الإمام الهادي وذكرى قدومه إلى اليمن ((إن هي إلا سيرة محمد أو النار))
سيرته
هو الإمام الهادي إلى الحق المبين، أبو الحسين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ولد بالمدينة المطهرة سنة خمس وأربعين ومائتين، وحمل إلى جده القاسم عليهما السلام فوضعه في حجره المبارك وعوذه، وقال لأبيه: بم سميته؟ قال: يحيى – وقد كان للحسين أخ يسمى يحيى توفي قبل ذلك – فبكى القاسم حين ذكره، وقال: هو والله يحيى صاحب اليمن.
قيامه عليه السلام: سنة ثمانين ومائتين، أقام الله به الدين في أرض اليمن، وأحيا به رسوم الفرائض والسنن، فجدد أحكام خاتم النبيين، وآثار سيد الوصيين
قدومه إلى اليمن:
ولما انتشرت فضائله، وظهرت أنواره وشمائله، وفد إليه وفد أهل اليمن، فسألوه إنقاذهم من الفتن، فساعدهم وخرج الخرجة الأولى، ثم كر راجعاً لما شاهد من بعض الجند أخذ شيء يسير من أموال الناس، فنزل بأهل اليمن من الشدائد والفتن ما لا قبل لهم به، فعاودوا الطلب وتضرعوا إليه، فأجابهم وخرج ثانيةً عام أربعة وثمانين.
ومن كلامه المأثور: (يا أهل اليمن لكم علي ثلاث: أن أحكم فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أقدمكم عند العطاء، وأتقدمكم عند اللقاء، ولي عليكم: النصح، والطاعة ما أطعت الله).
ولقد أقسم في بعض مقاماته أنه لا يغيب عنهم من رسول الله إلا شخصه (إن أطاعوه).
وما نشر الله في أقطار الدنيا أنواره، وبث في اليمن الميمون بركاته وآثاره – منذ أحد عشر قرناً – إلا لشأن عظيم، ولقد ملأ اليمن أمناً وإيماناً، وعلماً وعدلاً، ومساجد ومعاهد، وأئمة هدى، وما أصدق قول القائل فيه عليه السلام:
فسائل الشهب عنه في مطالعها
والفجر حين بدا والصبح حين أضا
سل سنة المصطفى عن نجل صاحبها
من علم الناس مسنوناً ومفترضا
وفاته: قبضه الله إليه شهيداً بالسم، وهو في ثلاث وخمسين سنة، ليلة الأحد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين ومائتين، ودفن يوم الاثنين في قبره الشريف المقابل لمحراب جامعه الذي أسسه بصعدة، وروى السيد أبو العباس عليه السلام أنه نعي إلى الإمام الناصر الأطروش فبكى بنحيب ونشيج، وقال: اليوم انهد ركن الإسلام.
مشهده بصعدة من أرض اليمن، وقد كان عليه السلام رأى نوراً ساطعاً في حال حياته، واختط الجامع المقدس على جذوة ذلك النور، وكان ذلك أول أساس لصعدة المعمورة ببركته عليه وعلى آبائه وذريتهم السلام.
وردفيه آثار عن جده النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) وأبيه الوصي (عليه السلام)، منها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشار بيده إلى اليمن، وقال: ((سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى الهادي يحيي الله به الدين)).
ومنها عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: (ما من فتنة إلا وأنا أعرف سائقها وناعقها، ثم ذكر فتنة بين الثمانين والمائتين (قال): فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي، يميز بين الحق والباطل، ويؤلف الله قلوب المؤمنين على يديه).
وقال عنه الإمام الناصر الأطروش عليه السلام وهو يحث الناس على نصرة الإمام الهادي يحيى بن الحسين: ((من يمكنه أن ينصره وقرب منه فنصرته واجبة عليه، ومن تمكن من نصرتي وقرب مني فلينصرني)).
