جريمة إفشاء الأسرار العسكرية في الشريعة الإسلامية (1- 2)

‏موقع أنصار الله || مقالات ||د/ حمود عبدالله الأهنومي

“توجبُ الشريعةُ الإسلامية كِتمانَ الأسرارِ العسكرية، وتُحَرِّمُ إفشاءَها، وهذا الحكمُ يستندُ إلى جُملةٍ من مختلف أنواع الأدلة الشرعية، سواء ما دلَّ منها على وجوب حفظِ عموم الأسرار، أَو التي نَهَتْ عن إفشاء أنواع مُحدّدةٍ من الأسرار، أَو التي جاءت تأمر برعاية الأمانة والعهود، وتنهى عن الغدر والخيانة؛ باعتبَار الأسرار العسكرية من أعلى الأمانات التي يجبُ حفظُها، أَو الأدلة التي دلَّت مباشرةً على وجوب حفظ الأسرار العسكرية”.

وقد ترافق مع العدوان السعودي الأمريكي الراهن على اليمن استقطابٌ حثيثٌ لخونة وجواسيسَ ينقلون للعدو السعودي الأمريكي ولأجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية معلومات متنوعة عسكرية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وغيرها، ويعرض الإعلام الوطني بين الفينة والأُخرى اعترافات عناصر خلايا تَجَسُّسِيَّة، زَرَعَهم العدوانُ في وسط المجتمع مخبِرين وجواسيس يوفرون له المعلومات التي يحتاجها في حربه على اليمن واستهداف مقدراته الوطنية.

والسؤال الهام: هو كيف ينظرُ الإسلام إلى جريمة الإفشاء للأسرار العسكرية؟ وما هو حكم الجواسيس عند فقهاء المسلمين، ولا سيما مدرسة أهل البيت عليهم السلام؟ وهذا هو المشكل الذي ستحاول هذه المقالةُ الإجَابَة عنه.

 

أولاً: تعريف إفشاء الأسرار العسكرية

يُقصَدُ بالأسرارِ العسكرية: الأخبارُ والأشياء والمعلومات المتصلة بالشؤون العسكرية للأُمَّـة، مما يجبُ مراعاةً لمصلحتها أن تبقى سرا، إلا على الأشخاص الذين لهم صفة الاطلاع عليها. ويُقْصَدُ بجريمة إفشاء الأسرار العسكرية: هو تعمُّدُ الإفضاء إلى الغير بوقائع أَو معلومات متصلة بالشؤون العسكرية لها صفة السرية على وجهٍ غير مشروع.

وتَتّصِلُ جريمةُ الإفشاء بجريمة التجسُّسِ، والتجسُّسُ هو: محاولة الحصول على تلك المعلومات التي من شأنها أن يستفيدَ منها العدوّ، لإلحاق الضرر بالمسلمين مما له صلة بنقاط الضعف في الجبهة الإسلامية، وبما يرادُ كتمانُه عن العدوّ، وما يتعلق بالوضع العسكري للدولة الإسلامية، وما شاكل ذلك. أَو هو: محاولة الحصول على المعلومات التي تتصل بالحرب، أَو الاستعداد لها، مما يهم الدولةَ إخفاؤُه عن الدول الأُخرى، سواء نجحت تلك المحاولة أم أخفقت، وسواء تمَّ نقْلُ تلك المعلومات للعدو أم لم يتم.

 

