نص الدرس الثاني من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي من دروس عهد مالك الأشتر 1443 هـ -2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
افتتحنا بالأمس دروسنا المتعلِّقة بعهد الإمام عليٍّ “عليه السلام” لمالكٍ الأشتر حين ولاه مصر، وكان تركيزنا في درس الأمس على الحديث عن مبدأ القسط والعدل وأهميته في الإسلام، ثم الحديث عن المنطلق الأساس لأداء المسؤولية في الدولة والحكومة والمسؤولية العامة في نظام الإسلام، وهو منطلق العبودية لله “سبحانه وتعالى”، ثم عن المهام والعناوين الجامعة للمسؤولية وما يتفرع عنها، ثم أيضاً أتى الحديث عن الأسس الإيمانية، والعلاقة مع الله “سبحانه وتعالى”؛ باعتبار ذلك من أول وأهم ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في أداء المسؤولية في نظام الإسلام.
ووصلنا إلى قول الإمام عليٍّ “عليه السلام” في سياق ما أمر به مالك الأشتر، قال “عليه السلام”:
((وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ))
من أهم ما يؤخذ بعين الاعتبار في أداء المسؤولية: السيطرة على النفس؛ لأن كثيراً من الأخطاء، والتصرفات السيئة، والممارسات الخاطئة والظالمة، يكون منبعها في كثيرٍ من الأحيان هوى النفس، وشهوات النفس، ورغبات النفس، وعندما يكون الإنسان في موقع مسؤولية عامة، في أي مستوى من مستويات المسؤولية، ثم يتصرف في مسؤوليته وفق هوى نفسه، وفق رغبات نفسه، وفق أطماع نفسه، هوى النفس ورغبات النفس تشمل كل الميول النفسية، سواءً بدافع الرغبة والشهوة بشكلٍ أساسي، وهذا ما يؤثر على الكثير من الناس، ما يدفعهم إلى الفساد، ما يدفعهم إلى الخيانة، ما يدفعهم إلى الظلم، ما يدفعهم إلى العمل بطريقةٍ غير صحيحة ولا سليمة، ما يبعدهم عن تقوى الله “سبحانه وتعالى” في أداء مسؤولياتهم هي الرغبات، هي الشهوات، هي الأهواء، فيتجهون إلى استغلال مناصبهم ومسؤولياتهم لتحقيق رغبات أنفسهم، وللتركيز على المصالح الشخصية فوق مصلحة العمل، فوق التزامات المسؤولية وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ويحيدون عن تقوى الله جل شأنه بسبب ذلك.
ففي موقع المسؤولية من أهم الأشياء: أن يسعى الإنسان للسيطرة على رغبات نفسه، على شهوات نفسه؛ حتى لا تؤثر عليه في عمله، فيتجه بدافع هوى النفس، ورغبات النفس، وشهوات النفس للعمل وفق هوى نفسه، لتلبية رغباته الشخصية، وليس لمصلحة العمل، وليس لأداء المسؤولية بشكلٍ صحيح.
((وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ))؛ لأن الإنسان في موقع المسؤولية قد يرى أنَّ الظروف قد تهيأت له بأكثر مما كان عليه الحال سابقاً، ما قبل أن يصل إلى منصب مثل ذلك المنصب، فيتصور أنَّ الظروف أصبحت مهيأةً له ليحصل على ما لم يكن يستطيع الحصول عليه، أو ليحقق لنفسه من المصالح الشخصية، ما لم يكن يستطيع تحقيقه فيما قبل، فيعتبر موقع المسؤولية والمنصب والسلطة فرصة تَمكَّن من خلالها للوصول إلى أهدافه، لتحقيق رغباته، فيزداد الطمع في نفسه، تزداد الحالة النفسية في الطمع، والجشع، والرغبة الشديدة، والشهوة الشديدة؛ لأنه رأى الظروف سانحة ومهيأة للوصول إلى ما يريده، فتشتد نفسه، وتتجه رغبته بشكل كبير، فالمسألة خطيرة تحتاج إلى سيطرة قوية على النفس، ولهذا أتى الإمام “عليه السلام” بعبارتين مهمتين:
العبارة الأولى: قوله:
((أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ))
سيطرة قوية، أن يردها بكل قوة، وأن يوقفها عند حدها؛ حتى لا ينساق وراء رغبتها الشديدة، الناتجة عن تصور أنَّ الظروف مهيأة لتحقيق الأهداف والمصالح الشخصية، والمكاسب الشخصية.
كذلك العبارة الثانية: قوله “عليه السلام”:
((وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ))
يَزَعَهَا: يمنعها بقوة، وهذا يحتاج إلى تذكير النفس بسخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، وما يترتب على ذلك، وكذلك العواقب الوخيمة للسير وراء هوى النفس ورغباتها وشهواتها، وما يترتب على ذلك من سلبيات، ومن نتائج خطيرة على الإنسان في الدنيا والآخرة، وتنمية الاستشعار للرقابة الإلهية، يستشعر دائماً أنه يخضع لرقابة الله “سبحانه وتعالى” في كل الأحوال.
((فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ))
إذا اتجه الإنسان وراء رغبات نفسه، أهواء نفسه، ميول نفسه، فهي أمَّارة بالسوء، تأمره بما هو سوء، بما هو معصية، بما هو انحراف عن نهج الحق والعدل، بما له تبعات من عذاب الله، وسخط الله، وغضب الله، والمقت من عباد الله، يصبح الإنسان ممقوتاً، مكروهاً، ينظر إليه عباد الله بنظرة سلبية جداً، وعواقب لها تأثيراتها على الإنسان في نفسه في حياته، وسبب للعقوبات الإلهية العاجلة في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة والعياذ بالله.
فهذا جانبٌ مهمٌ جداً، عندما يلحظه الإنسان وهو ينطلق لأداء مسؤولية، في أي موقع من مستويات المسؤولية، سيتجه بنجاح؛ لأنه لاحظ أولاً: علاقته بالله “سبحانه وتعالى”، ولاحظ ثانياً: السيطرة على رغبات النفس وأهوائها وشهواتها، وهذا من أهم ما يساعده على الاستقامة في أداء مسؤوليته بشكلٍ صحيح، بشكلٍ نقي، بشكلٍ سليم، بما يبيِّض وجهه، بما يحظى من خلاله بمرضاة الله “سبحانه وتعالى”، وبالأثر الطيب في عباد الله.
