السوقُ المشتركة لدول محور المقاومة.. أولويةٌ لمواجهة التحديات الراهنة
||صحافة||
تتسمُ العلاقاتُ الاقتصاديةُ الدوليةُ في وقتنا الحاضر بالترابط والتشابك لدرجة كبيرة، حَيثُ تسعى معظم دول العالم، سواء المتقدمة أَو النامية، إلى إنشاء تجمعات وتكتلات اقتصادية في نطاق روابطها المشتركة الثنائية أَو المتعددة؛ وذلك في سياق سعيها لمواكبة التطورات التي تحدث في العالم أَو لموجهة التحديات التي قد تحدث لأية دولة نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية على المستوى الدولي أَو الإقليمي.
وتأتي هذه التكتلاتُ الاقتصادية؛ بغرض تحقيق تنمية اقتصادية لعدد من الدول ذات الروابط المشتركة، حَيثُ تعمل على إبرام اتّفاقيات ومعاهدات تعاون مشترك في توحيد الإجراءات المالية والاقتصادية وفتح أسواق مشتركة تهدفُ تلك الدولُ من خلالها إلى بيع وتسويق جميع منتجاتها الزراعية والصناعية، وتبادل الخدمات بكافة أشكالها، والتخلص من الإغراق السلعي للسلع الأجنبية المنتشرة في أسواقها المحلية.
وتقوم السوق المشتركة لتحقيق أهداف أُخرى وهي التخلص من الهيمنة الأجنبية على اقتصادياتها القومية والوقاية المستقبلية للعقوبات الاقتصادية التي قد تتخذها دول الاستعمار والاستكبار العالمي والتي تتمثل في فرض حرب اقتصادية على الدول المناهضة لها سواء المتقدمة أَو المتخلفة؛ بهَدفِ السيطرة عليها وإخضاعها بالقوة والتحكم بثرواتها الاقتصادية.
ومن أمثلة التكتلات الاقتصادية التي فشلت الدول العربية في تحقيقها هي إنشاءُ السوق العربية المشتركة، الذي كان بمثابة حلم للدول العربية والذي تعثر إنشاؤها لعدد من الأسباب: منها اجتماعية تمثلت في الاختلاف والتباين في مستويات المعيشة بين مختلف الدول العربية، وأسباب سياسية تمثلت في الصراعات والخلافات السياسية التي زرعتها دول الاستكبار العالمي، حَيثُ فشلت الجامعة العربية في حَـلّ معظم العقبات التي كانت سبباً في عدم قيام سوق عربية مشتركة، كان من أهمها: الفشل في توحيد العملة النقدية، وفي إنشاء ميثاق الضمان الاجتماعي وهيئة اقتصادية مشتركة، وصعوبة في تطبيق مبدأ حرية التجارة بين الدول العربية، وأسباب اقتصادية أُخرى أبرزها القيود الجمركية وعدم الاتّفاق على قواعد وإجراءات جمركية مشتركة فيما بينها وعوامل أُخرى أَسَاسية تمثلت في ضعف وغياب الإرادَة السياسية، وتغليب رؤساء الدول العربية مصالحهم الشخصية على المصالح العامة للشعوب العربية، أَو بمعنى آخر يرجع إجهاض هذا المشروع على رأس أجندات دول الهيمنة العالمية التي يتعارض قيام مشروع السوق العربية المشتركة مع مصالحها الاستعمارية.