أمثلةٌ على جريمة الإفشاء العسكرية

تصدُقُ جريمةُ الإفشاء على الكشف عن أية نقطة من نقاط الضعف في الجبهة الإسلامية، وعلى الكشف عن كُـلّ ما يرادُ كتمانُه عن العدوّ، وما يتعلق بالوضع العسكري للدولة الإسلامية، ومن ذلك الإفشاء بمعلوماتٍ متعلِّقةٍ ببرامج التسلُّح، أَو الخطط العسكرية، أَو مواعيد الهجوم على العدوّ، أَو إفشاء معلومات إلى العدوّ تتعلق بأماكن عسكرية حسّاسة، وكلُّ إفشاء من شأنه أن يُسَهِّلَ وصول العدوّ إلى الأسرار العسكرية، وإلى استهداف مقدَّرات الأُمَّــة، كتخفيف إجراءات الحماية المتعلقة بالأسرار العسكرية لتمكين العدوّ من الحصول عليها، وما شابه ذلك. ومنها أَيْـضاً الإخبار عن مواقع الجيش، أَو القادة، أَو الأفراد، أَو منازلهم، أَو وضع الشرائح الإلكترونية في حوزاتهم، أَو في منازلهم، أَو في مقرّاتهم، أَو في أي مكان يريد العدوّ استهدافه من خلالها.

لقد عَبَّرَ عن ذلك الفقهاءُ بقولهم: “عورات المسلمين”، قال في المصباح المنير: “العورة في الثُّغْرِ والحرب: خللٌ يُخَافُ منه”، وجاء في بعض ما يقوم به الجاسوس في هذا الصدد لمصلحة الأعداء – قولُ الفقهاء: “كأن يكتب لهم كتابا، أَو يرسل رسولا، بأنَّ المحلَّ الفلاني للمسلمين، لا حارس فيه، مثلاً، ليأتوا منه”.

وقد تكون جريمة الإفشاء في صورة بيع السر العسكري إلى العدوّ بدافع المال والطمع، فتؤدي إلى إزهاق أرواح، أَو قطع أطراف، أَو انتهاك أعراض، أَو تدمير مساكن وأحياء، أَو ما شابه ذلك.

وأسوأ حالات الإفشاء وأخطرها هي حالات الإفشاء الواقعة أثناء الحرب، أَو الناتجة عن التخابر مع العدوّ ومظاهرته ضد المسلمين، أَو حين يكون المجرم فيها أمينا على السر العسكري الذي خان الأمانة فيه، وسلَّم معلوماته للأعداء.

 

كيف تحدَّثَ القرآن عن جريمة الإفشاء للأسرار العسكرية؟

اعتبر القرآنُ جريمةَ الجاسوسية، وجريمةَ إفشاء السر العسكري، صورةً من صور الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ حَيثُ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أماناتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].

والخيانة: نقضُ الأمانة التي هي حفظ الأمن لحقٍّ من الحقوق بعهدٍ أَو وصيةٍ وَنحو ذلك، قال الراغب الأصفهاني: “الخيانة والنفاق واحدٌ، إلا أن الخيانة تقالُ اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدِّين، ثم يتداخلان فالخيانة مخالفةُ الحق بنقضِ العهد في السر، وَنقيضُ الخيانة الأمانة”. وتشمل الخيانةُ في الآية كُـلّ معصيةٍ خفية، فهي داخلة في (لا تخونوا)؛ لأَنَّ الفعل في سياق النهي يَعُمُّ، فكل معصية خفية فهي مراد من هذا النهي.

قال فقيه القرآن السيد العلامة بدر الدين الحوثي: “الخيانة لله ورسوله: مخالفة ما يُظْهِرُونه من الالتزام بطاعة الله ورسوله، والنُّصْحِ لله ورسوله، إلى خلافه، وذلك يكون بصُوَرٍ: منها موادَّةُ الكفار سرًّا، ومنها: وعدُهم بالكون معهم سراً، أَو بتخذيل المؤمنين، أَو بخذلان المؤمنين، ومنها: التناجي بمعصية الرسول في الخفاء. ومنها: الإرجاف بهجوم الكفار وكثرتهم وقوتهم. ومنها: التخلُّف عن الجهاد عقيب إظهار العزم والوعد به، كما رجع بعضُهم يوم أحد من الطريق. ومنها: كتمانُ ما يجبُ إبلاغ الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن معه ليَحْذَرُوه. ومنها الغلول، وكل خيانة للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فهي خيانة لله تعالى، ولعل ذلك سبب قوله تعالى: (لا تخونوا الله) أي لا تخونوّه بخيانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك لأَنَّ السر والعلانية سواءٌ عند الله، فمَنْ أخفى منه كمَنْ جاهر، ومَنْ وَعَدَ ثُمَّ أخلف كمَنْ أعلن بالخلاف من قبل. ولا تَكَادُ تُتَصَوَّرُ خيانةٌ لله حقيقية، فظَهَرَ أنَّ المعنى: لا تخونوا الله بخيانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم”.