((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةً الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ))
يقدِّم هنا أيضاً درساً مهماً جداً، يجب أن يأخذه الإنسان بعين الاعتبار، في ظل المتغيرات التي تحصل في واقع المجتمع، في تبدل الدول، وتغير الحكومات والمسؤولين، كثيرٌ من الناس يصل إلى موقع المسؤولية، إلى منصب معين، إلى سلطة معينة، كان ما قبل ذلك مواطناً عادياً، وإنساناً عادياً، لم يكن في موقع السلطة، ولا في المنصب، وهو أيام كان مواطناً عادياً، وكانت نظرته من الواقع الذي يعيشه مع الناس، نظرته إلى المسؤولين، نظرته إلى الحكومة، أو إلى المعنيين في موقع المسؤولية، نظرة موضوعية، من خلال الواقع العملي، يقيِّم أداءهم، والعنوان الأساس الذي يبنى عليه التقييم في واقع المجتمع للدول والحكومات والمسؤولين، والتصنيف الذي يبنى عليه ويعتمد عليه هو العدل والجور، هل هذه الحكومة؟ هل هذا الشخص الذي هو في منصب معين؟ هل هذا المسؤول يتعامل على أساس العدل أو هو جائر؟ فالإنسان قد يكون في تلك المرحلة وهو إنسان مواطن عادي، يتكلم عن أولئك، يقيِّم سلوكياتهم الخاطئة، ممارساتهم الظالمة، ينتقدهم، يتكلم عنهم وفق تصرفاتهم، وسيرتهم، وأساليبهم، وطريقتهم في العمل، ويعيش مع الناس مشاعرهم تجاه أولئك، إذا كانت الحالة حالة ظلم، وجور، وممارسات ظالمة، وخاطئة، وجائرة، مشاعر السخط، والكلام بالانتقاد، والموقف على أساس ذلك، ويعيش مع الناس هذه الأجواء، هذه المواقف، هذه التوجهات، هذه المشاعر، موقفه موقف المجتمع من كل ذلك، وعندما يصل هو إلى موقع المسؤولية والسلطة، ينسى كل ذلك، ويتعامل بعيداً عن ذلك، يمارس نفس الممارسات الخاطئة، يتصرف بنفس الطريقة السلبية التي كان ينتقدها هو، وكان موقفه منها كموقف بقية المجتمع، وهذه حالة خاطئة جداً، معناه: أنَّ الإنسان يتنكَّر حتى لموقفه، ويتجاهل الواقع العام؛ ولذلك الإنسان عندما يتحرك إلى موقع المسؤولية، فليدرك جيداً أنَّ مسؤوليته تتعلق بالناس، المسؤولية في الدولة، المسؤولية في الحكومة، في أي منصب من المناصب، في أي موقع من مواقع المسؤولية، هي مسؤولية تجاه الناس، وميدان المسؤولية هم الناس؛ ولذلك يجب أن تحسب حساب علاقتك مع هؤلاء الناس، وطريقة أدائك للمسؤولية، بعد أن تكون أولاً: حسبت حساب علاقتك بالله “سبحانه وتعالى”، والسيطرة على نفسك، ثم تحسب حساب علاقتك مع الناس، أن يكون أداؤك للمسؤولية أداءً سليماً، تقدِّم فيه النموذج الجيد، وتأخذ العبرة من تصرفات الآخرين، الذين كانوا قبلك، وكان لتصرفاتهم السيئة، ممارساتهم الخاطئة، ولما حصل منهم من ظلم، أثر سيئ عليهم، على أعمالهم، على موقف المجتمع منهم، ولهذه المسألة أهمية من جوانب متعددة، بما أنَّ ميدان مسؤوليتك، وبما أنَّ عملك أصلاً مرتبط بالناس، أنت مسؤولٌ تجاههم، فمن صالح عملك، ومن مصلحتك أن تكون علاقتك بالمجتمع الذي هو في نطاق مسؤوليتك، وأنت مسؤولٌ تجاهه، أن تكون علاقةً إيجابية، علاقةً جيدة، هذا له أثره حتى في نجاحك في أعمالك ومهماتك، وفي أن يكون المجتمع بنفسه عوناً لك، عوناً لك في أداء مسؤوليتك؛ لأن المجتمع عندما يشعر أنَّ أهم شيءٍ عندك بعد رضا الله “سبحانه وتعالى”: أن تؤدِّي مسؤوليتك تجاه هذا المجتمع بشكلٍ صحيح، وأن تقوم بواجبك بحسب ما ينبغي، وأنك مخلصٌ في ذلك، صادقٌ في ذلك، جادٌ في ذلك، وأنَّ عندك اهتمام بالناس، اهتمام بأمر الناس، هذا له أثره الكبير تجاهك من جانبهم، في مشاعرهم، في تعاونهم، في نظرتهم إليك، فيكون لهذا نتيجته الكبيرة في الواقع العملي، يكونون عوناً لك على أداء مسؤوليتك، وتكون علاقتك مع المجتمع كشريك لك في إطار مسؤولية يتعاون فيها الجميع، هذا شيءٌ مهم.
أمَّا إذا كان الإنسان يتجاهل الناس، ومسؤوليته تتعلق بهم، لا يبالي بمشاعرهم، ولا بآرائهم، ولا بما يقولون، ولا بحالة السخط من تصرفاته الخاطئة، أو من إهماله وتقصيره وتفريطه في أداء مسؤوليته فلذلك تأثيرات سيئة، تأثيرات سيئة؛ لأن هذا مؤشر كبير على فشله في أداء مسؤوليته، وعلى أخطائه في أداء مسؤوليته، فهو لم يأخذ العبرة ممن كانوا قبله، ومن النتائج التي نتجت عن ممارساتهم الخاطئة في موقف المجتمع منهم، موقف المجتمع لا يبقى مجرد مشاعر، أحياناً يصل موقف المجتمع إلى مستوى ألَّا يطيقك، ألَّا يتحملك، أن يسعى لئلا تكون أنت من تكون في موقع المسؤولية تجاهه، يصل الحال في كثير من المجتمعات إلى الثورة، أو إلى أعمال وتصرفات تعبِّر عن سخط الناس، عن عدم تحملهم وطاقتهم تجاه مسؤول معين، أو قائم على عمل معين، فهذه المسألة مهمة. فالإنسان معنيٌ بأن يقدِّم النموذج الصالح، النموذج الراقي في أدائه للمسؤولية، وأن يستفيد من أخطاء من كانوا قبله؛ حتى لا يكرر نفس الخطأ، لا يكرر نفس الممارسات، وأن يحرص على أن يكون له مصداقيته فيما كان ينتقده سابقاً، من الممارسات الخاطئة، والتصرفات الخاطئة، فلا يكررها هو، وتأتي كتصرفات يعتمد عليها، وممارسات تستمر من جانبه، وهو كان ينتقدها من الآخرين، ممن كانوا قبله، ويحرص على أن تكون علاقته بالمجتمع علاقةً جيدة، علاقةً قائمةً على التعاون، على التفاهم، على الأخذ بعين الاعتبار مشاعر المجتمع، ومواقف المجتمع، وتعاون المجتمع، وأن تكون الأمور واضحة للمجتمع، إذا كانت هناك ممارسات معينة، أو تصرفات معينة، أو قضايا معينة لها ردة فعل من جانب المجتمع، تسبب لردة فعل مبنية على فهم معين من جانب المجتمع، فينبغي أن تكون الصورة واضحة للمجتمع تجاه ذلك التصرف، أو تلك السياسة، أو ذلك الموضوع الذي نتج عنه استياء من جانب المجتمع، فلا ينبغي نهائياً أن يكون هناك تجاهل لمشاعر الناس، لاستياء الناس، لآراء الناس، لأقوال الناس، وبالذات المجتمع الذي هو بعيدٌ عن التأثر في مواقفه في توجهاته بما يقوله الأعداء، هناك فرق بين ما يقوله الأعداء، ما يقوله الحاقدون، ما يقوله من لديهم مواقف ودوافع أخرى، وبين ردة الفعل من المجتمع الذي هو باقٍ على فطرته، ومواقفه هي نتيجةٌ لما يحصل من جانبك فعلاً، وليست تأثراً بما يقوله الآخرون، أو يسعى الأعداء من خلاله إلى تأليب الرأي العام تجاهك، فهذه مسألة مهمة جداً.
