التجربة النبوية وأثرها في الواقع

 

{هُوَ} الله -سبحانه وتعالى- بملكه، برحمته، بحكمته، بتدبيره، بقيوميته، بعزته، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}، (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ): الحالة التي كان يعيشها العرب، ويعيشها المجتمع البشري ما قبل بعث رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بالرسالة الإلهية إلى الناس، كانت حالة رهيبة جدًّا، الواقع العام الذي يعيشه البشر كان واقعًا سلبيًا وسيئًا بكل ما تعنيه الكلمة، واقعًا ظلاميًا، وواقعًا ممتلئًا بالظلم والفساد والجور، ومأزومًا (ممتلئًا بالمشاكل)، في الساحة العالمية كان الواقع العربي يتصف بالأمِّيَّة الشديدة والجهالة والبدائية، المجتمع العربي كان المجتمع الأكثر جهلًا، والأكثر أمِّيَّةً، والأكثر بداوةً- إن صح التعبير- وأتى الهدي الإلهي إلى هذا المجتمع وفي هذا عِبر مهمة، ودروس مهمة جدًّا: أنَّ عظمة هدى الله -سبحانه وتعالى- أنَّه يبني ويصلح المجتمع البشري، ويرتقي به إلى أرقى مستوى، حتى لو كان في أدنى وأضعف مستوى.

 

عندما نجد أنَّ المجتمع العربي الذي كان مجتمعًا أمِّيًّا لا يمتلك ثقافةً، ولا يمتلك معرفةً، ولا يمتلك وعيًا، والأمِّيَّة العربية أمِّيَّة شاملة، ليست فقط أمِّيَّة في القراءة والكتابة، فتقول: المسألة أنهم كانوا يعانون أزمة في هذا الجانب فحسب، لا يستطيعون أن يقرؤوا، ليسوا أمة متعلمة تقرأ الكتب، وحالة نادرة في أوساطهم، وكذلك أمة لا تستطيع الكتابة، والكتابة في أوساطهم حالة بسيطة، ولم تكن هذه المسألة الرئيسية، ولذلك عندما بعث الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- لم يكن الموضوع الرئيسي في الرسالة الإلهية أن يكون له برنامج محو أمِّيَّة، يتجه فقط وبشكل رئيسي إلى أن يتعلم الناس كيف يكتبون وكيف يقرؤون وانتهى الموضوع، لم تكن المسألة هذا، الأمِّيَّة الأكبر من ذلك والأخطر- بكل ما تعنيه الكلمة- أنهم لا يمتلكون رؤيةً صحيحة، ولا فهمًا صحيحًا، ولا معرفةً صحيحة بأشياء كثيرة جدًّا، ينقصهم الوعي، المعرفة الصحيحة، النظرة الصحيحة تجاه معظم الأمور التي تتصل بحياتهم، بمسؤوليتهم، وفي مختلف المسائل، الدينية منها في المقدمة، لديهم أفكار خاطئة كثيرة، تصورات مغلوطة، ومفاهيم مغلوطة كثيرة، ليست صحيحة، وخرافات كثيرة، مساحة واسعة من التصورات والمفاهيم كانت عبارة عن خرافات، ومفاهيم تنحرف بهم في واقع حياتهم، وضياع في هذه الحياة لا هدف ولا مسيرة صحيحة يتحركون على أساسها، وهذه الأمِّيَّة كانت قائمة في الواقع العام البشري، يعني: لدى غيرهم من الأمم، ولكنهم كانوا أكثر أمِّيَّةً من غيرهم، والأمم الأخرى والأقوام الآخرون كان لديهم نفس المشكلة وبقدر متفاوت، يعني البعض أيضًا كانت لديهم حالة من الضلال الرهيب، ولكن المجتمع العربي كان المجتمع الأكثر أمِّيَّةً، والأكثر بدائيةً وجهلًا.

 

أتى هذا الهدى إلى هذا المجتمع؛ غيَّر واقع هذا المجتمع بشكلٍ كامل، وكان التغيير في هذا المجتمع من خلال هذا الهدى، من خلال هذا المشروع الإلهي الشامل الواسع، الحكيم والصحيح الذي- فعلًا- يمكن أن يُعتمد عليه لتغيير حقيقي، وتغيير مثمر، وتغيير مصلح، وتغيير مضمون نحو الأفضل، فأتى هذا الهدى إلى هذه الأمة بما تعيشه من أمِّيَّة ليغيِّر واقعها تمامًا، تستبدل الخرافات، والمفاهيم المغلوطة، والأفكار والتصورات الباطلة، بمفاهيم صحيحة من نور الله، من هدي الله، من رسالة الله، بأفكار صحيحة، بمعارف صحيحة، توجيهات صحيحة، تعليمات صحيحة، إرشادات صحيحة، وتتغير في واقعها بشكلٍ جذري نحو الأفضل، ويتغير واقع حياتها بشكلٍ تام.

 

ولذلك علينا أن ندرك أنَّ هذه التجربة التي وقعت بالفعل، ولم تكن مجرد نظرية قدِّمت في كتاب، بل طُبِّقت على أرض الواقع، وأثمرت تغييرًا جذريًا غيَّر واقع هذه الأمة التي كانت أمِّيَّة وبدائية إلى أن ارتقت وتفوقت على سائر الأمم، وتطلَّعت إليها بقية الأمم، لترى فيها أنها أصبحت أرقى نموذج قائم في واقع الأرض فيما لديها من فكر، فيما لديها من ثقافة، فيما لديها من معالم في هذه الحياة، من اهتمامات، من تصورات، فيما تحمله من مشروع في هذه الحياة، وتحت قيادة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-.

 

رسول الله هو تحرك بهذا المشروع الإلهي، بعد سنوات معينة، بعد فترة زمنية محدودة تغيَّر هذا الواقع ليكون هو الواقع الأرقى- آنذاك- في الأرض بكلها، وليكون ذلك العربي- هنا أو هناك، في تلك المنطقة أو تلك- الذي كان رأسه مليئًا بالخرافات والمفاهيم الخاطئة، وكانت نظرته في هذه الحياة إلى واقعها ومشاكلها وأمورها، وكانت- كذلك- مفاهيمه تجاه كثير من الأمور مغلوطة وخاطئة وخرافية، قد أصبح متنورًا، لديه مفاهيم صحيحة، لديه نظرة صحيحة، لديه اهتمامات صحيحة، وطبعًا هذا بقدر تفاعل مَنْ تفاعل مع هدى الله، بقدر الاستجابة، بقدر ما كان هناك من ارتباط، من علاقة بهذا الهدى، من تفاعل وتأثر مع هذا الهدى، وبهذا الهدى.

 

فحدثت نقلة هائلة، نقلة كبيرة جدًّا في الواقع الأمِّي العربي، من حالة أمِّيَّة فظيعة ومتدنية جدًّا، إلى أمة تمتلك ثقافة هي أرقى ثقافة، تمتلك وعيًا هو أرقى وعي، بين يديها نور الله وهديه وتعليماته التي لا يساويها شيءٌ في كل الدنيا، فهذه النقلة الهائلة والكبيرة تمثِّل نعمةً عظيمةً من الله -سبحانه وتعالى- أنعم الله بها.

 

السيد عبد الملك بدرالدين الحوثي

 

سلسلة محاضرات المولد النبوي 1440هـ (1)

قد يعجبك ايضا