“انتزاعُ الحقوق” كعنوان للمرحلة: نحوَ تجريد العدوّ من سلاح التجويع

||صحافة||

مثّلت الضربةُ التحذيريةُ النوعية التي نفّذتها القواتُ المسلحة، الجمعة، لفرضِ قرارِ حظرِ نهبِ النفط اليمني، تدشيناً عمليًّا لمسار قوة جديد كانت صنعاء قد أعلنت عنه في المرحلة الأخيرة من الهُــدنة المنتهية، وهو مسارٌ قد لا يكون عنيفاً مثل مسارات الردع العابر للحدود، لكنه يحمل تحولات وتأثيرات على نفس القدر من الأهميّة والاحترافية؛ كونه يفرض معادلاتٍ استراتيجيةٍ من شأنها أن تجرِّدَ تحالفَ العدوان من آخر أسلحته التي يستخدمُها ضد الشعب اليمني، وتضعُه في مأزق أصعب مما هو فيه، مع الأخذ بعين الاعتبار منعَه من استغلال غطاء مفاوضات تجديد الهُــدنة للمراوغة والمماطلة، الأمر الذي يعني النجاحَ في إجباره على مواجهة الخيارات والتطورات التي يحاول الالتفاف عليها.

المسار الذي دشّـنته العمليةُ التحذيرية هو مسارُ إنهاء سيطرة تحالف العدوان على موارد البلد واستخدامها كأدَاة ضغط وتركيع وسلاح حرب ضد الشعب اليمني، وهي نقطةٌ حساسة للغاية ومحورية في المعركة؛ لأَنَّ تحالفَ العدوان ورعاته باتوا يعلّقون الكثير من الآمال ويهندسون الكثير من المخطّطات بناءً على استخدام هذه الورقة بالذات، وما تعنُّتُهُم خلال المفاوضات ورفضهم لمطالب صنعاء إلا جزءٌ من محاولاتهم الواضحة لاستغلال سيطرتهم على الموارد وتحويلها إلى مدخل للحصول على المكاسب التي عجزوا عن تحقيقها بالقوة.

لم يكن يُفترَضُ أن يكونَ تدشينُ هذا المسار أمراً مفاجئاً بالنسبة للعدو، لو كان يقرأ المشهدَ بشكلٍ صحيح؛ لأَنَّ صنعاءَ قد حذّرت في بداية التمديد الأخير للهُــدنة، على لسان رئيس الوفد الوطني محمد عبد السلام من أنها ستتوجّـه إلى منع الشركات الأجنبية من نهب النفط اليمني، في حال عدم التوصُّل لاتّفاق يضمن صرف المرتبات من إيرادات البلد، إضافة إلى رفع الحصار، وهو تحذيرٌ تصدَّر المشهد بعد ذلك عندما وجّهه قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، ثم الرئيس مهدي المشاط، والقوات المسلحة، لكن تحالف العدوان ورعاته اختاروا تجاهل كُـلّ ذلك -كالعادة- فقط ليتبينَ لهم في النهاية أن صنعاءَ لا تمزحُ الآن، مثلما لم تمزح أبداً طيلة السنوات الماضية.

الطريقةُ السلبية التي تعاطى بها تحالفُ العدوان ورعاته مع التحذيرات برغم حساسيتها وجديتها، أكّـدت بوضوح أنهم يعتمدون في موقفهم التفاوضي على حسابات خاطئة مبنية على فرضية أنهم قد نجحوا في تقييدِ وتضييق خيارات صنعاء خلال الهُــدنة، وهو ما يجعل العمليةَ التحذيرية صدمةً كبيرة لهم، ليس فقط من ناحية أنها أثبتت خطأ تلك الحسابات تماماً، بل أَيْـضاً من ناحية أنها تكاملت بشكلٍ ذكي مع موقف صنعاء التفاوضي لتجعلَ موضوعَ تحرير الموارد وصرف المرتبات ضرورةً وأمراً حتمياً سواءً بالتفاهم أَو بالحرب، وليس مُجَـرّد مطلبٍ لحظي قابل للتغيير أَو التعديل، وهذا بحدِّ ذاته يعتبر انتصاراً على الضغط الذي يحاول العدوّ من خلاله التحكم بآلية ومعطيات التفاوض لمصلحته.

بعبارةٍ أُخرى: إن تحالفَ العدوان يفاوضُ لتمديد الهُــدنة؛ باعتبَارها مخرجاً التفافياً من مأزقه في اليمن، لكن صنعاء تفاوضُ على أَسَاس أن المرحلةَ هي مرحلة استعادة الحقوق وأن الهُــدنة هي مُجَـرّد وسيلة من وسائل متعددة لتحقيق هذا الهدف، ونجاحُ العملية التحذيرية في منع نهب مليوني برميل من النفط الخام هو دليل قاطع على صنعاء استطاعت قلب الطاولة التي صممها العدوّ وبدلاً عن أن تنجر للمساومة كما خطط هو، تمكّنت من فرض “الاستحقاقات” كعنوان رئيسي وحيد للمرحلة الراهنة بكل تفاصيلها بما في ذلك المفاوضات والهُــدنة وعلى العدوّ أن يعيد وضع حساباته تحت مظلة هذا العنوان، وليس بناء على مطامعه وآماله.