في هذا الإطار، أهم ما ينبغي أن تركِّز عليه في علاقتك بالمجتمع، وفي أداء مسؤوليتك تجاه المجتمع، هو العمل الصالح؛ لأن من أسوأ ما ينحرف بك، ويؤثر عليك سلباً، عندما تكون اهتماماتك شخصية، توجهاتك شخصية، هدفك من المنصب الذي وصلت إليه: تحقيق الأهداف الشخصية، والمكاسب الشخصية، ولم تعد تبالي بالناس، ولا تكترث للناس، ولم يعد اهتمامك متجهاً نحو خدمة الناس في إطار مسؤوليتك تجاههم، لذلك تأثير سلبي عليك.
ولهذا عندما قال “عليه السلام”: ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةً الْعَمَلِ الصَّالِحِ))؛ لأن الكثير من الناس يكون همه من وراء المنصب الذي وصل إليه، ما يحقق لنفسه من مكاسب شخصية، مادية: عن طريق الفساد المالي، أو الاختلاس، أو الابتزاز المالي… أو أي وسيلة غير مشروعة، يريد أن يحصل من خلالها على مال، أو مكاسب أخرى: مكاسب معنوية… أو أي مكاسب غير مشروعة، فهذه الحالة خطيرة جداً، تؤثر على الإنسان، ويمقته الله والناس، يرى الناس فيه، في طريقته في العمل، في أسلوبه، في اهتماماته، أنه لا يهمه إلَّا نفسه، لا يهمه إلَّا مصلحة نفسه، ليس مهتماً بالناس، ليس مهتماً بالمجتمع، ليس مهتماً بخدمة المجتمع من خلال منصبه وموقعه في المسؤولية.
فالتوجه الصحيح: أن تحرص على العمل الصالح، هو أكبر مكسب، لا تركِّز على كيف تخرج من هذا المنصب، أو كيف تحصل من خلال هذا المنصب على المكاسب الشخصية: المادية، والمعنوية… وغير ذلك، احرص على أن يكون المكسب الكبير، المكسب المهم، المكسب العظيم الذي تحصل عليه من خلال مسؤوليتك، ومنصبك، وموقعك في المسؤولية، هو: العمل الصالح، الذي يمثل رصيداً عظيماً، ينفعك عند الله “سبحانه وتعالى”، فعندما تسخِّر كل جهدك، كل طاقتك، كل صلاحياتك، كل الإمكانيات التي هي في نطاق مسؤوليتك في العمل الصالح، والعمل الصالح أين يتجه ميدانه؟ إلى الناس، العمل الصالح هو يتجه إلى الناس، من خلال موقعك في المسؤولية، خدمة للناس، اهتمام بأمر الناس، تسخير لكل طاقاتك وتوظيف لكل قدراتك في خدمة الناس، ولكن وفق ما يرضي الله “سبحانه وتعالى”؛ لأن العمل الصالح يجب فيه أن يكون أولاً مطابقاً لشرع الله وتوجيهاته وتعليماته، فلا تسخط الله بهدف إرضاء الناس، يعني: تعمل شيئاً محرماً، وشيئاً فيه الإثم والوزر من المحرمات، تسعى به إلى إرضاء الناس، هذا لا يجوز أصلاً، لابدَّ في العمل الصالح أن يكون مطابقاً لشرع الله وأمر الله، وأن يكون بنية صادقة، تتقرب بذلك إلى الله “سبحانه وتعالى”، لا ترائي به، ولا يكون هدفك منه فقط مجرد السمعة، لا تكون هي الهدف السمعة الطيِّبة لدى الناس، اجعل هدفك هو مرضاة الله “سبحانه وتعالى”، والله هو الذي يمنحك العزة، ويجعل لك الود في قلوب عباده، مثلما قال في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم: الآية96]، مثلما قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8].
وفي العمل الصالح أن تلحظ فيه الاتقان، تلحظ فيه:
أن يكون مطابقاً لشرع الله.
أن يكون بنية صحيحة وصادقة.
أن يكون عملاً متقناً.
فهذه الاعتبارات الثلاثة تجعل من عملك عملاً صالحاً، ويبقى هو الرصيد العظيم الذي له قيمته لك، يُكتَب لك، ويكون عاملاً لنجاحك، ويكون له الأثر الطيب في الواقع.
((فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ))؛ لأن هوى النفس هو من أخطر ما ينحرف بالإنسان عن العمل الصالح، ويؤثر عليه حتى في علاقته بالمجتمع من خلال موقعه في المسؤولية.
((وَشُحَّ بِنَفْسِكَ)): حافظ على نفسك، وامنع نفسك وحافظ عليها مما لا يحل لك؛ لأن لذلك تبعاته، آثاره السيئة، العقوبة من الله “سبحانه وتعالى”، التشويه لك، تشوه نفسك بالأعمال التي لا تحل لك، عندما تمارس الفساد المالي، أو الابتزاز المالي، أو تمارس الظلم، أو تمارس الأثرة والاستبداد… أو أي تصرف سيئ لا يحل لك أن تتصرفه، عندما تتصرف من موقعك في المسؤولية، لذلك تبعاته في الدنيا والآخرة، وآثاره السيئة، ويشوهك، وله عواقبه السيئة عليك.
((فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ))، يجب أن تكون منصفاً، إذا أردت أن تصون سمعتك، أن تصون نفسك، أن تحافظ على نفسك مما له تبعات سلبية عليك، ومما يشوهك، فكن منصفاً، لا تتعامل بمزاجك الشخصي، كن منصفاً من نفسك، ومتجهاً إلى إصلاح أي خطأ يبدر منك، إلى تلافي أي زلة، إلى معالجة أي مظلمة؛ حتى تبقى مصاناً، ومحافظاً على نفسك من العواقب السيئة، والتأثيرات السيئة للتصرفات الخاطئة والظلم الذي قد يحصل من جانبك.
