نص المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

كان من الأحداث التاريخية البارزة والمهمة في تاريخ المسلمين:

غزوة بدرٍ الكبرى، والتي وقعت في شهر رمضان المبارك، آنذاك في السنة الثانية للهجرة النبوية، وأتت في السابع عشر من شهر رمضان المبارك.

وكان فيه أيضاً فيما بعد ذلك، في السنة الثامنة للهجرة: فتح مكة.

وغزوة بدرٍ الكبرى وفتح مكة من أهم الأحداث التي وقعت في التاريخ الإسلامي، وكان لها تأثيرها الكبير جداً، فمثَّلت نقلةً كبيرةً في واقع الأمة الإسلامية، وهيَّأ الله من خلالها المتغيرات الكبيرة، والتحولات العظيمة.

الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم سمَّى يوم غزوة بدر بيوم الفرقان، وهذه التسمية- بحد ذاتها- تقدِّم لها فكرةً متكاملةً عن أهمية ما حدث، وعن تأثيره الكبير جداً، حيث مثَّل بالفعل نقلةً كبيرةً جداً، فكان يوماً فارقاً في تاريخ الأمة الإسلامية، وفي التاريخ البشري بشكلٍ عام.

رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بعثه الله بالرسالة في مكة، وبقي فيها لفترة طويلة، ومدةٍ زمنية طويلة، البعض يقول عنها أنها: لعشر سنوات، والبعض يقول: لثلاث عشرة سنة، بقي فيها يبلِّغ رسالات الله “سبحانه وتعالى”، ويتلو آيات الله، ويدعو عباد الله إلى الله، هو رسول الله الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، تحرَّك يدعو إلى الله بإذنٍ من الله، وأمرٍ من الله “سبحانه وتعالى”.

فكان الموقف لأغلب قريش- الذين هم قوم النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في مكة- موقفاً معادياً، واتجه الكثير من أكابرهم، وقاداتهم، وزعمائهم، للصد عن الإسلام، والتثبيط عنه، والمحاربة له بكل أشكال المحاربة، بدءاً بالحرب الدعائية، والتكذيب، والصد، والتضييق على المسلمين، الذين يسلمون ممن هم من المستضعفين في مكة، وبذلوا كل جهدهم ألَّا يقوم للإسلام كيانه القوي في داخل مكة، وألَّا يسمحوا بذلك، وكان الاتجاه العام لأغلب الأهالي هو معهم، مع أبو جهل، مع أبو سفيان، مع أبو لهب، مع أولئك الزعماء المشركين، الكافرين، الذين صدوا عن سبيل الله، وحاربوا الإسلام.

في نهاية المطاف، بعد تلك الفترة الطويلة، بعد اكتمال الحجة، بعد اكتمال مرحلةٍ أراد الله أن تكون مكة فيها هي المنطلق، هي الأرضية المهيأة لانتشار صدى صوت الإسلام، وصوت الرسالة، وانطلاقته الأولى، هيَّأ الله لرسوله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ولمن معه من المسلمين في مكة، الذين لم يتمكنوا من بناء كيانٍ مستقرٍ، وإقامة الدين الإسلامي في مكة، بحيث تكون هي موطنه الأول، لم يتهيَّأ ذلك، فهيَّأ الله بديلاً عن مكة، قوماً غير قريش، هم الأنصار في يثرب (الأوس، والخزرج)، ومنطقةً أخرى لتكون هي حاضنةً للدين الإسلامي، وللمنتمين لهذا الدين الإسلامي، ولتكون هي الموطن الذي تؤسس فيه الأمة الجديدة، والكيان الجديد، والدولة الجديدة للإسلام والمسلمين.

بعد انتقال النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وهجرته إلى المدينة، ومستقره في المدينة، بدأ في تأسيس الأمة الإسلامية، والدولة الإسلامية، وكيان الأمة الإسلامية الجديد، في ظل ظروفٍ صعبة، أصبح هناك الأمل الذي يحدو المسلمين لأن تتهيأ الظروف على نحوٍ مختلفٍ عمَّا كان عليه الحال في مكة، لكن التحديات كانت لا تزال قائمة.