قوته وشجاعته وبأسه
لقد كان الإمام الهادي (عليه السلام) على قدر عال من الشجاعة والبأس حتى أنه كان نسخة طبق الأصل من جده الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حمل ذا الفقار وأرواه من دماء الأعداء وهو القائل:
الخيل تشهد لي وكل مثقف
بالصبر والإبلاء والإقدام
ويشهـد ذو الفـقار بأنـني
أرويت حديه نجيع طغام
أما عن قوته فقد منحه الله قوة جسدية و كذلك قوة المعنوية، فكان قوي البنية، له ضربات حيدرية أشبه بضربات جده الإمام علي (عليه السلام)، ومن تلك الضربات ـ كما روى المؤرخون ـ أنه ضرب رجلا بنجران أخرج السيف من بين رجليه، فقال زعيمهم (استروا ضربة هذا العلوي والله إن رآها الناس لا تنصروا).
وكان لشدة بأسه وقوته يقوم مقام ألف رجل، كما يقول المؤرخون، ومن ذلك قوله لأصحابه الذين خافوا لقاء القرامطة لسماعهم عن كثرة جيشهم: (مما تخافون من عدوكم وأنتم آلفا رجل فقالوا ما نحن إلا ألف فقال أنتم ألف وأنا أقوم مقام ألف وأكفي كفايتهم) وقيل أنه خاض مع القرامطة ثلاثة وسبعين واقعة لم ينهزم في واحدة منها.
أبرز مواقفه البطولية
كان الإمام عليه السلام لا يعرف التراجع ولا يؤمن بالهزيمة فقد هجم عليه العدو في ريدة فهرب أصحابه وثبت الإمام في وجه عدوه مع قلة يسيرة ممن ثبتوا معه وعندما رأى الهاربون ثبات الإمام (عليه السلام) ونكايته بالإعداء ارتدوا إليه، فأوقعوا هزيمة منكرة بالأعداء، وقتلوا منهم خلقا كثيرا.
وفي إحدى معاركه مع آل يعفر وهو في قلة من أصحابه، هجم عليهم حتى خالطهم بأصحابه، وقتل حامل رايتهم، وهزمهم فتعجب الناس من شجاعته تلك، فلما بلغ الإمام الهادي (عليه السلام) قال: (ويحهم ما يعجبون من ذلك لو كان معي ألفا رجل وخمس مائة فارس مؤمنين لدوخت بهم عامة الأرض).
سعة علمه
لقد بلغ الإمام الهادي (سلام الله عليه) مبلغا عاليا من العلم والمعرفة، فكان يُرجع إليه في كثير من المسائل، وهو ابن السابعة عشر، وقد كان على امتداد حياته مرجعا في الدين من كل الطوائف الإسلامية، يستفتونه وهو يرد عليهم برسائل قيمة، وقد اجتمع المجبرة في حشد كثير لمناظرته وتقدم شيخهم يسأله: ممن المعاصي؟ فرد عليه الإمام الهادي (عليه السلام) (ومن العاصي؟) فبهت ذلك الرجل ورجع إلى أصحابه فقالوا له: لماذا لم تجبه؟ فقال: ويحكم إن قلت له الله كفرت، وإن قلت العبد دخلت في مذهبه، فدخلوا في مذهب الإمام الهادي (عليه السلام).
من أبلغ أقواله
تحدث حول قوله تعالى{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } تحدث الإمام الهادي عليه السلام عن الآية السابقة بقوله: (فيالها من تجارة ما أربحها، و يا لها من دعوة ما أرفعها، دنيا يسيرة فانية، وآخرة كبيرة باقية، وحياة أيام تزول بحياة أيام أبدا لا تحول، والنكد، والنصب، والشدة، والتعب، بالراحة، والسرور، والغبطة له في كل الأمور، فاز والله من بادر فاشترى الجنة بأيام حياته، وخاب من تخلف عن متابعة الله وسوّف).
وخطب مرة في الناس فقال لهم: (اتقوا الله في سركم وعلا نيتكم، إذا فعلتم شيئا ففعلوه لله خالصا، فإن أصلحتم سلاحا فتكون نيتم أنها لله) إلى أن وصل إلى قوله :(عليكم بتأنيب أنفسكم، فلو وعظتكم ثلاث سنين ثم فارقتكم ساعة لنسيتم ما وعظتكم به إذا لم تناظروا أنفسكم في خلواتكم، فعليكم بمناظرة أنفسكم بالخلوات، وعليكم بترك الغضب لغير الله حتى تذلوا أنفسكم له).