ومسألة الصيانة للنفس، والحفاظ عليها مما له تبعات خطيرة؛ لأن موقع المسؤولية موقع حساس جداً، وإذا تصرَّف الإنسان منه تصرفاته ظالمة، أو جائرة، أو خاطئة، لذلك تبعاته، ويتحمل الإنسان الوزر والذنب، فليحرص الإنسان على أن يصون نفسه من ذلك، قد يأتي الإنسان إلى موقع المسؤولية وهو ما قبل ذلك يحمل رصيداً نظيفاً، سليماً من الأوزار الكبيرة والمخاطر التي قد تسبب له نار جهنم، فإذا وصل إلى موقع المسؤولية ورَّط نفسه ورطات كبيرة، استغل منصبه استغلالاً سيئاً، تحمل الأوزار، والآثام، والذنوب، وتشوه، وخرج من منصبه إمَّا بموته، وإمَّا بعزله، وإمَّا بطرده، وهو محمل بالأوزار السيئة، والصيت السيئ، والذكر السيئ في أوساط الناس.
((فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ))، يعني: وليس الانقياد وراء أهوائها ورغباتها، عندما يتجه الإنسان وراء رغبات النفس وأهوائها، هو يسيء إلى نفسه، هو يظلم نفسه، هو يجني على نفسه، بينما إذا حافظ على نفسه ومنعها مما لا يحل، وإذا أخطأ أو تجاوز عالج ذلك، بادر إلى إصلاح ما صدر منه من خطأ، ليس العيب في ذلك، لا يكابر، البعض من الناس أسلوبه في واقع العمل، في أداء مسؤوليته، أن يكابر إذا حصلت منه زلة، أو خطأ، أو مظلمة، لا يريد أن ينصف، ولا يريد أن يتلافى ما حصل منه من خطأ، وهذا يسبب له الإثم والوزر، ويشوهه، أمَّا الإنصاف، أمَّا تلافي الأخطاء، فهو لا يشوه الإنسان، ولا يحط من قدره ومنزلته.
ثم يواصل الحديث ليبين أسس العلاقة مع المجتمع:
((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ، وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ بِهِمْ، فَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ))
نجد هنا الأسس المهمة للعلاقة مع المجتمع، وهي أسس قرآنية، أسس في منهج الإسلام وفي شريعته، ولا مثيل لها عند الآخرين أبداً، مثل هذا لا وجود له في دساتير، وأنظمة، ونظم، وقوانين الآخرين خارج منهج الله “سبحانه وتعالى”.
في العلاقة مع المجتمع، في إطار مسؤوليتك تجاهه، تبدأ هذه العلاقة من مشاعرك في قلبك، فيقول: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ))، الإنسان إذا كانت مشاعره نحو المجتمع مشاعر سلبية، ينظر إليهم باحتقار، ويحمل العقد تجاههم، وينطبع في انطباعاته الشخصية تجاههم بناءً على ما قد يحصل من البعض منهم من تصرفات، أو عبارات… أو نحو ذلك، فلهذا تأثيره السلبي والسيئ في طريقته في العمل، إذا انطلق في عمله من العقد النفسية، أو الاحتقار، أو الكره، أو النظرة السلبية إلى المجتمع، فسيكون أداؤه أداءً سيئاً، لكن ما يجب أن تحمله، وما يربينا عليه القرآن الكريم، ما نتربى عليه في التربية الإيمانية، هو أن نحمل الرحمة للناس، الرحمة هي من أعظم القيم الإيمانية التي يتربى عليها الإنسان المؤمن، هو يتربى على الرحمة للناس، الرحمة للرعية، الرحمة للمجتمع، يحمل الرحمة كشعور في وجدانه، في قلبه، هذه تربية إيمانية يتربى عليها الإنسان ما قبل وما بعد، يستمر على ذلك، من له صلة إيمانية بالله “سبحانه وتعالى”، من يتربى على أساس هدى الله “سبحانه وتعالى”، فهو يتربى على الرحمة للناس.
((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ)): تشعر بذلك، وتحمل هذه المشاعر وأنت تؤدِّي مسؤوليتك، فتفيض هذه المشاعر، وتتجلى في أدائك العملي، في تصرفاتك، في ممارساتك العملية، في قراراتك، في أدائك العملي، تتجلى فيه الرحمة، تفيض الرحمة من مشاعرك إلى واقعك العملي.
((الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ))، مع الرحمة لهم في كل ما ينتج عنها ويترتب عليها: من اهتمامٍ بأمرهم، من حرصٍ عليهم، من عنايةٍ بشؤونهم، من تفاعلٍ معهم، تحرص على الاهتمام بهم، تتألم لآلامهم، تفرح لأفراحهم، يعزُّ عليك أن يعانوا، أن يُظلَموا، أن يضطهدوا، أن يلحق بهم العناء.
رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” هو الأسوة والقدوة لكل مؤمن وفي موقع المسؤولية، ماذا قال الله عنه في القرآن الكريم؟ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: الآية128]، يقول عنه هذا التعبير العجيب: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، يعني: يعزُّ عليه أن تلحق بكم أي مشقة أو ضرر، يهمه أمركم إلى هذه الدرجة، فهو يتألم ويحرص على ألَّا يلحق بكم ضرر ولا مشقة، وهكذا يجب أن يكون من هو في موقع المسؤولية تجاه مجتمعه: أن يكون مهتماً بأمرهم، أمَّا النوع الذي يتجاهل الناس، يتجاهل معاناتهم، وأوجاعهم، وما يلحق بهم من ضرر، ولا يكترث لأي شيء، فهو بعيد عن هذه القيم الإيمانية.
((وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ))، مع الرحمة المحبة، تنظر إلى المجتمع نظرةً إيجابية، هم عباد الله، هم مجتمعك المسلم، لهم حقهم في الاعتبار الديني، في الأخوة الإيمانية، ومنزلتهم في إطار ذلك، وفي هذا السياق يعني نظرة عامة إلى المجتمع بشكلٍ عام، وأيضاً من خلال معرفتك بواقع الناس، بالمجتمع نفسه، تقدِّر من لهم قيمة إيمانية وأخلاقية، ودورهم إيجابيٌ في المجتمع، وهم عونٌ لك في الاهتمام بأمر الناس، تلحظ ذلك كنظرة عامة، وأيضاً في الواقع العملي مع من يحملون مثل هذه المشاعر تجاه المجتمع.