قريش واصلوا نشاطهم العدائي ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وواصلوا نشاطهم في مراسلاتهم، وفي طريقتهم في التخاطب مع القبائل، في التأثير عليها في مختلف المناطق؛ لكي يشكِّلوا تحالفاً يتعاون فيه العرب واليهود في الحرب ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وفي العمل على منع قيام الكيان الإسلامي، والأمة الإسلامية، والدولة الإسلامية في المدينة، فوسَّعوا من تحالفاتهم، وكان لهم تأثيرهم في الساحة العربية؛ استناداً إلى موقعهم المتمثل بمكة، وسيطرتهم على شعائر الحج، وعلى المقدسات في الحج، وفي المقدِّمة: الكعبة وبيت الله الحرام.

كانت الكعبة وبيت الله الحرام لا تزال مقدَّساً عظيماً لدى العرب حتى في الزمن الجاهلي، حتى في مراحل الشرك، كانوا يقدِّسون الكعبة، ويعظِّمونها، وكانوا يحجون إلى بيت الله الحرام، وكانوا يؤدون شعائر الحج في مكة، ويفيضون أيضاً، يعني: في كل شعائر الحج، ليس فقط الطواف بالبيت الحرام، يتجهون إلى عرفات، ويفيضون إلى المزدلفة ومنى، وهكذا يؤدون شعائر الحج.

فكانت قريشٌ تُقَدِّم لنفسها أنها التي تُعَبِّر عن الدين، وعن المركز الديني، ولها ثقلها بهذا الاعتبار في الوسط العربي، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر تهيأت لها نتيجةً لذلك- نتيجةً للبيت الحرام، وحرمته، وقدسيته لدى العرب، وحجهم إليه- تهيأت لقريش ظروفٌ ملائمة، تساعدهم على الوفرة الاقتصادية، وعلى تحسن الوضع الاقتصادي، وعلى امتلاك الإمكانات المادية، إضافةً إلى ما جعله الله “سبحانه وتعالى” أساساً للبيت، ولحرمة البيت، ولتهيئة الظروف في محيطه (البيت الحرام) من تيسر الرزق، وتوفر الثمرات، فامتلكوا الإمكانات المادية من جانب، وكان وضعهم ميسوراً، متميزاً على الكثير من القبائل العربية، والمناطق العربية الأخرى، وحظوا بالنفوذ السياسي والاجتماعي، والتأثير، والقابلية في الساحة العربية؛ باعتبارهم في المركز الديني المقدس، الذي هو بيت الله الحرام، ويديرون شعائر الحج، ويسيطرون على مكة، ويقدمون أنفسهم بصفة أنهم المتولون على البيت الحرام، وعلى شعائر الحج، يعني: يقدِّم أبو جهل نفسه ومن معه بأنهم الذين يخدمون البيت الحرام، ويديرون شعائر الحج، وأنهم الذين يمثلون الامتداد الديني لإبراهيم خليل الله.

فاستغلوا كل هذا النفوذ، وكل هذا التأثير، وكل هذه الإمكانيات، في حربهم ضد رسول الله، في عدائهم للإسلام والمسلمين، وتزعموا المواجهة للنبي، والمواجهة للإسلام، وأداروا هذه المواجهة بتحالفات ومساندة مع قبائل مختلفة، وتنسيقات مستمرة مع اليهود.

في بقاء النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وحركته في بداية الأمر في المدينة المنورة، أدرك خطورة ما يحصل، وطبيعة المؤامرات التي تحدث، والنشاط الذي يقوم به قريش، حتى في اتفاقاتهم مع القبائل العربية الأخرى:

أن يحاصروا المسلمين اقتصادياً.

وأن يمنعوهم من أسواقهم.

وأن يمنعوهم من الحركة في مناطقهم، لأي حركة تجارية، أو نشاط تجاري.

وبدأوا التحضير عملياً لحملةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ، يريدون بها أن تكون قاضيةً على النبي والمسلمين، ومنهيةً للإسلام، قبل أن يتمكَّن أكثر، وقبل أن يتقوَّى في المنطقة الجديدة، والحاضنة الجديدة، التي هي المدينة بشكلٍ أكبر، وأرسلوا قافلةً تجاريةً ضخمة، أرادوا أن يعتمدوا عليها في تمويل هذه العملية العسكرية، والحملة العسكرية، التي يحضِّرون لها، للهجوم على النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”.