عـــــدله
كان الإمام الهادي (عليه السلام) شديد الخوف من الله، يتحرى العدل، ويقيم حدود الله، يخاف أن يقصر، أو يتجاوز في حق من حقوق رعيته، أو يداهن أحدا مهما كانت صفته، أو حالته، في حد لله لزمه، وكان يقول: (ماهو إلا الحكم بكتاب الله أو الخروج من الإسلام، والله لو قام حد على بني القاسم لأخذته منهم) قال عنه مؤلف سيرته، بينما كان الإمام الهادي (عليه السلام) عائدا من الصلاة، لقيته امرأة في الطريق، وهي تصيح أنقذني يا ابن رسول الله، فأنا امرأة مظلومة، فتوقف الإمام ليسمع منها، ولكن بعض خدمه حاول أن يعترضها، فنهره الإمام(سلام الله عليه) قائلا: (دعها ما أنت إلا جبار) ثم أمر أحد معاونيه أن يذهب معها في الحال وينظر في شأنها وكان كثيرا ما يقول لغلمانه: (أدخلوا عليا من لا يصلني من الناس إلا بكم فإنكم إلا تفعلوا تحرقوني وتحرقون أنفسكم بالنار) وشرب شاب من أمراء آل يعفر الخمر فبلغ الإمام الهادي (عليه السلام)خبره، فطلبه ليقيم عليه الحد، ولكن أسرته طلبت من الإمام التجاوز عنه مخافة أن يفضحهم بين الناس، فغضب الإمام(سلام الله عليه) لذلك وقال: (والله ماهي إلا سيرة محمد أو النار).
ورعه وتقواه
كان الإمام الهادي (عليه السلام) ورعا، تقيا، زاهدا، لا ينظر إلى الدنيا وزينتها، ولا إلى السلطة وزهوها، ولا يغتر بمظاهر الملك، على الرغم من اتساع رقعة دولته، بل كان دائما يفضل اللباس الخشن، وقد قال يوما وهو يقطع قباء ملحما (والله لو كنت بين مؤمنين ما لبست مثل هذا، ولا هذا من لباسي، وما أشتهي أن ألبس إلا الغليظ من الثياب) وكانت نفقاته هو وأسرته تأتيه من ماله في الرس.
حرصه على صلاح الأمة
لقد كرس الإمام الهادي (عليه السلام) حياته كلها لإنقاذ الناس من الظلم والجهل فقضى عمره جهادا وتعليما للناس أمور دينهم، وإحياء ما أماته الظالمون من فرائض الله وسننه، حاثا لهم على تعلم كتاب الله وتلاوته، ومحرضا لهم على جهاد أعداء الله، ببصيرة ووعي، موجها لهم نحو الهدى والرشاد، يطوف الأسواق فيعلمهم الحلال من الحرام، والبيع من الربا، يأخذ على يد الغاش، ويؤدب المحتكر، يحل خلافاتهم، ويصلح ذات بينهم، منتصفا للمظلومين، ومناهضا للمتكبرين، وزاجرا للمضلين، وموضحا الحق المبين، وكان حريصا كل الحرص على صلاح الناس، سالكا في ذلك مسلك آبائه الطاهرين(سلام الله عليهم أجمعين) ومن ذلك قوله: (والله لو ددت أن الله أصلح أمر هذه الأمة، وإني جعت يوماً وشبعت آخر).
أساليب تربوية في بيعة الإمام الهادي
ومما يدل على حرصه الشديد على إصلاح الأمة والرقي بها نحو الكمال في كل الجوانب ما ورد في سياق بيعته من أساليب تربوية راقية حيث كان للإمام الهادي عليه السلام بيعتان بيعة عامة يأخذها من كل الناس استخدم فيها أساليب تربوية عامة شملت كل من تقدم ليبايعه من أبناء المجتمع اليمني، وبيعة خاصة سميت ببيعة الصبر يستوثق فيها على المخلصين من أتباعه العهود والمواثيق المغلظة على الثبات والصبر في كل الظروف والأحوال مهما كانت النتائج وأن يبقوا على السمع والطاعة والنصح والنصرة لا تغيرهم الأهوال ولا تتبدل بهم الأحوال باقين على بيعتهم تلك ما بقي ملتزما بدين الله فإن حال عنه أو مال فلا بيعة له عليهم وهما كما يلي.