((وَاللُّطْفَ بِهِمْ))، في أسلوبك العملي، في طريقتك العملية، يفيض اللطف، ويتجلى هذا اللطف في طريقتك في التعامل معهم، لا تتعامل معهم بقسوة، بتكبر، بغلظة، بفضاضة، هذا لا ينبغي أبداً.
البعض أصبح تصورهم إلى المسؤولية والمنصب في الدولة، أنَّ من لوازمه أن تكون كذلك، أن تتكبر على الناس، أن تتعالى عليهم، أن تتعامل معهم بقسوة، بغرور، وأن تتعامل معهم بأسلوب فيه عنجهية وتكبر، هذا ليس من الإيمان في شيء، وليس هو من لوازم المسؤولية، بل على العكس، من لوازم المسؤولية أن تتعامل مع الناس بتواضع، باحترام، بتقدير، أن ترعى لهم كرامتهم الإنسانية، أن تلحظ ذلك في التعامل معهم، وألَّا تتعامل بقسوة، وغرور، وعنجهية، وتكبر.
((وَاللُّطْفَ بِهِمْ))، وأيضاً في الاهتمام العملي تجاه الناس من موقعك في المسؤولية، تسعى بكل ما تستطيع، وأن توظِّف كل قدراتك وإمكانياتك فيما فيه الخير لهم.
((وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ))، لا تتحول إلى وحش، متوحش في تعاملك معهم، في علاقتك بهم، همُّك أن تقهرهم، وأن تستغلهم لمصالحك الشخصية، تتعامل معهم بالظلم، بالابتزاز، بالاستغلال الشخصي، بالتركيز على المكاسب الشخصية، إمَّا من خلال الابتزاز المالي، والفساد المالي… أو أي أسلوب، ((تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ))، ثم هذا يشمل أيضاً أي ممارسات من ممارسات الظلم، كل ممارسات الظلم، والابتزاز، والاستغلال المحرم، كلها تدخل تحت عنوان: ((تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ))، فلا تتعامل معهم كوحش، ليس عندك رحمةٌ بهم، ولا محبةٌ لهم، ولا لطفٌ بهم، ولا إحساسٌ بأوجاعهم ومعاناتهم، ولا تفهُّمٌ لظروفهم ومعاناتهم، وهمُّك فقط أن تأكلهم وأن تستغلهم.
((فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ))، أخ تحمل نحوه مشاعر الأخوة؛ لأنك تجمعك به أعظم الروابط، وأقدس الروابط، وهي رابطة الدين، بما يترتب على ذلك من مسؤوليات، ومعها بالطبع رابطة الإنسانية، الذي تجمعك به رابطة الدين، مع ذلك رابطة الإنسانية والدين، ويجب أن تحمل تجاهه مشاعر الأخوة.
((أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ))، تجمعك به الرابطة الإنسانية، وإن لم تجمعك به رابطة الدين، لكن مثلاً هو كمواطن إنسان، وتجمعك به رابطة الإنسانية، وتحمل تجاهه من موقعك في المسؤولية تحمل تجاهه مسؤوليتك من موقعك في المسؤولية، المسؤولية تجاهه كإنسان كمواطن؛ وبالتالي هناك مسؤوليات عليك تجاهه، ترعى له كرامته الإنسانية، هو كإنسان له كرامته، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء: من الآية70]، يقول الله في القرآن الكريم، وتتعامل معه وفق كرامته الإنسانية وحرمته، وبما تمليه عليك مسؤوليتك.
ثم تتفهم الواقع العام للناس، عندما تحمل الرحمة لهم، والمحبة لهم، واللطف بهم، وتتعامل معهم بمسؤولية، وفق هذه القيم الإيمانية، تتفهم ظروفهم وسلوكياتهم بشكلٍ عام، يقول عنهم: ((يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ))، يعني: يحصل ويسبق منهم الأخطاء، لا تتصور أنَّ المجتمع من حولك مجتمع معصوم، أو مجتمع لا يخطئ أحدٌ فيه، أو تتجه بناءً على أنه يحصل منهم ويحصل ويحصل، ثم أنت ذلك الذي تريد أن يعاقب أشد العقوبات على أبسط الأخطاء، وأن يتعامل مع كل خطأ أو زلة أو تقصير تعاملاً قاسياً، يريد أن يؤدِّب على كل تقصير، أن يعاقب على كل خطأ، العقوبة ليست هي الأساس في التعامل مع المجتمع لإصلاح المجتمع، العقوبة هي حالة أو إجراء استثنائي، هو الأجراء الأخير الذي تستخدمه، مثلما قال الإمام عليٌّ “عليه السلام”: ((آخر الدواء الكي)).
الأسلوب الذي يعتمد عليه الإسلام في الاهتمام بالمجتمع، ورعاية المجتمع، هو الأسلوب التربوي في المقام الأول، في المقام الأول، تُبذَل جهود كبيرة لإصلاح المجتمع من خلال تربيته التربية الإيمانية، من خلال زرع القيم الإيمانية فيه، في نفوس الناس، من خلال التعليم النافع الصحيح، من خلال الأساليب الاجتماعية التي ترسِّخ القيم والأخلاق الحميدة كعادات راسخة… وسائل كثيرة، أساليب كثيرة تُستَخدم، وليس فقط الأسلوب العقابي، هو إجراء أخير، وبحسب الضرورة، كالطبيب عندما يعالج المريض، ويضطر إلى استخدام أساليب علاجية، الهدف منها العلاج، ليتماثل الجسم للشفاء، وليست حتى بأسلوب انتقامي، أو بأسلوب نابع من حالة عقد تجاه المجتمع، أو تجاه البعض من أبناء المجتمع، الحالة هي حالة يستخدم الإنسان فيها ما يستخدمه من أساليب ضرورية كالطبيب تماماً، الذي يسعى لعلاج المريض، ولو أحياناً بما قد يتأذى منه، أو يتضرر منه، بعض الشيء، لكنه لمصلحته.
فالحالة العقابية ليست هي الأسلوب الدائم في التعامل مع كل الأمور، ولا الأسلوب الوحيد الذي يعتمد عليه الإنسان في التعامل مع المجتمع، هناك في منهج الله “سبحانه وتعالى” أشياء واضحة ومحددة للتعامل مع بعض الأخطاء، مع الجرائم، مع الإساءات، وهناك مساحة في كثيرٍ من الأمور للعفو، والتجاوز، والصفح، واستخدام أساليب تربوية، أساليب اجتماعية، أساليب إيجابية مؤثرة، أحياناً نفس العفو قد يكون له أثره الكبير في إصلاح خطأ معين.
((فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ))
أنت كإنسان في واقعك العملي، وفي أدائك لمسؤولياتك، بالتأكيد يحصل منك تقصير، يحصل منك خطأ، وأنت ما تعوِّل عليه وتؤمِّل فيه وترجوه هو العفو من الله “سبحانه وتعالى”، الإنسان المؤمن هو هكذا، هو دائماً يحمل الرجاء إلى الله “سبحانه وتعالى”، يرجو الله أن يعفو عنه، أن يغفر له، ويطلب من الله ذلك، ويسعى لنيل ذلك بالأسباب التي أرشد الله إليها كأسباب للحصول على المغفرة والعفو، فانظر أنت إلى نفسك أنك كإنسان يحصل من جانبك تقصير، يحصل من جانبك أخطاء، وإنما تعوِّل على رحمة الله، على عفوه، فلا تنظر إلى الناس نظرة قاسية جداً، ومتشددة للغاية، تجاه ما قد يحصل من أخطاء، أو قصور، أو تقصير، فتريد أن تتجه لإجراء أقسى العقوبات بحقهم، تعامل وفق هذه الطريقة، التي فيها مساحة للعفو والصفح، وفيها اهتمام لإصلاح المجتمع بكل الوسائل الإيجابية.
((فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ))
أنت في موقع المسؤولية معنيٌ بهم، معنيٌ بأمرهم، ولكن لست صاحب القرار الأخير، الله فوقك، التراتبية أيضاً في المسؤوليات بالنسبة للإنسان في موقع المسؤولية، ((وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ))، فذلك احسب حساب ما بينك وبين الله “سبحانه وتعالى”، وتعامل بمسؤولية، والحظ هذه القيم بعين الاعتبار.
((وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ بِهِمْ))
أنت في موقع المسؤولية معنيٌ بالاهتمام بأمرهم، بالسعي لإصلاحهم، بالعناية بشؤونهم، بالاهتمام بأمورهم، في موقع مسؤولية واختبار يختبرك الله “سبحانه وتعالى” فيه، احرص على أن تنجح في هذا الاختبار، وأن يكون أداؤك أداءً صحيحاً، وأن تحمي نفسك وتصون نفسك من التجاوزات الظالمة، من الممارسات السيئة، من أسلوب التسلط والطغيان.
((فَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ))
لأنك عندما تتعامل مع الناس بسطوة وجبروت وظلم، وبممارسات منحرفة عن هدي الله “سبحانه وتعالى”، وعن تعليماته، وتخالف شريعته وتوجيهه، بما تمارسه من الظلم، والجور، والتسلط، والطغيان، والقسوة، والجبروت، فأنت تجعل نفسك في حالة استهدافٍ ومؤاخذة وعقوبة من جانب الله “سبحانه وتعالى”، أنت تُعَرِّض نفسك لغضب الله، لسخط الله، لجبروت الله “سبحانه وتعالى”، لا تغتر بمنصبك، لا تغتر بموقعك في المسؤولية الذي تتصور أنه سيحميك، فتقسو على الناس، وتتجرأ عليهم، وعلى ظلمهم، على أي إنسان، حتى إنسان قد تستضعفه، قد تتصور أنك آمنٌ من جانبه، أنه لا يستطيع أن ينالك بشيء تجاه ما تعمله به من ظلم، ما تمارسه بحقه من جور، أنت تُعَرِّض نفسك لسخط الله، لغضب الله، لعقوبات الله “سبحانه وتعالى”، وأنت ضعيف عاجز، عندما تسبب لنفسك سخط الله، غضب الله، عذاب الله، ((لِحَرْبِ اللَّهِ)) هذه العبارة المخيفة الرهيبة، ((تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ)): تُعَرِّض نفسك لأن يضربك الله وأن يعاقبك، ((فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ)): لن تستطيع أن تدفع عنك نقمة الله، عذاب الله، سخط الله، في العاجل والآجل، في الدنيا يصنع الله الكثير من المتغيرات، ويحول واقعك إلى واقع مختلف، يبدلك عن العز بالذل، يزيحك مما أنت فيه من التمكين، يسلط عليك، أشياء كثيرة يمكن أن تحصل من عقوبة الله.
((وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ))
لست مستغنياً عن عفوه، أنت محتاج، أنت محتاجٌ إلى عفو الله ورحمته، وما لم يعفُ عنك ويرحمك فأنت هالك، أنت هالك، نحن في واقعنا، في تربيتنا الإيمانية، يعلمنا الهداة وأولياء الله أن نطلب من الله أن يعاملنا بعفوه، وألَّا يعاملنا بعدله؛ لأنه لو عاملنا بعدله هلكنا، نحن نطلب منه العفو والرحمة، نحن ندرك قصورنا، أخطاءنا، تقصيرنا، ما نحمله من الذنوب، وبالتالي الإنسان لا يمكن أن يستغني عن عفو الله ورحمته، هو بحاجة دائماً وأبداً إلى أن يعفو الله عنه وأن يرحمه، فكيف يُعَرِّض نفسه لغضب الله، لسخط الله، لعذاب الله.
((وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ))
يعني: الإنسان أحياناً مثلاً قد يعفو عن إنسان، فلا يُقَدِّر هو العفو عنه، إمَّا يسيء، وإمَّا يعود إلى نفس الممارسات السيئة، حينها لا تندم؛ لأن عفوك في البداية له أثر إيجابي، على الأقل في محيط ذلك الشخص، محيطه في المجتمع، لدى المجتمع، سيتفهم مستقبلاً الإجراء اللازم، وأصبح العفو حجةً لك عليه للعفو أثر إيجابي حتى لو تصور الإنسان في بعض الحالات أنه لم يكن مناسباً، هو مناسب على كل الأحوال، له آثاره الإيجابية.
((وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَة))
لا تتفاخر وتتباهى بعقوبتك، أنك عاقبت ذلك المواطن، أو ذلك الإنسان، العقوبة كما قلنا هي إجراء ضروري، في الحالات الضرورية فقط، إجراء استثنائي في الحالات الضرورية فقط، فلا تتبجح بها، وتتفاخر بها، وتتباهى بها؛ لأن هذا يقدِّم صورةً عنك كإنسان انتقامي متغطرس ومتوحش، من يعجب، من يرتاح، من يتلذذ بما يلحقه بالآخرين من عقوبات أو ضرر، هو يظهر كإنسان متوحش، وإنسان قاسٍ، وإنسان لا يحمل الرحمة في نفسه.
((وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَة))
هذه حكمة مهمة جداً: لا تتسرع في حالات الغضب لاتخاذ الإجراءات الأقسى، إرضاءً لحالتك النفسية؛ لأنك في حالة انفعال وغضب، هذه حالة مهمة جداً أن يكون الإنسان متنبهاً لها؛ لأن الكثير من الناس قد ينفعل، قد يغضب بشدة، ويبادر إلى اتخاذ الإجراء الأقسى وفق حالته النفسية، وليس وفق ما ينبغي بميزان الحكمة، بمعيار الحق، أن يتصرف؛ وإنما وفق غضبه، كان الإجراء الذي اتخذه بمقدار غضبه، لا بمقدار الحق، لا بمقدار العدل، لا بميزان الحكمة، لا بالنظر لمصلحة العمل، فعلى الإنسان أن يكون متنبهاً، لا تتخذ الإجراء الأقسى، وهناك متسع لإجراءات بديلة، خيارات بديلة، تعالج بها المشكلة، أو تصلح بها الخلل، دون أن تتسرع إلى آخر ما ينبغي أن تعمله.