وقال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: “ويكون مجموع قوله: (لا تخونوا الله وَالرسول وتخونوا أماناتكم) نهيًا واحدًا متعلّقًا بنوعِ خيانةٍ هي خيانة أمانة الله ورسوله، وهي بعينها خيانةٌ لأمانة المؤمنين أنفسهم؛ فَـإنَّ من الأمانة ما هي أمانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرَّعة مِن عنده، ومنها ما هي أمانة الرسول كسيرته الحسنة، ومنها ما هي أمانة الناس بعضهم عند بعض كالأمانات من أموالهم أَو أسرارهم، ومنها ما يشترك فيه اللهُ ورسولُه والمؤمنون، وهي الأمور التي أمر بها الله سبحانه، وأجراها الرسول، وينتفع بها الناس، ويقوم بها صُلْبُ مجتمعهم، كالأسرارِ السياسية، والمقاصدِ الحربية التي تَضِيْعُ بإفشائها آمالُ الدين، وتَضِلُّ بإذاعتها مساعي الحكومة الإسلامية، فيبطلُ به حقُّ الله ورسوله، ويعود ضررُه إلى عامة المؤمنين.

فهذا النوع من الأمانة خيانتُه خيانةٌ لله ورسوله وللمؤمنين؛ فالخائنُ بهذه الخيانة مِن المؤمنين يخونُ اللهَ والرسولَ، وهو يعلم أن هذه الأمانة التي يخونها أمانة لنفسه ولسائر إخوانه المؤمنين، وهو يخون أمانة نفسه،… فالمراد بقوله: (وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون): وتخونوا في ضمن خيانة الله والرسول أماناتِكم، والحال أنكم تعلمون أنها أمانات أنفسكم وتخونونها،…، فكأن بعض أفراد المسلمين كان يُفْشِي أمورا من عزائم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المكتومة من المشركين، أَو يخبرهم ببعض أسراره، فسمَّاه الله تعالى خيانةً ونهى عنه، وعدَّها خيانة لله والرسول والمؤمنين”.

ومما يدل على أن الخيانة لله وللرسول صادقةٌ مصداقاً أولياً وأولوياً على إفشاء الأسرار العسكرية ورودُ الخيانة في القرآن الكريم في موارد الشؤون العسكرية والحربية؛ قال الله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) [الأنفال: 58]، وقال تعالى: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم) [الأنفال: 71].

– كما اعتبرها القرآن صورةً من صُوَرِ اتِّخاذ الأعداء أولياء، واتِّخاذ أعداء الأُمَّــة أولياء معصيةٌ كبيرة، وجريمةٌ خطيرة، وذلك هو حقيقة النفاق كما ورد في القرآن الكريم، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أولياء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أعلنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ {1}… لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {3}… إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخراجكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئك هُمُ الظَّالِمُونَ {9}… يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أصحاب الْقُبُورِ {13}) [سورة الممتحنة]. وهي الآيات التي اشتهرت أنها نزلت بشأن إفشاء حاطب بن أبي بلتعة لسرٍّ من أسرارِ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

– في آيات سورة الممتحنة نهى الله نهيا واضحًا عن جريمة إلقاء الأسرار للعدو، وعبَّر عنها باتِّخاذهم أولياء، حَيثُ قال تعالى: (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)، وفسَّر ذلك الاتِّخاذ بقوله: (تلقون إليهم بالمودة)، وبقوله: (تسرون إليهم بالمودة)، والباءُ في (بالمودة) إما زائدة للصلة والتوكيد أَو للسببية، ومعناها: تُفْضُون إليهم بمودَّتِكم سِرًّا، أَو تُسِرُّون إليهم أسرارَ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ بسَببِ المودة لهم.