وإذا تعثر مشروع السوق العربية المشتركة نتيجة الأسباب والعقبات التي ذكرناها سابقًا، يبقى مقترحُ إنشاء السوق المشتركة لدول محور المقاومة أولوية وضرورة ملحة للتخلص من جميع المشاكل والأزمات الاقتصادية والتحرّر من الهيمنة الاستعمارية، وبناء اقتصاد قوي يعزز القرار السيادي ويعتمد على الاكتفاء الذاتي، ويقاوم الصدمات والعقوبات الاقتصادية، والاكتفاء الذاتي هو قدرة الدول على إنتاج جميع الاحتياجات الأَسَاسية محليًّا، من خلال الاعتماد الكامل على الموارد والإمْكَانيات الذاتية والاستغناء كليًّا عن الاستيراد؛ لتلبية هذه الاحتياجات، وَأَيْـضاً من أهميته أنه يحمي الدولة في حال تعرضها للحصار؛ أي أن الاكتفاءَ الذاتي يعد حماية وطنية، ويخفف من حاجات الدولة في توفير العملات الأجنبية لاستيراد المواد الأَسَاسية، كما أنه يخفّف الضغطَ على ميزان المدفوعات وينهي العجز في الموازنة العامة، ويحافظ على سعر قيمة العملة الوطنية، بالإضافة إلى أنه يحقّق شعوراً بالعزة والكرامة للدولة واستقلالية في قرارها، ويخلق فرص عمل، ويعتبر حلاً للعديد من المشكلات ومنها مشكلة البطالة، ويقصد بالاكتفاء الذاتي أن يعتمدَ بلدٌ ما على إمْكَانياته الخَاصَّة للحصول على احتياجاته من السلع الاستهلاكية والاستثمارية؛ بهَدفِ التقليل من مستوى التبعية السياسية والاقتصادية للدول الأجنبية الأُخرى، وبالتالي تحقيق درجة أعلى من الاستقلالية في قراراته ومواقفه الدولية والداخلية، ويكون لذلك فعالية أكبر عندما يكون هذا البلد يعمل على تسويق منتجاته في إطار السوق المشتركة لعدد من الدول التي تتبادل المنتجات المحلية فيما بينها.
وقد أكّـد قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي -يحفظه الله- في كثير من محاضراته على الاهتمام بالوضع الاقتصادي، وتطرق إلى العديد من القضايا المهمة التي تختص في هذا الجانب وما له من علاقة قوية في استقلال وسيادة وعزة وكرامة بلادنا، وعدم التبعية والارتهان إلى الخارج، وأن من يملك قوته يملك قراره وحريته وسيادته، كما أكّـد على ضرورة العمل على تطوير الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي والسعي للوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي بدلاً عن الاعتماد على المنتجات الخارجية، وقال: إن علينا أن نعيَ ضرورةَ الإنتاج المحلي، حَيثُ ونحن الآن نستوردُ كُـلَّ متطلبات حياتنا وبأموال كبيرة جِـدًّا وبمليارات الدولارات سنوياً. وَأَضَـافَ: إن مليارات الدولارات التي تذهب للخارج لو صرفت نحو الداخل فهي ستشغل الفقراء، بدلاً عن ذهابها إلى جيوب الدول الأجنبية.
وفي هذا الإطار إضافة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي للدول الأعضاء في السوق المشتركة والاستغناء عن المنتجات والسلع الخارجية؛ يوجد العديد من المميزات الاقتصادية الأُخرى، حَيثُ تعتبر السوقُ المشتركة شكلاً متقدماً من أشكال التكامل الاقتصادي، وتقوم على أَسَاس حرية انتقال رؤوس الأموال والأيدي العاملة، وحرية تبادل السلع والمنتجات، وإقامة اتّحاد جمركي موحد، وحرية الإقامة والعمل وممارسة النشاط الاقتصادي، واستعمال وسائل النقل والموانئ والمطارات المدنية بين الدول المشاركة في السوق، ودواعي قيام سوق مشتركة لدول محور المقاومة كثيرة وتتصاعد أهميتها تدريجيًّا؛ فهي تأتي في مجملها لحل المشكلات الاقتصادية والأزمات المالية والنقدية الداخلية والخارجية التي تعاني منها دول محور المقاومة.
