“ويطعمون الطعام” ..الإطعام معيار زكاء النفس البشرية
إبراهيم محمد الهمداني
يعد امتلاك عنصر الطعام أحد مقومات الوجود الإنساني، بما من شأنه تحقيق بقائه، واستمراره في مهمة الاستخلاف على الأرض، وبالرغم من أن الله تعالى، قد وفر للإنسان كل أصناف الطعام والشراب، وسبل العيش الكريم، إلا أن الإنسان – في كل مراحل تاريخ وجوده – قد أولى الطعام اهتماما كبيرا، حتى أنه اضطر في بعض الأحيان، إلى القتال وخوض الحروب والمعارك الدامية، في سبيل الحصول على نسبة أكبر من الطعام، والاستيلاء على مصادره، والاستئثار بها دون الجميع، وفي ذلك ما يوضح صورة الجشع والطمع والشح، حين يتغلغل ويستوطن النفس الإنسانية، وتصبح مرتعا للشيطان.
إن النفس البشرية في فطرتها، قد جُبلت على البذل والسخاء والإنفاق، وغير ذلك من مكارم الأخلاق وحميد الصفات، وهذا هو ما أراده الله تعالى لها، وما جبلها عليه، وزودها به، لتستقيم لها مهمتها الاستخلافية، غير أن مشاريع الانحراف الشيطانية، قد عملت – ومازالت – على إفساد النفس البشرية، وإغراق الإنسان في مستنقعات الضلال والهوى، والانحراف عن النهج الإلهي القويم، ذلك لأن طبيعة النفس البشرية، سريعة التأثر بما ومن حولها، فهي كما يقول السيد القائد يحفظه الله:- “قابلة لأن تتربى على مساوئ الأخلاق، أو على مكارم الأخلاق، لأن تنمو فيها عناصر الخير، أو تنمو فيها عناصر الشر، لأن تنمو فيها بذرات التقوى، أو تنمو فيها بذرات الفجور، ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في كتابه الكريم: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس: 7-8]، ثم يقول “جلَّ شأنه”: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 9-10]، فالنفس البشرية أُلهِمَت التقوى وأُلهِمَت الفجور، ولديها القابلية للتقوى، ولديها القابلية للفجور، ولديها القابلية للتربية على الخير، وحبّ الخير، وعناصر الخير، والسمو، والعشق لمكارم الأخلاق… ولديها كذلك القابلية لأن تتنامى فيها كل عناصر الشر والسوء ومساوئ الأخلاق، فيمكن للإنسان أن يتربى على الصدق، وعلى الطهارة، وعلى العفة، وعلى إرادة الخير، وعلى الشجاعة، وعلى الكرم، وعلى السماحة، وعلى الإيثار، وعلى الإحسان وعلى الكثير من القيم ومن مكارم الأخلاق والقيم الفاضلة، وأن تصبح تلك القيم والأخلاق بالنسبة له أمورًا يحبها، ويعشقها، ويرغب فيها، ويندفع فيها؛ وبالتالي يلتزم بها كمسار أساسي في حياته، إن خرج – أحيانا – في حالة من الخطأ أو الزلل كان سريع العودة؛ لأن الجذور باقية”.
ولا يمكن النظر إلى مختلف القيم والمبادئ ومكارم الأخلاق، بمعزل عن حقيقة الإيمان، فكما أن الإيمان يمثل الجانب الاعتقادي، فكذلك مكارم الأخلاق تمثل الجانب السلوكي الفعلي، الذي يجسد حقيقة الإيمان، في واقع الإنسان، وطالما كان الكرم ومرادفاته، من أهم المعايير في قياس زكاء النفس وصلاحها، نظرا لما في الإنفاق والبذل عامة، وإطعام الطعام والجود به خاصة، من كسر لشهوة النفس، وتطهيرها من رذيلة البخل ودنس الشح، وتحقيق زكائها وطهارتها، والسمو بها في مقامات الإيمان بالله، على الوجه الصحيح، الذي يضمن تحقق الاستقامة على منهج الله، ونيل توفيقه ورضاه.