في ظل استمرارية تحركهم العدائي، حتى ما بعد هجرة النبي إلى المدينة، وإصرارهم على مواصلة الحرب على الإسلام والمسلمين، وضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، أتى الأمر من الله “سبحانه وتعالى” والإذن للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بالتحرك للتصدي لنشاطهم العدائي، وعملهم العدواني، الذي يستهدفون به الإسلام والمسلمين ورسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، فنزل قول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج: 39-40]، فأتى الإذن من الله للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وللمسلمين بالتحرك لمواجهة ذلك الاستهداف، ذلك التحرك العدائي من جانب الأعداء؛ لأن الحكمة والموقف الصحيح، لم تكن هي أن يستسلموا، أو أن يخنعوا، أو أن يجمدوا، ويتركوا المجال للعدو ليتحرك إلى اللحظة الأخيرة، التي يقضي فيها عليهم، ثم بعد ذلك يفكرون في أن يتحركوا، كان لابدَّ من المبادرة للتحرك.

فاتجه النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وتحرك وانطلق من المدينة المنورة، وتحرك معه البعض من المسلمين، لم يتحرك الجميع، المرحلة تلك كانت لا تزال فيها حالة القلق لدى البعض، وحالة المخاوف المؤثرة على البعض، دافعةً لهم إلى التخاذل، إلى الجمود، إلى التردد في أن يتحركوا مع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”.

وهنا يتبين لنا أيضاً الفارق الكبير في الوضع ما قبل غزوة بدرٍ الكبرى، وما بعدها:

الحالة التي قبلها كان المسلمون: البعض منهم واثقٌ، مؤمنٌ، متيقنٌ بانتصار الإسلام، ومقتنعٌ بالتحرك في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وأن يثبت في نصرة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، مهما كانت التحديات، مهما كانت الأخطار، فهم على يقينٍ، وعلى بصيرةٍ من أمرهم.

وهناك البعض ممن هم يترددون، فيلحظون طبيعة التحديات والمخاطر:

أنَّ هذا الدين بدأ يتحرك في بيئةٍ عالميةٍ وإقليميةٍ ومحليةٍ كلها معادية، الامبراطوريات الكبرى آنذاك على الأرض، والدول الكبرى كانت واضحةً في أنها لن تقبل بهذا الإسلام، وأنها ستحاربه، وستحارب رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” والمسلمين، ولن تقبل بهم كأمةٍ جديدة ظهرت في الساحة العالمية.

وأيضاً على المستوى الإقليمي، وعلى المستوى المحلي، في الوسط العربي نفسه، على مستوى أقوامهم في محيطهم المباشر، مثلما حصل في مكة، وبين أوساط قريش، بيئة معادية، ومحيط معادٍ بأشد العداء.

 

 يقابله أنَّ رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” تحرك وهو لا يمتلك في تحركه الإمكانات المادية الضخمة والمغرية، ولم يعتمد على ذلك، تحرك من واقعٍ طبيعي على المستوى المادي، والإمكانات المادية، ليس له كنوز، وليس له ثروات هائلة، وليس لديه أموال كثيرة، لا ليمول بها نشاط المسلمين، ولا ليغري بها الآخرين، لِيُقْبِلوا إلى الإسلام طمعاً فيما عنده؛ لأن الله أراد لهذا الإسلام: أن يأتي، وأن ينتصر، وأن يكون الإقبال إليه في بداية الأمر إقبالاً مبنياً على الإيمان، على القناعة، وليس على الإغراء المادي، وليس على الأطماع والأهواء.

ومن جانبٍ آخر ليس له جيوش ضخمة، وقدرات وإمكانات عسكرية، تقابل ذلك الوسط المعادي، والبيئة المعادية، والمحيط الدولي المعادي.

فكان البعض من المسلمين، والكثير من العرب أيضاً، ينظر إلى قيام الدين، إلى قيام الإسلام، إلى انتصار الرسول، إلى استمرارية الإسلام، وكأنها أمرٌ مستبعدٌ جداً، بل يعتبره البعض مستحيلاً، البعض كان يعتبر أنه من المستحيل أن يستمر الإسلام، وأن ينتصر الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، وأن تتوسع دائرة الإسلام لتشمل مناطق كثيرة، وتشمل الكثير من الناس، والدخول في الإسلام كان على مستوى محدود، كان الإقبال إقبالاً محدوداً، يعني: سنوات اتجه فيها القليل من الناس إلى الإسلام، قلةٌ قليلة:

على مستوى القبائل: كانت أكثر القبائل آنذاك غير قابلة بالإسلام.