كما يمكن أن يحقّق مقترحُ إنشاء السوق المشتركة لدول محور المقاومة عدة مكاسب لكل الدول المشاركة فيها، منفردة كانت أَو مجتمعة، على المستوى الداخلي أَو الخارجي، وتتمثل تلك المكاسب الاقتصادية في تحقيق معدلات نمو في الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط نصيب دخل الفرد منه، وقيام مشاريع كبيرة متخصصة ومتنوعة في الجانب الزراعي والصناعي، وتبادل الخبرات والكفاءات العلمية والمهنية للأيدي العاملة، واستغلال الثروات الطبيعية على مستوى كُـلّ قطر، كما يساعد تكوينُ التكتل الاقتصادي في تقوية أي موقف تفاوضي في العلاقات الاقتصادية والتجارية مع أية مجموعات اقتصادية أُخرى، ويأتي على رأسِ مكاسب قيام هذه السوق المشتركة بناءُ اقتصاد قوي ومتطور قادر على تحمل أعباء الدفاع، والوقوف أمام التحديات الأمريكية والصهيونية في إفشال مخطّطاتهم في السيطرة على ثروات المنطقة، وأن تشكيل قوة اقتصادية وسوق واسعة يحسب لها ألف حساب من قبل الدول الاقتصادية الكبرى في العالم.
ومما لا شك فيه فَـإنَّ دول محور المقاومة تتوفر فيها مميزات السوق الكبيرة من عدة نواحٍ؛ إذ تتوافر فيها المقومات الاقتصادية من ثروات طبيعية كالنفط والغاز والفوسفات والحديد والأملاح والخامات الزراعية وغيرها، إضافة إلى المواقع الجغرافية التي تمتاز بها من موانئ وممرات استراتيجية وتجارية، كما تتوفرُ في هذه الدول الكتلةُ البشرية الضخمة، وهي بحد ذاتها توفرُ سوقاً استهلاكيةً كبيرة للمؤسّسات والشركات الإنتاجية الكبيرة، مع توفر في القوى العاملة على اختلاف مستوياتها، ومن تلك المميزات أَيْـضاً: توفر رؤوس الأموال لدى أعضاء الدول المشاركة، خُصُوصاً النفطية، مع توافر المناخ الاستثماري الآمن للدول ذات الكثافة السكانية والأيدي العاملة الكبيرة، والتي تمتلك معظم الخامات التي تعتمد عليها المنشآت الإنتاجية في مدخلات إنتاجها.
ومن التوصيات الضرورية الواجبِ العملُ بها لقيام السوق المشتركة تتمثل في: ضرورة توافر الإرادَة السياسية والوعي الكافي لمعرفة قيمة التعاون الاقتصادي المشترك والمكاسب التي سوف تعود على الدول الأعضاء وعلى رأسها توفر التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوب تلك الدول، كما لا بدَّ من توفر بنية اقتصادية مساندة لمشاريع التكامل الاقتصادي تتمثل في: وجود خدمات وأجهزة مساندة ومتطورة، واستكمال بناء البنية التحتية من شبكات طرق ووسائل نقل والعمل بالطرق الحديثة لعملية التسويق والتمويل، وتشجيع الاستثمار ومعالجة بعض الاختلالات التي يجب أن تترافقَ مع مشاريع التعاون الاقتصادي في نجاح عملية تنمية كاملة ومدروسة لقطاعات الإنتاج، وتنسيق السياسات المالية والنقدية والأنظمة والمعلومات والسياسات المتعلقة بالزراعة والصناعة وسياسات الاستيراد والتصدير بين الدول الأعضاء، وجعلها منطقة جمركية حرةً، وتلاشي الفوارق والتباينات اقتصاديًّا وسياسيًّا.
وللوصول لهذه الأهداف في قيام سوق مشتركة يجبُ اتّباعُ عدة مراحل: منها مرحلة الاندماج الاقتصادي الكامل، ومرحلة الاتّحاد الجمركي، ومرحلة إنشاء منطقة التجارة الحرة.
وفي حال نجاحِ قيام سوق مشتركة لدول محور المقاومة سوف تكونُ درعاً حصيناً وأَسَاساً متيناً لمواجهة أية تحديات اقتصادية أَو سياسية أَو عسكرية قد تعترض الدول الأعضاء مستقبلاً.
صحيفة المسيرة: د. يحيى علي السقاف