بغياب العلامة الحبيب المشهور يخسر اليمن والعالم الإسلامي أحد رواد المدرسة الصوفية الإجلاء

‏موقع أنصار الله ||مقالات ||أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور

رحل العلامة الحبيب/ أبو بكر العدني المشهور باعلوي، إلى عالم الخلود الأبدي في يومٍ حزين مؤلم ومشبّعٍ بالأحاسيس الربانية الإيمَـانية، وقد حضر إلى مدينة تريم الغناء عشرات الآلاف من محبيه وأتباعه وأنصاره لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمانه الطاهر وتوديعه بالدعاء والدموع والآهات والحسرات.

رحل هذا الحبيب الهاشمي الجليل المشهور الذي ستفتقده حضرموت وصنعاء وعدن وأحور –أبين وشبوة والحديدة واليمن قاطبة، وتم مواراة جثمانه الطاهر يوم الأربعاء تاريخ 27/7/2022م، وكان بحقٍّ يوماً استثنائياً في تريم المدينة بحضرموت، فقدت أمتنا اليمنية والعربية والإسلامية أهم وأعظم عالم ديني متصوف في عصرنا الراهن، هناك العديد من أسماء العلماء المجتهدين الصوفيين في اليمن ولكن كان الحبيب المشهور أشهرهم، وهناك كُتاب باحثين إجلاء من هؤلاء العلماء، لكن الحبيب المشهور أغزرهم عطاء وأكثرهم كتابة واجتهاداً ومعرفة.

تعرَّفْتُ على الحبيبِ الهاشمي/ أبي بكر العدني المشهور باعلوي في مدينة عدن، حينما كنت نائباً لرئيس جامعتها في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، كان يدعونا باستمرار إلى جامع العيدروس في ضاحية كريتر، يدعونا في المناسبات الدينية العديدة، أَو حين الانتهاء من إحدى الدورات التعليمية التثقيفية الدينية؛ باعتبَار أنّ جزءاً من طلابه هم من طلاب جامعة عدن، وكنا نشترك معه في تلك الأنشطة كمحبين وتابعين صوفيين ومسؤولين في مدينة عدن، نشترك معه في تلك المناسبات في هذا الجامع المبارك جامع العيدروس الذي كان يقيم فيه دروسه وحلقات ذكره ومحاضراته وأنشطته المتعددة.

يمتاز الحبيبُ أبو بكر العدني بسعة علمه وغزارة فكره وعمق تحليلاته الدينية الاجتهادية، وكان له حضور روحاني ديني مُشع في جميع جلساته ولقاءاته كإنسان متميز مجتهد، ولذلك يلتف حوله المئات بل لن نبالغ إن قلنا الآلاف من طلابه ومريديه، ولذلك يجد الحاضرون معه في كُـلّ مرة من محاضراته ولقاءاته الفكرية متعة ولذة الأفكار المحمدية الصوفية الصافية لوجه الله العلي القدير، وفي المحراب المتجول للحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا يستمعون منه إلى شيء جديد مستنبط مبتكر من الواقع الذي يعالج فيه قضية ما، وإشكالية محدّدة، ويستقي من فكره الغزير النير آلاف الحُجج والأسانيد التي تتقابل مع واقع حياتنا المُعاشة، لتقديم المعالجات والحلول، وما أكثرها.

أنجز العلامة الحبيب المشهور في عمره القصير العديد من المهام في مسيرة حياته، منها تأسيس الأربطة الدينية، فقد كان هو الموجّه العام لأربطة التربية الإسلامية والمعاهد العلمية، وأسس مركز دار الزهراء لتعليم المرأة في تريم حضرموت، وله فروع في عدد من المحافظات، كما أسس مركز الإبداع للدراسات وخدمة التراث في حضرموت، وله فروع أَيْـضاً في عدد من المحافظات، كما أسس جامعة أهلية أكاديمية بجوار ضريح جده الحبيب أحمد بن عيسى الحسيني المهاجر عليه السلام في وادي حضرموت، وأسماها الجامعة الوسطية للعلوم الشرعية، قدم المحاضرات الدينية الاجتهادية والعلمية المكتوبة والمحكية والمنظورة على طول وعرض الكرة الأرضية، إذ بدأها من اليمن من عدن، وأبين، وصنعاء، وحضرموت، والحديدة وتعز والعديد من المحافظات اليمنية الأُخرى، وانتقل إلى السعوديّة، ومصر، والأردن، والمغرب، والسودان والحبشة، ثم انتقل إلى شرق آسيا من إندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، والصين، والهند وبنجلاديش وغيرها من البلدان، ليقدم خطاباته ومحاضراته الصوفية الرصينة.

تخرّج العلامة المشهور باعلوي من جامعة عدن في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وقد كان مسيطراً على حُكم اليمن الجنوبي آنذاك تنظيم (الجبهة القومية اليساري) والذي كان الحزب الاشتراكي اليمني امتداده، وكان يومها الاتّجاه السياسي والثقافي العام مُعادٍ للعلماء الإسلاميين تحديداً ومع ذلك كتب العديد من الأبحاث والدراسات الناقدة لذلك النظام الحديدي التوتاليتاري والذي تعامل مع فئة العلماء الدينيين بعداوة وقسوة، إذ قام بالعديد من الاغتيالات السرية والعلنية والسحل والتنكيل حَــدّ القتل في الشوارع العامة للعلماء المستنيرين في جنوب اليمن.