على مستوى الكيانات الكبرى، والكيانات الأخرى: كان موقفها واضحاً في رفضها للإسلام، وعدائها له.

ففي تلك الظروف كان البعض يتوقع أن لو واجه النبي والمسلمون مواجهةً عسكرية، هي لم تحصل بعد مواجهة عسكرية مهمة، أو كبيرة، قبل وقعة بدر، فستكون القاضية على الإسلام والمسلمين، لو واجهوا تهديداً عسكرياً، واستهدافاً عسكرياً، فذلك سوف يقضي عليهم.

ولذلك عندما خرج النبي “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”، وتحرَّك من المدينة بأمرٍ من الله “سبحانه وتعالى”، كما قال “جلَّ شأنه”: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}[الأنفال: من الآية5]، بأمرٍ من الله، وفي موقف الحق، وفي القضية العادلة، لم يتحرك معه البعض من المسلمين، وتحرَّك البعض منهم فحسب، وكان هناك احتمالان:

إما أن يظفروا بالقافلة التي تتبع قريشاً، وهي قافلة تمويلية، للتحضير للحرب التي يحضِّرون لها ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وكان أمل البعض ممن خرجوا مع الرسول “صلوات الله عليه على آله”- إن لم يكن أمل الجميع ممن خرجوا معه- أن يسيطروا على تلك القافلة؛ لأنهم يرون فيها ضربةً جيدة لقريش، وفي نفس الوقت مغنم للمسلمين، الذين اضطهدوا، وأخرجوا من مكة، وصودرت ممتلكاتهم وإمكاناتهم، وفي نفس الوقت تمويل لحركة المسلمين للاستعداد أكثر، فكان الأمل لدى أكثرهم هو الظفر بالقافلة.

وكان الاحتمال لأن تكون المواجهة العسكرية هي التي تحصل بدلاً عن الظفر بالقافلة كان احتمالاً وارداً منذ البداية، احتمال المواجهة العسكرية كان وارداً منذ البداية، ولذلك كان البعض ممن خرجوا مع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” من المسلمين متخوِّفين، وكارهين للخروج، ومتوجِّسين مما سيحدث، إن حصل حرب، ووقعت معركة، وقلقين للغاية؛ ولذلك قال الله في القرآن الكريم: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6].

فبعضهم حاول أن يقنع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بالتراجع، وألَّا يذهب في هذه الغزوة، وفي هذا الموقف، وأن يكف عن ذلك، وأنَّ ذلك مغامرة خطيرة، قد تكون نتائجها كارثية، قد تسبب في استئصال النبي ومن معه من المسلمين، وكانوا يجادلون، جادلوا رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}.

كانت مخاوفهم هي الدافع الرئيسي في جدالهم، في محاولاتهم لإثناء النبي عن التحرك، ولم يكن هناك التباس في أنَّ الحق بكل الاعتبارات هو في التحرك، هو في الخروج، هو في الامتثال لأمر الله تبارك وتعالى، وهو أحكم الحاكمين، وهو العليم الحكيم، وهو المدبر الحكيم “سبحانه وتعالى”، وهو خير الناصرين، لكن هكذا تفعل المخاوف بالبعض: تؤثر عليهم تجاه الموقف الحق، وتجاه التحرك الحق، وتجاه النهوض بالمسؤولية اللازمة، تجاه ما لابدَّ منه باعتبار الحق، وباعتبار الحكمة، وباعتبار المصلحة الحقيقية، حالة المخاوف هي تشكِّل ضغطاً خطيراً  على البعض، يفقده صوابية التفكير، صوابية الموقف، يفقده توجهه واندفاعه أن يكون على أساسٍ صحيح.

فتحرك النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وكان تدبير الله “سبحانه وتعالى” أن يظفر المسلمون بالجيش الذي خرج من مكة، في معركةٍ تاريخيةٍ فاصلةٍ استثنائيةٍ مصيرية، بدلاً من الظفر بالقافلة؛ ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 7-8]، كانت إرادة الله في إحقاق الحق، ألَّا يبقى الحق مجرد عنوانٍ ودعوةٍ تتردد في الأسماع، بل أن يتحول إلى واقعٍ قائمٍ، إلى حالةٍ سائدة، أن يتجذَّر في الواقع منهجاً، تقوم على أساسه أمة (أمة الإسلام)، فأراد الله “سبحانه وتعالى” بهذه المعركة الفاصلة إحقاق الحق، وهذا يعبِّر عن جذور المشكلة، والقضية التي كان الصراع من أجلها.

