المؤمن الحريص على وحدة الأمة يتحلى بكظم الغيظ والعفو عن الناس
أبرز صفات المتقين التي نريد اليوم أن نتحدث عنها أيضاً: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} هم ثلاث صفات مهمة جداً، لا تتوفر إلا فيمن تذوب شخصيته في الإسلام، تذوب نفسيته في العمل لله، بحيث نفسه هو ما يعطيها أهمية فوق كل شيء.
فمن أساء إليَّ بِزَلة تحصل منه من الإخوة المؤمنين كأنه اعتدى على جبار السموات والأرض، لم يعد يمكن يتسامح، ولم يعد يمكن انه يتقارب، ولم يعد يمكن أنه ولو يتقارب للعدل، يعتبرها وحده كبيرة، اعتداء على الإسلام، أو اعتداء على القرآن.
الشخص الذي يكون مهتم بنفسيته هو، تكون نفسه عنده هي كل شيء، أن يعتدى على الإسلام ما يحرك شعره فيه، أن تظلم الأمة كلها ما تهتز فيه شعره، أن يحصل عليه شيء ولو كلمة، تقوم الدنيا، ولا تقعد! ولا يكظم غيظاً، ولا يعفو، وبعضهم ما عاد يتقيد بالحق، على أقل تقدير أنه يريد الإنصاف، وكل مشاعره منشغلة بهذا الموضوع، وكل كلامه، وكل أعماله، وكل تفكيره يصبح منشغلاً في هذا الموضوع الذي ووجه به من قبل أخ مؤمن حصل منه زلة.
هو من رسالته أن يذوب في العمل لله، في الإسلام، عنده هذه الروحية: روحية المسارعة إلى ما يستوجب به المغفرة، وإلى ما يستوجب به الجنة التي عرضها السموات والأرض، يهتم جداً بالقضية الكبرى، أنها هي قضية يجب أن ينظر إلى نفسه، وماله وكل ما حوله أنه هين أن يضحي به من أجلها، وهو الإسلام، العمل في سبيله، العمل لإعلاء كلمته، الدفاع عنه، الدفاع عن أمته.
من كان على هذا النحو فستكون شخصيته، وماله، ليست ذات أهمية لديه، حتى إذا ما انطلق إلى العمل في سبيل الله فووجه بدعاية من هنا، أو من هنا، ما يتأثر، ليس ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت10) لا بأس سيعمل للإسلام، سيتحرك في الأعمال الصالحة، في مواقف جيدة، لكن إذا سمع دعاية ضده قال: [ها ما عاد لي حاجة] ويفلت كل شيء، وكأنها تعتبر عنده كما قال الله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} يعني ما يلحقه من الناس كما لو عذب، {كَعَذَابِ اللَّهِ}.
يذوب في هذه المسألة بحيث أنه ينسى أنه يعطي لشخصيته أهمية كبرى، بحيث إذا ما لحقه شيء ليس مستعداً أن يكظم الغيظ، ولا أن يعفو. نحن قلنا: قضية كظم الغيظ، والعفو، هي مسألة زايد على العدل، أي الشيء الطبيعي، والذي هو نازل في الساحة للناس جميعاً أن يحصل من جانبك شيء علي، كلام جارح، أو شيء يتعلق بمالي، أو بعرضي، فهناك العدل، ألتزم العدل أنا، لا تكن ردة الفعل من جانبي قاسية أكثر مما حصل منك، ثم نكون جميعاً مستعدين أن نتناصف فيما بيننا، أو أن نحكِّم من يحكم بيننا بالعدل، فما قضى به فهو الذي يجب أن نعمل به جميعاً. فما أنا بحاجة أن أكظم غيظ، أو أعفو.
لكن المؤمن المتقي حقيقة، من تهمه قضية وحدة الناس، من يهمه قضية إعلاء كلمة الله، الجهاد في سبيل الله، لا بد أن تكون هذه من الصفات البارزة فيه، ولأنها صفة بارزة فيه؛ لأنه لم يعد يعطي لشخصيته قيمة كبيرة بحيث يجعلها مقياساً، يجعلها كل شيء أمامه في الحياة، فهي أهم من الدين، أهم من الأمة، أهم حتى من الله عنده.
ألسنا كثيراً لا نغضب لله، لا يحصل فينا غضب لله عند الناس! أليس هذا واضح؟ لكن يحصل على واحد منا شيء يتعلق بنفسه، أو بماله، ما هو يغضب؟ لأنه قد أصبح الشيء الذي كان يجب أن يكون محط اهتمامنا، فله نغضب، وفيه نذوب، بحيث كل شيء دونه سهل، الذي هو الله سبحانه وتعالى، ودينه، ورسوله، وعباده.
أصبحت أشياء ما يثير أي شيء يعتبر اعتداء عليها، أو إساءة، أو مخالفة، فيما يتعلق بهذا الشيء العظيم، لا يثيرنا! لماذا؟ لأننا مشغولين بأنفسنا، أنفسنا أصبحت لدينا هي أهم من كل هذه الأشياء، أهم من الله، ورسوله، وجهاد في سبيله.
فهذه الصفة نفسها، التي هي في الواقع ممكن أن يكون العدل هو يحل محلها، أليست تبدو وكأنها اختيارية: كظم الغيظ، والعفو؟ لكن بالنسبة للمتقين، والمتقين واعين، المتقين متكاملين في فهمهم، تصبح صفة لازمة من صفاتهم. ما الذي جعلها صفة لازمة من صفاتهم؟ هو أنه يكون سريعاً إلى أنه أي شيء يبدر من جانب الآخرين ضده ممكن أن يكظم غيظه، ويقفي وكأنه ما حصل شيء حفاظاً على وحدة الناس، حفاظاً على أن لا تثار مشكلة فيبقى هو منشغلاً بهذه القضية، وهو ذهنه منشغل بالقضية الكبرى، فلا يتحول إلى أن ينشغل بالقضية هذه، مرة حصلت من هذا، ومرة حصلت من هذا، ومرة من هذا، ويكون هو مشغول بكل قضية تحصل عليه، فبقي مصارعاً من أجل ذاته، في قضية عادية، بسيطة، لا تقدم، ولا تؤخر.
السيد حسين بدر الدين الحوثي
محاضرة : وسارعوا الى مغفرة من ربكم صـ3.