مع التيار الوهَّـابي السائد، يضاف إليها الروابط الثقافية والجغرافية ومن فوق ذلك التاريخية، والتي تصبح جميعها مشكلة تستدعي إبقاء نجران واليمن تحت مجهر نجد.

الغريب أن هذه المخاوف الأمريكية الملغومة، كانت بفعل شكاوى قدمها نشطاء محليون ظنوا-وبعض الظن إثم وأغلبه أمل خادع – بحماية أمريكا للأقليات، غير أن الأخيرة استخدمتهم ضمن أورق ضغط لاستمرار “إمدَادات النفط الثابتة التي تسببت في انسحاب الولايات المتحدة من دعوتها للإصلاح في السعودية”. وما أشبه اليوم بالبارحة.

فها هو إنسان نجران ما زال يستقبل –بصمت – الوافدين إلى منطقته بدعوات رسمية منذ عقود؛ لشغل الوظائف الحكومية العليا والوسطى والدنيا؛ ولممارسة وظيفة أُخرى تقتضي ما لخصه مهاجر نجراني “إما جنوداً يساقون للحروب، أَو مواطنين مفترضين، أَو مهاجرين في بلدان العالم”.

وهكذا يعيش أبناؤها في مثلث الخيارات الصعب، يعتليه عصاة غليظة بيد ابن سعود وأحفاده الذين يرثون الملك حتى اليوم، مزودين بذات العصا التي تكتسب سمكاً إضافياً كلما تعايش النجرانيون مع الأمر الواقع، المشروط بالتنازل الكلي عن أي طموح للمهادنة مع نجد، فضلاً عن المشاركة في الوظيفة العامة شأنهم شأن غيرهم من الحكام والأسر والقبائل التي انخرطت أَو سالمت مشروع الدولة السعودية الثالثة، عدا عن قرار تعيين المهندس حمد حسين بالحارث بمنصب الأمين العام لإمارة نجران في سبتمبر2019م.

إلا أن القرار الغريب في نظر الأهالي المُجَـرّدين من كافة الوظائف الحكومية في منطقتهم منذ معاهدة ترسيم الحدود، جاء بعد يومين من الإعلان عن حدث عسكري أغرب، أسر فيه اليمنيون ثلاثة ألوية عسكرية -كانت مكلفة بحماية السلسلة الجبلية المشرفة على نجران- ضمن “عملية نصر من الله”.

فهل نضع هذا الاستدلال الأخير ضمن سياق الارتباط الشرطي لمصير واحد يجمع نجران باليمن وحسب، أم أنه مؤشر إلى جانب مؤشرات أُخرى، عن نوايا نجدية تعتزم التخلي عن نجران حين تبدأ ساعة الصفر؟ هذا ما سنحاول الإجَابَة عليه في المقال القادم.

 

قد يعجبك ايضا