كانت مساعي الكافرين والمشركين، ومنهم قريش ومن وقف معهم، ومن تحالف معهم، ومن نسَّق معهم، ومن شجعهم وحرَّضهم، كما هو حال اليهود، كانوا يسعون إلى ألَّا يكون هناك وجود للدين الإسلامي في هذه الحياة، لماذا؟ هل لأن الدين الإسلامي كان مجرد طقوس معينة، وشعائر دينية معينة، ليس لها أي تأثيرٍ في واقع الحياة، أم لأنه منهجية الله، التي ستبنى على أساسها مسيرة الحياة؟ وهذا هو ما أزعجهم.

 

كان الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” بحركته في تبليغ رسالة الله، وإقامة دين الله، يحدث تغييراً في الواقع، ويبني مسيرة الحياة على أساس الاستقلال عن التبعية للطاغوت، والتحرر عن العبودية لما سوى الله “سبحانه وتعالى”، وإخضاع الناس وتعبيدهم لله ربِّ العالمين فحسب، وهذا ما يقلق الطغاة، والمجرمون، والمتكبرون، الذين يريدون أن تبقى لهم سيطرتهم التامة على الناس، وأن يستعبدوهم، وأن تكون كل شؤون الناس بما يعزز نفوذهم، تدار، تدبَّر، يفرض فيها ما يعزز نفوذهم، ويمكِّنهم من السيطرة أكثر وأكثر، في حالةٍ هي حالة استعبادٍ للناس، يفرضون فيها على الناس ما يشاؤون هم، وفق أهواء أنفسهم، وما يريدون هم، وفق مصالحهم ورغباتهم، في حالةٍ من الاستعباد والاستغلال.

أمَّا ما يقوم عليه واقع الأمة على أساسٍ من الدين الإسلامي، فهو التخلص من ذلك، تُبنَى مسيرة الحياة على أساس تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، وتوجيهاته، والعبودية له، والخضوع له، والتحرر من كل عبوديةٍ لغيره “سبحانه وتعالى”.

فلذلك بعد أن بذلوا جهداً كبيراً فيما مضى للسعي لإقناع النبي في مهادنتهم ومداهنتهم، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم: الآية9]، وأن تكون مسيرة الإسلام على نحوٍ يتكيَّف، كما تكيَّف اليهود مع الواقع، وكما تكيَّف النصارى مع الواقع، فتركوا من شرائعهم، ومن عقائدهم، ما يتعارض مع ذلك الواقع، وأصبحوا على تماهٍ واندماجٍ كليٍ مع كل قوى الطاغوت المستكبرة في الأرض، المستغلة للعباد، المستعبدة للناس، فكانوا يرغبون أن يتحول واقع النبي في مساومات واتفاقيات يضحي بها بكثيرٍ من عقائد الإسلام، ومبادئ الإسلام، وتعليمات الله في الإسلام، وفق ما فعله البعض الآخر- كما قلنا- ممن كانوا ينتسبون للرسالة الإلهية، في رسالة نبي الله موسى، أو نبي الله عيسى “عليهما السلام”، فلم يقبل النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وما كان ليقبل، هو رسول الله الذي اصطفاه الله، وأناط به هذا الدور العظيم، والمسؤولية العظيمة، والمهمة الكبرى لإنقاذ البشرية، لمَّا كان الإسلام كما قدَّمه الرسول، وبلَّغه، وتحرَّك به، رسالةً إنقاذية، تنقذ البشر، تخلِّصهم، تصلح واقعهم، تطهر الأرض من الفساد، تتصدى للشر، تقف في وجه الظلم، كان هذا مزعجاً للطغاة والمجرمين؛ فتوجهوا بكل جهدهم، بكل إمكاناتهم، لمحاربة الرسالة الإلهية.

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: الآية8]، عندما وصل النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ومعه المسلمون في ظل إمكانات بسيطة، في قلةٍ من العدد، ونقصٍ من العدة:

عدد جيش المشركين كان مثل عدد المسلمين لثلاث مرات، أو أكثر، والإمكانات لم يكن هناك أي مقارنة، فالمسلمون كان لديهم- كما في بعض الأخبار- فرسٌ واحد، وكان لديهم- في بعض السِّيَّر والأخبار- ستة أدرع، بالنسبة للدروع.