أولاً: البيعة العامة
هدفت هذه البيعة إلى إصلاح المجتمع، ودمجه ضمن مسيرة جهادية عامة من خلال الإيمان الواعي بمفاهيم المسؤولية الفردية في إطار المسؤولية الجماعية، بما يؤهل الفرد لأن ينطلق في هذه المسيرة المباركة دون تقاعس أو بحث عن مبررات مهما كانت الصعوبات.
فكان إذا جاءه الرجل يريد بيعته؛ تكون صيغة البيعة أشبه ما تكون بدورة تأهيلية ترفع من مستواه، ويتضح ذلك من خلال نص البيعة التي تذكر الفرد بمسؤولياته؛ إذ كان -سلام الله عليه-“يأخذ بيد الرجل فيستتيبه قبل أن يبايعه، فيقول له (قل: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، وإلا فعليك عهد الله ميثاق أشد ما أخذ الله تعالى على النبيين من عهد أو عقد أو ميثاق لَتَنْصُرَنّني ولتقومن بالحق معي، ولتأمرن بالمعروف ولتنهين عن المنكر، ولتأخذن الحق ممن وجب عليه من قريب أو بعيد أو شريف أو دنيء، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولتطيعني ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليك).
فالبداية تكون في تطهير النفوس، وذلك من خلال التوبة قبل كل شيء، والتخلص من أدران الذنوب لما لها من أثر سلبي على النفس وزكائها، ولما لها من نتائج سلبية تمنع المعية الإلهية، فتحرم الفرد من التأييد الإلهي، ويكون أبعد ما يكون عن النصر الإلهي.
بعد أخذ العهود بالنصرة، وبالقيام بالحق، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يأتي ضمن نص البيعة شرط الوفاء من الطرفين (ولتطيعني ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليك) وهذا معناه أن الفرد ملزم بالسمع والطاعة للإمام ما دام الإمام في إطار الشرع الإلهي، فإذا صدر من ولي الأمر أو من الحاكم ما يخالف أوامر الله فلا طاعة له.
ثانياً: بيعة الصبر
أما بيعة الصبر فقد كانت بيعة خاصة للنخبة من الرجال المؤمنين من أصحابه والتي يحدث الرواة أن هؤلاء النخبة من المؤمنين الصادقين الصابرين كانوا “يصبرون على الجوع والجهاد والضرر” هذه النخبة المؤمنة يربيها الإمام الهادي تربية خاصة في ظروف خاصة ليؤهلهم لمواجهة النوائب، وللقيام بالمهمات الصعبة، وخوض الأهوال والشدائد بكل اقتدار.
صيغة بيعة الصبر
يقول صاحب السيرة “كنت عنده جالسا فأتاه رجلان، فقالا له : يا ابن رسول الله نريد نبايعك بيعة الصبر، فقال لهما:(اجلسا على بركة الله، ثم ابتدأ فوعظ موعظة بليغة، وقال لهما: إني ناظرت نفسي فأحببت أن أختص إخوانا مؤمنين، يصبرون معي على ما أقول لهم، وإن الأمر عظيم صعب، والناس قد بايعوني وأنتما بايعتماني، ولكن هذا شيء أريد أن أختص به إخوانا يصبرون معي على الجوع والجهد والضرر، حتى يقتسم كل أربعة ثوبا فيأخذ كل واحد منهم خرقا يتوارى بها للصلاة، فإن كنتما تصبران على هذا فتقدما). فقالا: (نصبر معك على هذا. فتقدما فأخذ عليهما العهد، وزاد فيه: لتصبران معي على البأساء والضراء، والشدة والرخاء، والجوع، حتى يحكم الله بيننا وبين عدونا بالحق وهو خير الحاكمين).