البعض مثلاً قد يبادر إلى السجن، وكان ما ينبغي أن يتخذه من إجراء في الأخير هو السجن، فجاء به كأول إجراء، أو التسرع مثلاً بحملة، أو التسرع بأي أسلوب، أو قرار، القرار الذي يأتي في نهاية المطاف لا تتسرع به في بداية المطاف إرضاءً لغضبك وانفعالك، حاول أن تستفيد من أي خيارات وبدائل عملية تصلح بها الخلل، أو تعالج بها المشكلة، أو تتلافى بها إشكالاً معيناً، قبل أن تتسرع إلى الإجراءات الأخرى.
((وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَة))، طالما هناك خيارات وبدائل أكثر إيجابية، أكثر نفعاً لمعالجة المشكلة، أو لإصلاح الخلل، ابدأ بها.
((وَلاَ تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ))
البعض إذا وصل إلى موقع مسؤولية معينة، أصبح يتلذذ بأنه يصدر الأوامر، وعلى الناس أن يطيعوه فوراً، وقد تصدر إما أوامر خاطئة، مثلاً: الإنسان في بعض الحالات قد يصدر قراراً معيناً، أو يأمر بأمرٍ معين، لكن انطلاقاً من حالة نفسية لديه، إمَّا حالة انفعال، أو حالة غضب، أو حالة نفسية معينة، يعني: ليس بناءً على مصلحة العمل، على ما تقتضيه المسؤولية، وإنما وفق حالة نفسية.
البعض مثلاً قد يصدر قراراً، أو يأمر بأمرٍ معين، بناءً على معطيات، أو معلومات، قد تكون ناقصة، أو قد تكون مغلوطة، فيتضح فيما بعد أن ذلك القرار، أو ذلك الأمر ليس مناسباً؛ لأنه كان فقط مستنداً إلى معلومات ناقصة، أو غير صحيحة، أو معطيات غير صحيحة، أو ناقصة، وهناك خيار أفضل، هناك ما يفترض أن يبنى عليه، أو يعتمد عليه في الموضوع آخر، غير ذلك القرار، أو غير ذلك الأمر، فلا يأنف الإنسان، أو يستكبر في أن يتراجع؛ لأن البعض من المسؤولين: محافظ، أو مسؤول معين، أو مدير أمن، أو أي مسؤول، في أي مستوى من مستويات المسؤولية، يتصور أن أي أمر منه يجب أن ينفذ فوراً، مهما كان خاطئاً، مهما اتضح أنه سلبي، مهما اتضح أنه ليس مناسباً، يقول: [خلاص قد صدر القرار، يجب أن ينفَّذ، لا يمكن أن أتراجع عنه]، لا ينبغي أن يتعصب الإنسان إرضاءً لاعتباراته الشخصية وحساسياته وعقده الشخصية، وكبره وغروره، مصلحة العمل ومرضاة الله فوق كل اعتبار، وعلى الإنسان أن يوطِّن نفسه في أدائه للمسؤولية على هذا الأساس: أن تكون مرضاة الله ومصلحة العمل فوق كل اعتبار، فوق اعتبار واقعه النفسي، مكانته الشخصية، أهمية موقعه الشخصي، الحساسيات النفسية… أي اعتبارات، لا تكن على حساب مرضاة الله، على حساب مصلحة العمل.
الإنسان مثلاً قد يصدر قراراً، أو أمراً، فلا يتهيأ تنفيذه على وجه السرعة؛ لأن هناك مثلاً عوائق معينة، أو ظروفاً معينة، تستدعي أن يكون هناك تهيئة، أو عمل يساعد على تنفيذ ذلك القرار، فليتفهم الإنسان تلك الظروف، تلك الوضعيات، لا ينظر هذه النظرة: [أنه ما دام صدر مني الأمر، فلابدَّ أن ينفَّذ على وجه السرعة، دون اكتراث ولا مبالاة بأي عوائق، بأي ظروف]، يجب أن تكون هناك معايير وموازين الحكمة حاضرة، مراعاة الوضعية، مراعاة الظروف، وأن يكون الإنسان متفهماً لذلك.
الإنسان إذا تصور أنه قد أصبح إلى درجة أن تنفَّذ كل أوامره مهما كانت، خطأً، غلطاً، سوءاً، ظلماً، صواباً أو غير صواب، كيفما كانت، وأصبح يتصور لنفسه أنه صاحب صلاحيات مطلقة، يقرر ما يشاء، ويفرض ما يريد، دون أي اعتبار لحق، وعدل، ورحمة، وحكمة، ومصلحة عمل… وغير ذلك، فهذه حالة خطيرة جداً، حالة خطيرة على الإنسان، ولذلك قال عنها الإمام عليٌّ “عليه السلام”:
((فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ))
يعني: إفساد، إفساد حتى لمشاعرك أنت، أنت تفسد حتى مشاعرك، حتى وجدانك، تحمل بدلاً من مشاعر الرحمة، ومشاعر الإيمان، ومشاعر التقوى والاتجاه إلى الله “سبحانه وتعالى”، تحمل مشاعر سلبية جداً: مشاعر الغرور، مشاعر الكبر، مشاعر الغطرسة، التمحور حول الذات، أنت تفسد قلبك، تفسد وجدانك، تفسد إيمانك في داخل قلبك، حتى في أعماق قلبك، ويسبب هذا قسوة القلب، سوء المشاعر، يعني: الأضرار المعنوية والخلل النفسي كبير في مثل هذه الحالة.
((وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ))
لأن هذا يضعف إيمانك، التزامك الإيماني، روابطك الإيمانية، أصبحت إنساناً مغروراً، متجبراً، طاغيةً، مستكبراً، تريد أن تُنَفَّذ أوامرك حتى لو كانت ظلماً، حتى لو كانت خطأً، حتى لو كان لها آثارها السيئة، لم يعد يهمك ذلك.
((وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ))
تَقَرُّبٌ من المتغيرات التي تُغَيِّر النعم، وتبدل الأحوال، وتسقط الدول، وتسقط الإنسان، تسقط الإنسان؛ لأنه إذا أصبح متعصباً لنفسه في كل تصرفاته وقراراته، حتى لو كانت خاطئة، لها تأثيرات سلبية في الواقع، آثار ونتائج سلبية في الواقع، فهذا يؤثر تأثيراً كبيراً، ويُقَرِّبُ الإنسان من الغِيَر، يبدل الله ما هو فيه من النعمة، يستبدل بدلاً عن العز الذل، عن التمكين السقوط وغير ذلك، بدلاً من القوة الضعف، بدلاً من المهابة والاحترام في نفوس الناس يسقط من نفوسهم… إلى غير ذلك، ففي الأخير يعاقب بعقوبة خطيرة جداً.
((وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً))
شعوراً بالعظمة والكبرياء؛ لأنك أصبحت في موقع السلطة، وترى الناس ينظرون إليك أنك مسؤول كبير، وصاحب سلطة معينة، ويحترمونك لأجل ذلك، والبعض يتملقون لك ويعظمونك، والبعض يشيدون بك، وهكذا، وأنت من جانبك تنظر إلى موقع السلطة أنه موقع كبير ومهم، فتشعر بالعظمة والكبرياء.
((أَوْ مَخِيلَةً))
تشعر بالغرور، والعجب بالنفس، وتعتبر نفسك إنساناً عظيماً ومهماً، وصاحب الإنجازات، وتنسى الله، وتنسى ما وفقك له، أو مكنك فيه، وتعتبر كل نجاح أنه يعود إلى عبقريتك الشخصية، ولم تعد تعتبر لله فضلاً ولا منة، ولا ترى إلا نفسك، وهذه حالة خطيرة، وتحصل للكثير من الناس، كثيرٌ من الناس يصلون إلى مواقع السلطة، أو مناصب المسؤولية، وكانوا قبل ذلك أناساً عاديين في مشاعرهم، متواضعين، ثم يتفرعنون، يطغون، يتكبرون، يعجبون بأنفسهم، تصيبهم هذه الآفات، هذه آفات خطيرة إذا لم يكن الإنسان منتبهاً لنفسه باستمرار وللتربية الإيمانية باستمرار.
((وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً، أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ، عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ))
عالج هذه الحالة؛ لأنها إذا تطورت في نفسية الإنسان يطغى، يتفرعن، يتكبر، يصل إلى حالة خطيرة جداً من الظلم والسوء، فيبادر الإنسان أول ما يشعر بشيءٍ من هذه المشاعر: مشاعر العظمة والكبرياء، أو مشاعر الغرور والعجب، هي من أخطر المشاعر، ومن أقبح ما يمكن أن يتلبس به الإنسان ويتأثر به الإنسان، من أكبر المفاسد التي تفسد الإنسان: الشعور بالكبرياء والعظمة، الشخصية الذاتية والغفلة عن الله “سبحانه وتعالى”، أو العجب والغرور والجحود لمنة الله ونعمته وتوفيقه.
عالج هذه المشكلة، إذا أحسست بمشاعر من هذا النوع، ((فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ))، لا تغتر بما أنت فيه من السلطة والمنصب، هو لا يساوي شيئاً في إطار ملكوت الله الواسع، ملكوت الله في السماوات والأرض وهذا العالم والكون الفسيح، ستظهر لا شيء، ستظهر أقل حتى من مستوى الذرة أمام هذا الملك الواسع الفسيح، وأيضاً تفكَّر في قدرة الله منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، حياتك بيد الله، موتك بيد الله، صحتك وعافيتك، أو مرضك، هرمك، كل واقعك مرتبطٌ بالله “سبحانه وتعالى”، رزقك بيد الله، الله هو الذي يعز، هو الذي يذل، هو الذي يصنع المتغيرات في واقعك على ما يشاء ويريد، يتصرف فيك بما يريده، بما لا تقدر عليه أنت حتى في نفسك، فمعناه: أنت لا تملك على نحو الاستقلال حتى نفسك، هل يمكن أن تتصرف في نفسك، وأن تمنع تصرف الله فيك، في نفسك، في حياتك، أو في موتك، أو في رزقك، أو في صحتك، أو في مرضك… أو في غير ذلك؟
ما هو فيك إنما منحك الله إياه، كل الطاقات، كل القدرات، كل القوة، وما وهبك وما أعطاك يمكن أن يسلبه منك في أي لحظة، اعرف قدرك، وعجزك، وضعفك، وحاجتك إلى الله، وافتقارك إلى الله “سبحانه وتعالى”.
((فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ))
يعني: يخفِّض، يخفِّض عنك مما أنت فيه من حالة الغرور، والحالة التي قد نشزت فيها وتجاوزت الحد في النظرة إلى نفسك والغرور بنفسك.
((وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ))
يخفف من حدتك؛ لأن الإنسان قد يتجاوز الحد في مشاعره حتى تجاه نفسه.
((وَيَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ مِنْ عَقْلِكَ))
يرد إليك ما كان قد غاب عن فهمك ووعيك؛ لأنك أصبحت تنظر إلى نفسك نظرة غير واقعية، وتفهم فهماً خاطئاً.
((إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ))
لا تخرج عن حدود عبوديتك لله، في الخضوع لله، والطاعة لله، والشعور بأنك عبدٌ ضعيف، عليك أن تطيع الله، عليك أن تتواضع لعباده، عليك أن تتعامل معهم من موقع عبوديتك لله والتزامك الإيماني في أدائك المسؤولية، لا تتكبر، لا تطغى، لا تتجبر، لا تتجه لممارسة الظلم بحق الناس من واقع التسلط عليهم، والجرأة عليهم، هذه الحالة من التجبر، والاستعظام للنفس، والتكبر على عباد الله والظلم لهم عواقبها سيئة.
((فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار))
مهما بلغت في جبروتك وطغيانك، سيذلك الله كما أذل غيرك، كم من الجبابرة في التاريخ تكبروا، طغوا، اغتروا بما بين أيديهم من الإمكانيات، والقدرات، والجيوش… وغير ذلك ولكنهم في الأخير سقطوا وذلوا، أذلهم الله نتيجةً لجبروتهم وطغيانهم.
((وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال))
الله يهين الإنسان الذي يتحول إلى مختال، مغرور ومعجب بنفسه، لم يعد يقبل النصيحة، لم يعد يتفاهم، لم يعد يراجع نفسه ليصحح أخطاءه، لم يعد يعرف الفضل والمنة لله “سبحانه وتعالى” عليه فيما وهبه، الغرور والعجب حالة خطيرة على الإنسان، ونتيجتها إذا كان الإنسان في موقع المسؤولية: تصرفات طائشة، إصرار على الخطأ، وعدم اعتراف بالخطأ، وممارسات سيئة جداً، وعدم تقبُّل لأي نصيحة، ولا تراجع عن أي خطأ، وهي حالة خطيرة جداً على الإنسان، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء: من الآية36]، فليحذر الإنسان من هذه الحالة، وتأثيراتها السيئة في موقع المسؤولية كبيرةٌ جداً.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