– ثم حكم الله فيها على المُفْشي للسر بأنه قد ضلّ سواءَ السبيل، قال تعالى: (وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)، وَ(سواء السبيل) من إضافة الصفة إلى الموصوف، مستعارٌ لأعمال الصلاح والهُدَى؛ لشبهها بالطريق المستوي الذي يَبلُغ مَنْ سَلَكَه إلى بُغْيَتِه، ويَقَعُ مَنِ انحرف عنه في هَلَكَةٍ، أي السبيل السوي، والطريق المستقيم، وهو الطريق السوي التي لا يضل عنها إلا هالك، والمراد به هنا ضلّ عن الإسلام، وضلّ عن الرشد.

وقد ورد في القرآن الكريم هذا الوصفُ (ضلَّ عن سواء السبيل) لمَنِ ارتكبوا معاصيَ خطيرة، ومنها أكبر معصية وهي الكفر بالله تعالى؛ قال تعالى: (وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) [البقرة:108]، (فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) [المائدة:12]، (قُلْ يَا أهل الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) [المائدة:77]، (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) [النساء:115]، وهذا أمرٌ يشير إلى خطورةِ وفظاعةِ جريمةِ التجسُّسِ وإفشاء الأسرار العسكرية؛ حَيثُ هي أَيْـضاً ممَّا يَضِلُّ بها صاحبُها عن سواء السبيل.

– لقد أكّـدت الآيات في سورة الممتحنة أن مرتكب جريمة الإفشاء والتجسس ظالم، قال تعالى: “ومن يتولهم فأُولئك هم الظالمون”؛ فهو ظالم لنفسه، وظالم لأمته التي خانها، وألحق الضرر والأذى بها، أَو تسبَّب في ذلك، ثم شنّعت على مرتكبي هذه الجريمة بتأكيد النهي عن تولي العدوّ؛ باعتبَار أن ذلك تولٍّ لقومٍ غَضِبَ الله عليهم؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ).

 

قصة حاطب بن أبي بلتعة

أما مُلَخَّص قصة حاطب التي اشتهرت بأنها سبب نزول آيات سورة الممتحنة عند المفسِّرين، وكتاب السيرة، والمؤرِّخين، فهو – بحسب أقرب الروايات إلى روح النص القرآني والمنطق التاريخي -: أنَّ حاطبا أرسل مع امرأةٍ إلى مشركي قريش يخبرهم بشيءٍ من أسرار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أراد بذلك أن يتخذ له عندهم يدا؛ ليحفظوه في أرحامه وأولاده الذين كانوا لا يزالون في مكة، والذين أشَارَت إليهم آيات سورة الممتحنة في آية (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ)، فنزل جبريلُ عليه السلام بالخبر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أثرها فرسانا، فيهم الإمام علي عليه السلام إلى روضة خاخ [موضع]، فَجَحَدَتْ وحلفت، فهمَّ أُولئك الفرسان بالرجوع، إلا عليا عليه السلام، قال لها: “والله ما كَذَبْنا، ولا كَذَبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن جبريل، ولا كذَبَ جبريل عليه السلام عن ربه”، وسلَّ سيفه، فأخْرَجَتْه من عقاص رأسها، فدعا رسول الله إلى الصلاة جامعة، ثم قال لحاطب على رؤوس الأشهاد: ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْتَ؟ فقال: ما كفَرْتُ منذ أسلمْتُ، ولا أحْبَبْتُهم منذ فارقْتُهم، ولكني كنْتُ مُلْصَقًا في قريش [أي ليس من قبائلهم]، وكلُّ مَنْ معك لهم قراباتٌ بمكة، يَحْمُون أموالهم وأهاليهم غيري، فأردْتُ أنْ أتَّخِذَ عندهم يدا، وقد علِمْتُ أنَّ كتابي لا يُغْنِي عنهم من الله شيئاً، فقام عمر بن الخطاب وقال: يا رسول الله دعني أضرب عنقه، فَـإنَّه منافق قد خان الله والمؤمنين، فلم يأذَنْ له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وجعل الناس يدفعون في ظهر حاطب، حتى أخرجوه من المسجد، وهو يلتفت إلى النبي صلى الله عليه وآله لِيَرِقَّ عليه، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بردِّه، وقال له: قد عفوْتُ عنك وعن جُرْمِك، فاستغفِرْ ربَّك، ولا تَعُدْ لمثلِ ما جَنَيْتَ”.