أمَّا الحال بالنسبة للمشركين فكان مختلفاً: عددٌ كبيرٌ من الفرسان، والإمكانات، والعدة، والتجهيزات، وعدد كبير من المقاتلين المتمرسين، وخرجوا بطراً، وكبراً، ورئاء الناس، كان الشيطان حفَّزهم، وزيَّن لهم، ووسوس لهم، أنهم سيخوضون معركةً حاسمة، يقضون بها على رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وعلى المسلمين، وينتهي أمر الإسلام بشكلٍ نهائي، فلذلك كانت وقعة بدر مصيرية بكل ما تعنيه الكلمة، كان ما سيحدث فيها سيؤثر حتماً، ويكون له نتائجه المهمة، لو تمكَّن المشركون، لكانت كارثةً كبيرة، وعندما فشلوا كان انتصاراً عظيماً ومهماً، بقي له أثره الممتد إلى قيام الساعة.

عندما وصل المسلمون في تلك الظروف الصعبة، وأدركوا طبيعة الظروف على المستوى العسكري في واقعهم، في نقص عددهم، في نقص عدتهم، وما يقابله في واقع عدوهم، من العدد، والعدة، والإمكانات… وغير ذلك، توجَّهوا إلى الله “سبحانه وتعالى” واستغاثوا الله، كما قال الله “جلَّ شأنه”: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: 9-10]، فالله “سبحانه وتعالى” أغاثهم.

توجههم إلى الله في تلك اللحظة الحرجة، والصعبة، والحساسة، والخطيرة، هو بتوجيهٍ من النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وإدارةٍ لكل المجريات، لكل المواقف من جانبه “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهكذا هي التربية الإيمانية، التي تعلِّم الإنسان أن ينطلق متوكلاً على الله، معتمداً على الله، راجياً لله “سبحانه وتعالى”، مهما كانت إمكانات الأعداء، مهما كانت عدتهم، ومهما كان عددهم.

فرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” ربَّى المسلمين، وتحرَّك بهم، وأدار تلك التفاصيل والأحداث على هذا النحو: في التوجه إلى الله “سبحانه وتعالى”، الاستغاثة التي استجاب الله لهم فيها؛ فأمدهم- وبشَّرهم بذلك- بملائكته، وكان للملائكة الدور المهم جداً في التأثير المعنوي، من أهم متطلبات المعركة والموقف هو التأثير المعنوي الإيجابي بالنسبة للمؤمنين، الإيجابي والمهم جداً، فهم استبشروا، بعد أن بُشِّروا بذلك، وارتفعت معنوياتهم كثيراً، إضافة إلى أنَّ حضور الملائكة في ظل مجريات المعركة والأحداث، كان له أثره وفق الطريقة التي يهيئها الله “سبحانه وتعالى”، في التأثير النفسي والمعنوي الإيجابي والكبير.

أيضاً كان مما أمدهم الله به في سياق الحالة المعنوية، معالجة الحالة المعنوية التي تؤهلهم لأداءٍ أفضل، ولاستبسالٍ أكثر: ما ذكره الله في القرآن: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}[الأنفال: الآية11]، أمدهم الله بالشعور بالأَمَنَة والنعاس، فأتاهم ليلاً، ما قبل صباح المعركة، هذا الشعور من الاطمئنان والسكينة، إلى درجة أن يأتيهم النعاس، النوم الخفيف؛ لأنه ليس المطلوب أن يغطوا في نومهم، وأن يستغرقوا فيه، في ظل ذلك الخطر والتهديد، ولكن أن يأتيهم النعاس، مع الأمَنَة، مع الشعور بالاطمئنان، فكان له أهميته على المستوى النفسي والعصبي والمعنوي، ثم على مستوى الأداء في الميدان.

كذلك نزول الماء (المطر)، أغاثهم الله “سبحانه وتعالى” ليتطهروا به، وليطمئنوا بتوفر الماء؛ لأن من الهواجس التي أقلقتهم مع سيطرة المشركين على آبار المياه في بدر، أن يعانوا من العطش، أن يحاصروا بالظمأ، وأن يقتلهم الأعداء بالظمأ، فتوفر الماء بشكلٍ كبير، واطمأنوا بذلك.

