الحديث عن النعم في القرآن الكريم له أهمية كبيرة فيما يتعلق بنفسيتك وفي تعاملك مع الله

إذًا لا بد أن نعود إلى القرآن الكريم؛ لنعرف من خلاله أنفسنا كعبيد لله سبحانه وتعالى، لنعرف من خلاله المعرفة الواسعة لكمال الله سبحانه وتعالى، إلهنا، وربنا، وسيدنا، ومالكنا، والمنعم علينا.

وحينئذٍ ستبدو، وسيبدو الحديث عن النعم في القرآن الكريم له أهمية كبيرة فيما يتعلق بنفسيتك، وفي تعاملك مع الله، وفي نظرتك نحو الله سبحانه وتعالى.

ما يدلك على أهمية هذا، أنه يقرن الحديث عن نعمه بإرشاد عباده إلى عبادته والأمر لهم بعبادته فيقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:21 – 22).

ألم يتحدث هنا عن كيف يرعانا؟ الأرض بالنسبة لنا فراش، السماء بالنسبة لنا سقف، فكأن مجموع الأرض مع السماء بالنسبة لنا بناء نقيم فيه {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهذا الماء ينزل بسهولة لا يكلفنا شيء لا نحتاج إلى مضخات، ولا نحتاج إلى بقر [نسْنِي] عليها، ولا نحتاج إلى شيء ينزِّل المطر، وفي دقائق معدودة ترى الأرض مملوءة بالماء في دقائق معدودة، هذا الماء هو الذي يرتبط به كل حاجات الإنسان، كل حاجات الإنسان مرتبطة به.

 

{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وأنتم تعلمون بهذا، أنه الذي خلق الأرض وخلق السماء، وأنه هو الذي ينـزل الماء من السماء، وأن هذه الثمرات هو الذي أخرجها بما أنزل من الماء، أليس للحديث عن نعم الله هنا علاقة بتوحيده؟ {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أليس للحديث عن نعمه أثر كبير في الدفع نحو عبادته؟ هو يقول: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أليس للحديث عن نعمه أثر كبير في ترسيخ حالة التقوى في النفس؟ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

يبدو الحديث وكأنه حديث عاطفي، وفعلًا تلمس في القرآن الكريم هذا الجانب، هذا الشيء، أو هذا الأسلوب يأخذ مساحة واسعة في القرآن الكريم، الحديث الذي يبدو حديثا عاطفيا، استعطاف {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أليس هنا يذكرنا بما عمل لنا؟ أم أنه يقول: اعبدوا ربكم وإلا فسوف نحرقكم، هل قال هكذا؟ ممكن أن يقول هكذا؟ وهي حقيقة – إن لم تعبد ربك سيعذبك بعد أن يكون قد أرسل من يبلغك، من ينذرك، من يعرفك بعبادتك له كيف تعبده لكن لا، هذا وإن كان شيئًا حقيقيًا، وقد يبدو في بعض الآيات، لكن يأتي في مقام التهديد بعد أن يكون الإنسان قد عرف الكثير، وطرق مسامعه الكثير من الآيات التي تأتي على هذا الأسلوب، الاستعطاف.

ما أجمل العبارة التي قالها الإمام زيد (عليه السلام) ـ وهو يتحدث عن أقسام القرآن أو مجالات القرآن ـ قال: (وقسم منه استعطاف لعباده أو تعطف منه) ما أذكر بالتحديد هل تعطف أو استعطاف ـ ماذا يعني استعطاف؟  أي يخاطب وجدانك، يخاطبك أنت كإنسان ترعى الجميل، وتقدر الإحسان، وتشكر النعمة، وتعترف بالفضل لمن أسدى إليك النعمة ليشدك نحوه.

 

وهذا الشيء معروف في حياتنا معروف في تعاملنا مع بعضنا البعض، الواحد منا متى ما تحدث عن ابنه عندما تقول له: [يا خبير ابنك ما لك انت واياه كذا؟ وبينكم مزاعلة، وبينكم كذا؟] فيقول: عملت له كذا، وربيته، تعبت عليه، وخسرت، وزوجته، واشتريت له سيارة، وعملت له كل شيء، وأعطيته رأس مال، ولكن بعد كل هذا رفض طاعتي، قد تقول هذا لابنك بعبارات من هذا القبيل، استعطاف تذكره بما أسديت إليه، قد تقول أنت لشخص آخر في مقابلة شخص آخر أصبح له موقف غير طبيعي منه وأنت تعرف أياديه العظيمة عليه، يا رجال تذكر، هو الذي أدى لك كذا، وتعاون معك في كذا، ما ينبغي، ما يصح، ما يليق بك أن تعامله بهذا الأسلوب وهو الذي كذا، وهو كذا، إلى آخره.

أليس هذا استعطاف؟ أنت تخاطب وجدانه، وخطاب الوجدان، خطاب المشاعر في أعماق النفس تترك أثرها الكبير؛ ولهذا وجه الله عباده إليه في قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).

الكلمة الحسنة التي تبدر منك ترد بها إساءته، أنت هنا تخاطب وجدانه، أليس كذلك؟ هي تنفذ إلى أعماق وجدانه رغمًا عنه، وتتجاوز مظاهر الغضب وحواجز الغضب والانفعال، فتقتحم هذه الحواجز وتغوص إلى أعماق وجدانه فتنعكس لتملأ كيانه كله عاطفة نحوك فيتحول إلى ولي حميم، بكلمة إحسان، بكلمة لينة، فكيف لا تلين قلوبنا لمن يحسن إلينا هذا الإحسان الكثير والإحسان الكبير، إحسان بالكلمة وهو يهدينا، إحسان بالنعمة وهو يسبغها علينا لدرجة أن قال لنا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: من الآية53) ليس هناك نعمة أنتم فيها، تتقلبون فيها في أجسادكم، وفي معيشتكم إلا وهي من الله، يبدو هنا الأثر المهم لخطاب الوجدان واستعطاف المشاعر الداخلية، ما تترك من أثر من أجل ما تترك من أثر في كيان الإنسان وفي تصرفاته وفي توجهه، وفي نظرته.

 

نحن بحاجة إلى أن نعرف الله سبحانه وتعالى في توحيدنا له كإله، أن نتعرف على كماله، نتعرف عليه سبحانه وتعالى، المعرفة العملية بالتركيز، كما نركز على توحيده نركز على التعرف على ما أسدى إلينا من نعم، وعلى تقييمها وتقديرها، أن تنشدَّ أنفسنا نحوه، أن تمتلئ قلوبنا بحبه، أن تمتلئ قلوبنا خشية منه.

وهكذا يأتينا القرآن الكريم وهو يتحدث: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} (إبراهيم:32 – 33) دائبين، باستمرار، ما تحتاج من قِبَلِكُم إلى أي وقود، ولا إلى أي شيء، ولا تتوقف ولا تنطفئ {سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:33- 34).

 

من محاضرة السيد حسين بدر الدين الحوثي | معرفة الله – نعم الله | الدرس الثاني

قد يعجبك ايضا