ويطعمون الطعام (الحلقة الخامسة)

|| مقالات ||| إبراهيم محمد الهمداني

نماذج مشرقة في سماء الإطعام والعطاء

2- أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

 

كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، شخصية فارقة متميزة على كافة المستويات والأصعدة، وقد رافقه ذلك التفرد والتميز، في كل محطات حياته الكريمة، بدءا من أول لحظات حياته، ومولده الشريف في جوف الكعبة المشرفة، بتلك الطريقة الإعجازية العجيبة، التي لم تكن لأحد سواه، ثم طفولته المبكرة، التي حظي فيها بتربية وعناية ورعاية، الرسول الأعظم – محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم – الذي صب فيه مكارم الأخلاق، وكل القيم الحميدة الفاضلة، وغذاه بالتربية العظيمة، التي توافقت مع ما منحه الله، من التهيئة والقابلية العالية، لاستيعاب واستلهام أخلاق صاحب الخلق العظيم، وعلومه ومعارفه ويقينه، فكان الامتداد الحقيقي للرسول الكريم – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في كل مواقفه وتحركاته وصفاته وسلوكياته، ومثَّل الإسلام الحقيقي، في أبهى تجلياته وأنصع صورة، وقدم نموذج الكمال الإيماني والإنساني، في أرقى مظاهره وتجسداته، فكان لسان الحق، وشاهد الصدق، ومعدن المكارم، وموضع العلم، وصالح المؤمنين، وإمام المتقين، وسيد الوصيين، وأخو النبي ونفسه ووصيه وخليفته، والقائم بأمره، والمنجز عداته، والمتمثل رحمته وأخلاقه وعظيم شمائله.
لم تقف عظمة وإنسانية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، عند حد أو نهاية، فقد كان مطلق التضحية والعطف والرحمة والإحسان والعطاء والسخاء والجود والبذل، وقد خلَّد القرآن الكريم بعضا من تلك المواقف العظيمة، الدالة على عظمة الإيثار والعطف، عند هذا الرجل العظيم وزوجته وابناهما، عليهم الصلاة والسلام جميعا، في تلك القصة المشهورة المذكورة في سورة الإنسان، في قوله تعالى:- “وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا”، وهذه القصة مشهورة في كتب التاريخ والسير والتفسير، وهناك إجماع كبير بين علماء المسلمين، أنها نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم السلام، وجاء في التيسير في التفسير، للمولى العلامة العالم الرباني، السيد بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه، قوله:- “وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا”، على حب الطعام وشهوته، بسبب أن هؤلاء الأبرار جائعون، لكنهم آثروا على أنفسهم ﴿مِسْكِينًا﴾ محتاجاً شديد الفقر ﴿وَيَتِيمًا﴾ صغيراً لم يبلغ، وقد مات أبوه، ﴿وَأَسِيرًا﴾ مقيداً من الأعداء، قد أخذه المسلمون في الحرب”، وقد نقل السيد المولى، في سبب نزولها، عن الإمام الهادي عليه السلام، ما أورده في كتاب (الأحكام)، من قوله:- “إن هذه الآيات من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ..﴾ إلى قوله تعالى: ﴿.. فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ نزلت في رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام)”، كما نقل عن السيوطي – وهو من كبار علماء أهل السنة – ما أورده في(الدر المنثور) عند ذكر هذه الآيات، قوله:- “وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ..﴾ الآية. قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم”.
وعن هذا المستوى العالي من الإيثار، يقول الشهيد القائد رضوان الله عليه:- “وتتجلى أحيانا الأشياء بمظاهر معينة صادقة، حيث قد لا تكون عادة مظاهر جذابة، كما حصل من علي وفاطمة عليهما السلام، في إطعامهم المسكين واليتيم والأسير. ألم يكشف هناك أيضاً كيف أنهم يؤثِرُون الآخرين، وكيف أنهم ينطلقون في إطعام الآخرين والاهتمام بهم وإيثارهم على أنفسهم، من منطلق ابتغاء وجه الله، وإن كان هذا الشيء الذي أعطوه وقدموه هم في أمس الحاجة إليه”، ولا غرابة ولا عجب، أن يصدر هذا الموقف العظيم والعطاء والإيثار، من النموذج المتكامل، الذي يمثل الرسول الأكرم، والرسالة السماوية الكريمة، خير تمثيل، بوصفه المصداق الأول، لكل العناوين والصفات الإيمانية العظيمة، التي يجسد من خلالها – كما يقول السيد القائد يحفظه الله – “النموذج الإنساني الراقي، المكتمل، الذي قدمه القرآن أيضاً في سورة الإنسان، في عطائه الإنساني، وهو كما قال عنه “سبحانه وتعالى”، وهو يقدم صورةً من عطائه مع أصحاب الكساء: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا 8 إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا 9 إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان: 8-10]، وهكذا تقدمه هذه الآيات المباركة، وهو في عطائه إلى هذا المستوى، الذي يؤْثر على نفسه في أضيق الحالات، في أشد الظروف، في أقسى الظروف، على المستوى المعيشي، فيؤثر حتى بطعامه، الذي لا يمتلك غيره، يؤثر الفئات المحتاجة؛ من:
– مسكينٍ.
– ويتيمٍ.
– وأسير.
ويبقى جائعاً. هذا هو عليٌّ “عليه السلام” في عطائه الراقي جدًّا، وبإخلاصٍ عظيمٍ لله “سبحانه وتعالى”، ليس لأهداف أخرى، حتى على مستوى الشُّكور، على مستوى الثناء، على مستوى المديح، لم يسع لذلك من خلال عطائه، فكان ذلك النموذج الراقي في عطائه، في إخلاصه، تجسدت حالته الإيمانية:
– في اهتمامه بأمر الناس.
– واهتمامه بعباد الله.
– ورحمته بالمستضعفين.
– ودفاعه عنهم.
– وعطائه لهم.
– مع خوفٍ من الله “سبحانه وتعالى”.
– ومحبةٍ عظيمةٍ لله “جلَّ شأنه”.
– وصلةٍ إيمانيةٍ راقية”.