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}[الأنفال: من الآية12]، وقام الملائكة بدورهم هذا على أكمل وجه، وكان له أثره الكبير جداً في معنويات المؤمنين، وفي إقدامهم، وفي استبسالهم.

وعندما تصاف الطرفان للمواجهة، بدأت المواجهة بخروج ثلاثة مقاتلين من صف المشركين، ونادوا بالتحدي للمسلمين، فأمر النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ثلاثةً من المسلمين، هم: عمه حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب “عليه السلام”، وكذلك عبيدة “رضوان الله عليهم جميعاً” عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فخرج الثلاثة، وبدأت المعركة بين هؤلاء الثلاثة من صف المسلمين، والثلاثة المقاتلين الذين خرجوا من صف المشركين، وهم من أبطالهم، ومن قاداتهم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد، فكان النصر في تلك المبارزة لصالح المقاتلين المسلمين، وكانت فاتحةً مهمةً للمعركة، لها تأثيرها في بقية المعركة.

قُتِلَ الثلاثة المقاتلون الذين خرجوا من صف المشركين، واستشهد من المقاتلين المسلمين الثلاثة أحدهم، هو: عبيدة بن الحارث، ثم التحم الطرفان، واحتدمت المعركة على أشدها، واستمر القتال لبعضٍ من الوقت، جزءٍ من النهار يقدر بساعتين، وكان قتالاً على أشده، فأتى فيه التأييد الإلهي من الله، والمعونة الكبيرة للمؤمنين، وقُتِلَ من الأعداء العدد المهم، قُتِلَ منهم سبعون قتيلاً، من فرسانهم، وقادتهم، وأبطالهم، والشخصيات البارزة والمهمة فيهم، كان لذلك تأثيره الكبير عليهم، عندما رمى النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بالحصى إليهم، وقال: ((شاهت الوجوه))، انهزموا على الفور، ونزل قول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}[الأنفال: من الآية17]، وأُسِرَ سبعون، وانهزم الباقون، وفروا باتجاه مكة، وعاد المسلمون بنصرٍ عظيمٍ تاريخيٍ مفصليٍ وكبير، وتغيَّر الواقع تماماً.

بعد مواجهة هذا التحدي بانتصارٍ كبير، زاحت حالة التردد عند البعض، وحلَّ محلها اليقين، أصبح عند الكثير من الناس- بالذات المسلمين- الأمل في أنهم سينتصرون، وتعزز الرجاء في نصر الله “سبحانه وتعالى”، ومعونته، وتأييده، وأصبح الاطمئنان على مستقبل هذا الدين وهذه الأمة هو الذي يملأ قلوب الكثير منهم، وكان للانتصار أيضاً صداه الكبير وتأثيره الكبير على أعداء هذا الدين من الكافرين والمنافقين، الذين أصيبوا بخيبة أملٍ كبيرة جداً، وأصبحت نظرتهم التي كانوا يستضعفون بها المسلمين، ويحتقرونهم، ويؤمِّلون في التغلب عليهم بكل بساطة، نظرةً مهزوزة، وأصبح عندهم احتمال كبير أنَّ مستقبل هذه الأمة ومستقبل هذا الدين هو الانتصار، وهو الثبات، وأنه يستحيل القضاء عليهم.

فتغيرت الأوضاع ما قبل ذلك اليوم وما بعده، وبدأت مرحلةٌ جديدةٌ في تاريخ الإسلام والمسلمين، قائمةٌ على الأمل، على الثقة، على الاطمئنان، على المعنويات المرتفعة، حتى أنَّ البعض ممن لم يخرجوا مع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في وقعة بدر تحسَّروا، وأسفوا، وكانوا يتمنون أنهم خرجوا، عندما أتت الغنائم، وأتى النصر، وشرف الانتصار الكبير، وما حدث كان له صداه الكبير، وتأثيره العظيم.

استمرت ما بعد ذلك مسيرة الجهاد، كانت وقعة بدر هي فاتحةٌ مهمةٌ وعظيمةٌ لمسيرة الجهاد في سبيل الله، الذي كان له أهميته، وكان لابدَّ منه:

في تثبيت دعائم الإسلام.

في استمرارية الإسلام.

في الدفاع عن المسلمين.

في الحفاظ على المسلمين، في الحفاظ على أمتهم، على كيانهم، على أوطانهم، على أعراضهم.

في دفع الشر عنهم.