إنها ضربةٌ من النوع الذي يغيّر كُـلّ شيء فجأة، وهو النوع الذي تتميَّزُ به صنعاءُ دائماً، لكن هذه المرة لم يكن العامل المؤثر هو شدة الضربة أَو أثرها المادي، بل الاحترافية في استخدام القوة وموائمتها مع متطلبات المرحلة وطبيعة الهدف المرجو، فالغايةُ لم تكن إحداثَ أي ضرر ولم تكن استهداف الميناء، بل إبعاد السفينة ومنعها من نهب شحنة النفط الخام، وقد تحقّق ذلك بأفضل وأسرع طريقة ممكنة، وبصورة تؤكّـد بوضوح أن الأمر ليس حدثاً ثانوياً منفرداً يمكن تجاهله، بل فاتحة لتوجّـه عملي دقيق ومدروس بعناية وسيستمر وربما يتصاعد إذَا استمر تحالف العدوان ورعاته بالتعنت.

هذا ما أكّـدته أَيْـضاً المعلوماتُ التي كشفت تفاصيلَ متابعة صنعاء لتحَرُّكِ السفينة وتحذيرها بشكلٍ متكرّر، والانتباه لمحاولة استبدال السفينة بأُخرى، وُصُـولاً إلى النجاحِ في تنفيذ الضربة بدقة متناهية وبدون أي أضراراً مادية، فكل هذه الأمور توضح أن صنعاء قد أخذت على عاتقها فرض معادلة حظر تصدير النفط لصالح العدوان ومرتزِقته بشكلٍ كامل، حتى تحقيق المطالب المشروعة، مهما كان الثمن، ومهما حاول العدوّ إعاقة ذلك.

وقد كشفت مصادرُ مطلعة أن المبعوثَ الأمريكي إلى اليمن تيم ليندركينع كان قد حاول طيلةَ الفترة الماضية إقناعَ صنعاء عن طريق وسطاء بالسماحِ للسفينة بتحميل الشحنة النفطية، فجاءت العملية كردٍّ مباشرٍ وشجاع على تلك المحاولات، لإزالة أية أوهام لا زال تحالف العدوان ورعاته يحملونها.

لكن ردة الفعل التي أبداها تحالفُ العدوان ورعاتُه والأممُ المتحدة حتى الآن إزاء العملية تؤكّـد أنهم ما زالوا يعتمدون على الحسابات الخاطئة نفسها، فالإداناتُ التي صدرت، السبت، تعمّدت إظهارَ الضربة وكأنها استهدافٌ مباشرٌ لميناء الضبة أَو للسفينة، والغرضُ هو خلقُ المزيد من الضغوط على صنعاء وإرهابها لتتخلّى عن معادلتها الجديدة وبالتالي تعدل موقفها التفاوضي، لكن الحقيقةَ التي تجاهلتها تلك الإدانات هي أنه لو كان أُسلُـوبُ الضغط والترهيب يعطي نتيجةً لما حدثت الضربة أصلاً، ولما وصلت صنعاء إلى موقع القوة الذي تقف فيه اليوم بعد ثماني سنوات من العدوان، وهي حقيقةٌ قد يراها تحالف العدوان غيرَ مهمة، لكنها تثبت مرة بعد مرة أنها هي الحقيقة الأهم.

هذا أَيْـضاً ما ستثبته الأيّامُ القادمة؛ لأَنَّ الضغوطَ التي يحاول تحالفُ العدوان توجيهَها ضد صنعاء ستتبخر عندما تحاول سفينةٌ أُخرى الاقترابَ من موانئ تصدير النفط لنهب شحنة أُخرى، أَو عندما يحاول العدوّ الانتقامَ بتشديد إجراءات الحصار ومنع سفن الوقود من الوصول إلى ميناء الحديدة، حَيثُ ستبرز المزيد من ملامح مرحلة ومسار انتزاع الحقوق، وبصورة من المرجَّحِ أن تصدمَ العدوَّ مرةً أُخرى.

وهذا سيعني بدوره أن محاولةَ استغلال مفاوضات تجديدِ الهُــدنة كغطاءٍ للمماطلة وإضاعة الوقت ستعودُ بالمزيد من النتائج السلبية على تحالف العدوان ورعاته؛ لأَنَّ صنعاء قد أوضحت بما لا يدعُ مجالاً للشك أنها ماضيةٌ في فرض مسار حماية الثروة ومنع استغلالها من قبل العدوّ، وأنها ليست معنيةً برغبته في تأجيل ذلك أَو تأخيره؛ لأَنَّ القرارَ ليس قراره أصلاً.

 

صحيفة المسيرة

قد يعجبك ايضا