ويقدم لنا القرآن الكريم، صورة مشرقة أخرى، من صور العطاء والإيثار، المتصل بأداء الصلاة، في حالة السجود بين يدي الله، فنرى هذا الرجل العظيم، وهو يتصدق بخاتمه، وهو ساجد أو راكع في صلاة النافلة، لينزل الوحي الإلهي على النبي الكريم، مشيدا بهذا الفعل العظيم، الذي يمثل تمام وكمال الإيمان، واستحقاق الولاية بعد الله ورسوله، يقول تعالى:- “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ”، وفي هذا السياق، يقول السيد القائد يحفظه الله:- “نجد أيضًا تقديم هذه المسألة وهي قدِّمت بالمعايير والمواصفات الإيمانية العظيمة، المعايير الإلهية المهمة، نجد أيضاً أنَّ الموضوع له أهميته الكبيرة في موقعه في الدين، وفي علاقته بالأمة، في قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}”.
ويضيف السيد القائد العلم يحفظه الله، قائلا:- “وهؤلاء بمواصفاتهم هذه يلتزمون بالتولي العملي، لله ولرسوله ولأوليائه، وللإمام عليٍ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ولذلك فبتوليهم العملي الذي يبنون عليه حركتهم، مواقفهم، مسيرتهم العملية، يتحقق لهم هذا الوعد الإلهي في نهاية المطاف: “فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ”.

مما سبق يمكن القول إن كمال التولي، مرتبط بمعايير العطاء والإيثار والإحسان، التي جسدها القرآن الناطق، في أخلاقه وسلوكياته، ونظرا لخصوصية العلاقة التي تجمعنا نحن اليمنيين، بهذا النموذج الإيماني والإنساني الراقي، يتوجب علينا التحلي بمكارم أخلاقه، وتمثيل جليل عطائه ورحمته وتكافله وإيثاره، لنحقق بذلك تولينا الفعلي، ونجدد عهدنا بأمير المؤمنين عليه السلام، خاصة وأن مجتمعنا يكتظ بالمساكين، الذين لم يترك لهم تحالف العدوان والحصار، ما يسدون به رمقهم، ومثلهم من الأيتام، الذين حرمتهم قوى الاستكبار والإجرام، نعمة العائل وحنان وعطف ورحمة الوالدين، وكذلك الحال بالنسبة للأسرى، الذين يحظون عندنا بالعزة والكرامة والكفاية الشاملة، بخلاف أسرانا الذين يتعرضون في سجون دول العدوان، لمختلف أشكال التعذيب والانتهاك، وأسوأ وأقبح صور المعاملة الوحشية والتجويع.
ومادمنا نعيش أجواء الشهر المبارك الإيمانية، فإن صدق تولينا للإمام علي عليه السلام، ومصداق كمال إيماننا، يحتم علينا المسارعة في البذل والعطاء، والمبادرة في الإسهام – بقدر الاستطاعة – في مشاريع برنامج إطعام، وخاصة مشروع الوجبة الرمضانية، فليس هناك أعظم قربة في هذا الشهر الكريم – بعد الصيام – من إطعام جائع، ومن فطَّر مؤمنا كان له عند الله بذلك عتق رقبة.

قد يعجبك ايضا