في دفع الخطر عنهم.

في التصدي للشر والطغيان والفساد.

لو كان بالإمكان تحقيق مثل هذه الأهداف، والتجاوز لكل هذه الصعاب، والتصدي لكل هذه المخاطر بدون جهادٍ في سبيل الله، بدون تضحية، لكان النبي أولى من غيره أن يكون له ذلك، وأن يتم له ذلك، وأن يتحقق له ذلك، وألَّا يعاني ما يحدث في الجهاد، وما يحصل من تضحيات، ومن معاناة، ومن مواجهة للأخطار… إلى غير ذلك.

امتدت الآثار المباركة لانتصار يوم بدر إلى فتح مكة، ودخول النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” إلى مكة فاتحاً في السنة الثامنة من الهجرة، بعض الأخبار تقول: أن يوم الفتح نفسه، ويوم وصل النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” إلى الكعبة المشرفة، كان أيضاً في السابع عشر من شهر رمضان، البعض يقولون: في السابع عشر، البعض يقولون: في الثامن عشر، البعض يقولون: في التاسع عشر، تتردد الأخبار والأقوال بين الثلاثة الأيام، فيكون أيضاً متقارباً في التاريخ والمناسبة مع غزوة بدرٍ الكبرى، وكان أيضاً له أثره الكبير جداً في الانتصار.

 

الحديث عن هذا قد يطول كثيراً، لكننا نكتفي بهذا المقدار؛ لنؤكد على الحقائق المهمة، التي نستفيدها كدروس وعبر، ومنها:

حتمية الصراع:

لابدَّ من الصراع، لابدَّ من التصدي للأعداء، لابدَّ من التحرك في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله هو فريضة من الفرائض الإسلامية، والالتزامات الدينية والإيمانية، التي هي أيضاً ضرورةٌ واقعية، الصراع جزءٌ قائمٌ في واقع البشر، جزءٌ من حياتهم، جزءٌ من واقعهم، والمسلمون لو لم يتحركوا، تحرك أعداؤهم، واستهدفوهم، واضطهدوهم، وأذلوهم، وقهروهم، لهم أعداء، هم أمة لها أعداؤها.

لابدَّ أيضاً من الأخذ بأسباب النصر:

في ظل التحديات التي تواجهها الأمة في هذا العصر، وما أكثرها! التحدي من كل الأعداء، المخاطر التي تحيط بالأمة، نحن كمسلمين، في كل أقطار الأرض، أمةٌ مستهدفة، لها أعداؤها الذين يسعون باستمرار للسيطرة عليها بشكلٍ تام، لإذلالها، لقهرها، لاستعبادها، لمنع استقلالها على أساسٍ من انتمائها الإيماني والديني الإسلامي، وهذا أمرٌ واضح.

ما يسعى له الأمريكيون، وما يقوم به الإسرائيليون، هو حربٌ حقيقيةٌ على أمتنا، بأشكال كثيرة، بوسائل كثيرة، تطورت أساليب الحرب في هذا الزمن، دخلت فيها: الحرب السياسية، الحرب الاقتصادية، الحرب الإعلامية، الحرب النفسية، الحرب الدعائية، تفاصيل كثيرة في إطار الحرب: الإعلامية، والتضليلية، والفكرية، والثقافية، وسعيهم الواضح للسيطرة على هذه الأمة، السيطرة على ثروتها البشرية، وثروتها المادية، والاستغلال لها، والاستعباد لها، والإذلال لها، لا يمكن أن يُخَلِّص الأمة من ذلك، إلَّا أن تتحرك لتبني نفسها لتكون أمةً مجاهدةً.

بالجهاد يمكن أن يحرر فلسطين، أن تستعيد الأمة مقدساتها، أن تواجه كل التحديات من جانب كل الأعداء، بكل أشكالهم، وبكل فئاتهم.

الجهاد هو الذي يمكن أن يمثل عامل نهضةٍ للأمة، فتستعيد قوتها، وتبني نفسها في كل المجالات، ومنها: المجال الاقتصادي، والمجال العسكري، حتى تحقق لنفسها الاستقلال، وتنهض بمسؤولياتها، وتتحرك في إطار دورها الذي أراده الله لها على المستوى العالمي، لتكون الأمة التي تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتطهر ساحتها الداخلية من المنكر، والفساد، والطغيان.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

 

قد يعجبك ايضا