حبه للجهاد في سبيل الله ومقارعة الظالمين
لقد أفنى الإمام الهادي (عليه السلام) حياته جهادا في سبيل الله، ومناجزة لأعداء الله، متنقلا من منطقة إلى أخرى، غير آبه بما كان يتلقاه من عناء السفر، وغدر العدو، فهو ذلك الذي يرى في الجهاد قرة عينه وسعادة نفسه، وراحة باله، لما يعلمه من فضل الجهاد، وأجر المجاهد في سبيل الله، وكرامته عند الله، ولحرصة على نصرة دين الله، وهزيمة أعداء الله، وصلاح أمة جده(صلوات الله عليهم أجمعين) فيقول معبرا عن ذلك الحب: ((والله لو أطاعني الناس ما تركت قتال هؤلاء الظلمة يوما واحدا في حرّ ولا برد، حتى ألحق بالله، أو ينصرني الله عليهم، وودت أني لا أنزل عن سرجي ليلا ولا نهارا إلا لوقت صلاة، حتى يظهر الله الحق بي أو ألحق به سبحانه، فالله المستعان على عجز الناس، وقلة ثباتهم، وضعفهم عن إقامة الحق))
ويقول في فضل الجهاد في سبيل الله (إن أفضل ما افترض الله على عباده الجهاد في سبيله، جعله حجة مؤكدة فيهم وفضيلة شرعها عليهم قال تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يُنال إلا بالإقدام والتصميم، والنية والاعتزام الكريم على الجهاد في سبيل الله، وتوطين الأنفس على ملاقاة أهل الظلم والطغيان، فحينئذ ينال ذلك، ويؤدي فرض الله من كان كذلك، وفي ذلك يقول في واضح التنزيل: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ َمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإن اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ولفضل الجهاد أمر الله نبيه بالتحريض للمؤمنين عليه قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}.
وما ذكر الله من تفضيل الجهاد فأكثر من أن يحيط به كتاب، وهو معروف عند من رزق فهمه من ذوي الألباب وكيف لا يكون للجهاد في سبيل الله فضل على جميع أعمال المؤمنين، وبه يحيا الكتاب المنير، ويطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويعز الإسلام، ويأمن الأنام، وينصر المظلوم، ويتنفس المهموم، وتنفى الفاحشات، ويعلو الحق والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويعز أهل التقوى، ويذل أهل الردى، وتشبع البطون الجائعة، وتكسى الظهور العارية، وتقضى غرامات الغارمين، وينهج سبيل المتقين، وينكح الأعزاب، ويقتدى بالكتاب، وترد الأموال إلى أهلها، وتفرق فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق، وتفرق عليهم الأرزاق).
حظر الجهاد إلا مع من اصطفاه الله
وفي هذا السياق يقول الإمام الهادي عليه السلام (ثم إن الله، جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله، حظر الجهاد مع جميع مَن خَلَق من العباد إلا من اصطفى، وأؤتمن على وحيه من عترة رسوله صلى الله عليه وعليهم، الذين هدى بهم الأمة من الضلالة والهلكة، لما في الجهاد من القتل والقتال، وسفك الدماء وأخذ الأموال، وهتك الحريم، وغير ذلك من الأحكام، وذلك فلا يكون إلا بإمام مفترض الطاعة، ولا يكون إلا من آل محمد صلى الله عليه وعليهم، الذين استنقذ الله بهم الأمة من شفا الحفرة، وجمع بهم كلمتها، وألف بين قلوبهم من بعد الافتراق والاختلاف، والتشاجر وقلة الائتلاف، فأصبحوا بنعمة الله على الحق مؤتلفين، ولما كانوا عليه من الكفر مجانبين، يعبدون الرحمن من بعد عبادة الأوثان، ويقرون بمحمد عليه السلام، داخلين في النور والإسلام، ناجين من عبادة الشيطان، تالين لآيات القرآن، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويقرون بالربوبية للواحد الجبار. قد اختار الله لهم منهم أئمة هاد الصَّادِقِينَ} وفيهم وفي آبائهم ما يقول سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} فجعل الولاية لهم خاصة، وأنزل الوحي عليهم بذلك وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتى؛ إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.)) فبين بذلك أنه من تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى وفيهم يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما أحبنا أحد فزلت به قدم إلا ثبتته قدم حتى ينجيه الله تعالى يوم القيامة.)) وفيهم يقول: ((إن مثل أهل بيتى فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخل عنها غرق وهوى.)) وفيهم يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} فجعل طاعتهم موصولة بطاعة رسوله، وطاعة رسوله موصولة بطاعته، ومعصيتهم مقرونة بمعصية نبيه، ومعصية نبيه مقرونة بمعصيته، فمن عصاهم فقد عصى الله سبحانه ورسوله، ومن أطاعهم فقد أطاع الله.