بعد الوحدة اليمنية المباركة أعطى النظام السياسي القائم مساحة واسعة للحريات العامة والسماح لحرية الرأي والرأي الآخر، وحرية الإعلام، والتوسع في بناء وترميم دور العبادة للجوامع والمساجد، وهنا سنحت الفرصة لبروز وتألق العلماء والمجتهدين من العلماء المتصوفة وغيرهم، وبرز عالمنا الجليل المشهور في تلك الأجواء والمساحات من الحرية للاجتهاد والكتابة والخطابة ومواصلة رسالة السلف من علماء الأُمَّــة الإسلامية.

قرّرت جامعة عدن عبر مجلسها العلمي في العام الأكاديمي 2014م أن تمنح الدكتوراه الفخرية للمفكر العلامة/ أبي بكر العدني المشهور باعلوي، وشُكلت لجنة علمية لمراجعة وتقييم الأعمال العلمية من الكتب التي ألّفها وقد بلغت يومها 78 كتاباً مرجعياً، أمّا الأبحاث التي أعدها فقد بلغت حينها أكثر من 350 بحثاً علمياً رصيناً، واطلعت على محاضراته المسموعة المُتلفزة والمسجلة التي بلغت حينها أزيد من 4000 محاضرة شاملة، بالإضافة إلى خطاباته وأحاديثه وكانت بالآلاف.

كلّ هذا الإنتاج الفقهي الفكري تم رفعه إلى مجلس جامعة عدن وبذلك استحق وعن جدارة اللقب العلمي الشرفي وهي الدكتوراه الفخرية.

لم يُنسِه عملُه الاجتهادي الفكري ولا سفرياته العديدة، ولا انشغاله الإداري وهو يُشرف على كُـلّ تلك المؤسّسات التربوية العديدة، عن التواصل الروحي والديني مع أتباعه وأحبابه وطلابه ومُريديه، وقد كان يبعث إليّ بتحياته وسلامه ودعواته الروحية لي شخصيًّا؛ باعتبَاري واحداً من المحبين له ومن المعجبين بشخصه وعلومه واجتهاده، يصلني بين حينٍ وآخر نفحات روحانية من دعواته العطرة ودعائه لي بالتوفيق والسداد في مسيرتي العملية والأسرية، وكنت أسعد كَثيراً بسماع ذلك الدعاء عبر أحد طلابه ومحبيه.

العلماء الروحانيون من الحبايب الهاشميين لهم مكانة خَاصَّة في أجساد وأرواح الناس من أتباعهم، وليس غريباً ذلك؛ باعتبَارهم موهوبين ببركات من الله وتمييز من عند الله بسعة علمهم واطلاعهم وفكرهم، إنهم عباد الله الصالحين الذين يمتلكون كرامات نادرة وروحاً خَاصَّة وتأثيراً استثنائيًّا تميزوا به عن غيرهم من بني البشر، فسلام الله عليهم يوم كانوا أحياءً بيننا، وسلام ورحمة على أرواحهم الطاهرة وهي في رحاب الخلود الأبدي مودوعة في العليين في السماوات العُلى بين يدي الله سبحانه وتعالى.

وهنا ملحوظة أودُّ إيرادها في هذه المرثية الحزينة على الحبيب، أنه في أحد الأيّام من صيف عام 2012م زارني الحبيب مع عدد من مرافقيه وأهدى جامعة عدن مجموعة من اللوحات الفنية ومما زاد اندهاشي أن تلك اللوحات الفنية هي من أعمال الحبيب الفنية وهو إبداع فني جانبي، لكنه إبداع جميل، وقد أهداني عدداً من هذه اللوحات لتكون ضمن مُقتنياتي الشخصية، كما أهداني كُتبه الشخصية ومعها (خاتماً وشالاً من الصوف) وقال إنها من بركات أخيك الحبيب أبا بكر، لا زلت أتذكر تلك اللحظات الاستثنائية الجميلة ولا زلت محتفظاً بهداياه الثمينة، ومُحتفظاً بها كتذكارٍ وَ(حرزٍ) خاص لها معاني كريمة وروحية لا يُدركها سوى المحبين للحبايب الكرام.

نعم نحن مُحبوه ونحن من خسرناه وخسره العالم الإسلامي والمدرسة الوسطية في الإسلام، لكننا ومن خلال ما ورّثه للإنسانية من علم واجتهاد وفكر وأعمال إنسانية سيبقى خالداً خلود الدهر وحاضراً في ضمير ووجدان كُـلّ من اتبع هذا الطريق وهذا المنهج القويم، والحمد والشكر لله رب العالمين.

﴿وَفَوْقَ كُـلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.

 

* رئيس مجلس الوزراء

قد يعجبك ايضا