وقال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام: “فقال عمر: اتركني يا رسول الله أقتله فقد كفر بمكاتبته، فمنع رسولُ الله عمرَ ممّا أراد بحاطب من القتل؛ لرجعته وتوبته، وكان رسول الله صلى الله عليه في ذلك بحكم الكتاب، أعلمَ من عمر بن الخطاب”.

 

وهنا يجب الالتفات إلى عدد من النقاط:

– أولاً: حِرْص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتك ستر هذا الذي خان الله ورسوله والمؤمنين، وكتب بأسرارهم إلى عدوهم على رؤوس الأشهاد، حَيثُ دعا إلى الصلاة جامعة، وهي سنة نبوية ينبغي اقتفاؤها والعمل بها، وفيها مصالح تربوية واجتماعية، حَيثُ تحُدُّ مِن تعاطف المجتمع مع الخَوَنَةِ والجواسيس حينما يعرف جريرتهم؛ قال النووي في شرح صحيح مسلم تعليقا على فضح رسول الله لحاطب: “وَفِيهِ هَتْك أَسْتَارِ الْجَوَاسِيس بِقِرَاءَةِ كُتُبِهِمْ سَوَاء كَانَ رَجُلًا أَو اِمْرَأَة، وَفِيهِ هَتْك سِتْرِ الْمَفْسَدَة إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَة، أَو كَانَ فِي السِّتْر مَفْسَدَة، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ السِّتْر إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَة، وَلَا يَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَة”. وقد رأينا في فضح الإعلام الأمني للخلايا المجنَّدة من قبل العدوّ السعودي والإماراتي لزعزعة الأمن ونقل المعلومات والتقارير أثرا اجتماعيا وتربويا وأمنيًّا رادعا للمجرمين، وللمتعاطفين معهم، ولمن تُسَوِّل له نفسه أَيْـضاً السلوك في ذات الدرب القميء.

– إنّ جريمة الإفشاء التي ارتكبها حاطب من كبائر المعاصي، حَيثُ هي إيذاءٌ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وممّن قال بذلك النووي في شرح صحيح مسلم؛ حَيثُ وصفها بأنها: “كَبِيرَةٌ قَطْعًا؛ لأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيذَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، وَهُوَ كَبِيرَة بِلَا شَكٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ) “.

– ظهر من حوار عمر مع رسول الله بشأن حاطب أن للرسول أن يحكم على مفشي السر بالقتل، ولكن الذي صرف هذا الحكم في حالة حاطب هو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اطَّلَعَ على صدق حاطب، وعلى توبته ورجوعه إلى الله، كما دلّت على ذلك رواية الإمام القاسم بن إبراهيم، بالإضافة إلى أنه تمّ إحباط عملية إفشاء السر قبل أن تتسبَّبَ في إلحاق الضرر بالمسلمين.

– سمح رسول الله لصحابته أن ينفِّذوا عقوبة تعزيرية بحقِّ حاطب، عندما تم دفعُه من المسجد وإخراجه منه، وهذا يشير إلى أهميّة اضطلاع المجتمع بمحاصرة الجواسيس، وإيذائهم، وإشعارهم بعظيم جرمهم، ولعل رسول لله اكتفى بتلك العقوبة في حق حاطب.

وفي الحلقة القادمة سيتم الحديث عن الخونة والجواسيس في الفقه الإسلامي، وتعليل استحقاقهم حكم الإعدام، ثم الحديث عن حكم الإعدام لهم في القوانين والدساتير الوضعية وتشدّدها في ذلك، ثم أخيرًا نتائج هذه الدراسة وتوصياتها..

قد يعجبك ايضا