في الجانب الآخر، يعد فساد النفس وخبثها، هو البديل للحالة السابقة، وهو الدليل على الانحراف عن هدى الله، ولذلك فالإنسان – كما يقول سماحة السيد القائد يحفظه الله – بحاجة إلى زكاء النفس دائما، “ولا يمكن له الاستقامة على منهج الله إلَّا بتزكية النفس، وإلَّا إذا خبُثت النفس وفسدت النفس، اتجه الإنسان اتجاهًا سيئًا في واقعه العملي، في سلوكه، في تصرفاته، ثم في الأخير في ولاءاته وفي مواقفه، ولا يرى نفسه – في الأخير – منشدًّا بشكلٍ صحيح، بشكلٍ قوي، بشكلٍ فعَّال لمنهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بل يرى نفسه قد ابتعد كثيرًا عن ذلك المنهج الإلهي، ولذلك كان من المهام الرئيسية للرسول “صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم”، وللقرآن كذلك: التزكية للنفس البشرية، وهي مهمة رئيسية للأنبياء بكلهم، وللرسل بكلهم، ولكتب الله بكلها، ومساحة كبيرة من جهد الأنبياء، ومساحة كبيرة من كتب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” اتجهت إلى النفس البشرية بهدف تزكيتها، على مستوى ما يقدم، على مستوى التعبئة الروحية والإيمانية، وعلى مستوى الجانب التربوي، وعلى مستوى الكثير من التشريعات فيما أمرنا الله به، وكذلك فيما نهانا عنه، انصب ذلك – في كثيرٍ منه – نحو تزكية هذه النفس البشرية، فيما يسمو بها، فيما يعزز فيها عناصر الخير”.
وإذا كان الإيمان مظهرا من مظاهر زكاء النفس، فإن التحلي بمكارم الأخلاق، وتجسيدها في واقع السلوك العملي الحياتي، هو مصداق ذلك الإيمان والزكاء، ويعد الإنفاق في سبيل الله، والبذل والعطاء فيما أوجبه الله، استجابة لأوامره المتكررة، وطمعا فيما عنده من الأجر والثواب، من أهم الصفات الحميدة، التي يجب أن ينطلق منها المؤمن في واقع حياته، ليستحق مسمى الإيمان، وأن يجعل الجود وإطعام الطعام، والعطف على الفقراء والمساكين والمحتاجين، فعلا دائما وسلوكا يوميا، وطاعة لازمة، يتقرب إلى الله بها، في وقت وفي كل مكان، لأن في إطعام الطعام يتحقق زكاء النفس وصلاحها.
وما أحوجنا اليوم ونحن نعيش أوضاعا استثنائية، وشعبنا اليمني يمر بمرحلة صعبة، على المستوى الاقتصادي والمعيشي، بسبب العدوان الغاشم والحصار الخانق، وما نتج عنه من تداعيات كارثية على المجتمع اليمني، الذي يعيش تحت خط الفقر، وتهدده المجاعة والكوارث والأمراض، من كل الجهات، في ظل تبني المجتمع الدولي – ممثلا بالأمم المتحدة وأعضائها ومنظماتها – لهذا العدوان الإجرامي، وحرب الإبادة الجماعية، التي لم تتورع عن استهداف الاقتصاد اليمني، في مختلف مظاهره، وهدم وتدمير كل بناه ومقوماته، إضافة إلى الحصار الخانق، الذي تمارسه بدون وجه حق أو أدنى مشروعية.
ذلك وغيره يجعلنا معنيون – أكثر من أي وقت مضى – بتعزيز التكافل الاجتماعي، والإنفاق في سبيل الله، وإطعام الطعام ودعم مشاريعه، التي تتبناها وتنفذها الجهات الرسمية والمؤسسات التنموية الفاعلة، ممثلة بالهيئة العامة للزكاة، ومؤسسة بنيان التنموية، وبقية الشركاء الفاعلين في هذا البرنامج الخيري الرائد، الذي هو بمثابة الفرصة الذهبية لجميع أبناءالمجتمع، في تلبية أمر الله تعالى، وتوجيهات وليه العبد الصالح، السيد القائد يحفظه الله، الحريص على تحقيق زكاء نفوسنا، وكمال إيماننا وتقوانا، في هذا الشهر الكريم، شهر الله المبارك العظيم، موسم الخير والبركات، والإنفاق والصدقات وكل أعمال الخير في معناها الواسع، وعلى وجه الخصوص مشاريع الاطعام، التي يعد الإسهام فيها فرضا واجبا على جميع أبناء المجتمع، يستوي في ذلك فقيرهم وغنيهم، كلٌّ بقدر استطاعته وجهده، والمسارعة في التبرع لبرنامج “إطعام”، هي اغتنام الفضل والثواب العظيم، في باب من أبواب الخير، الموصلة إلى الجنة في الآخرة – بفضل الله وكرمه – ناهيك عن النتائج الإيجابية، المترتبة على المسارعة والمبادرة في الإنفاق، والإسهام في إطعام من فرض لهم الله هذا الحق، وجعله من أعظم القربات إليه، وكما أن الإطعام – كما أسلفنا – هو أهم معايير زكاء النفس، فإنه أيضا يقوي روابط الإخاء والمحبة، بين أبناء المجتمع، من منطلق استشعار المسئولية الدينية الايمانية.