ويطعمون الطعام” الحلقة السابعة “

نماذج مشرقة في سماء الإطعام والعطاء

3- الأنصار في مقام الإيثار والسخاء “٢”.

إبراهيم محمد الهمداني

يمكن القول إن إيمان الأنصار لم يكن إيمانا عاديا، أو إيمانا اعتياديا مطروقا، أو نتاجا لتحولات قاهرة، أو وليد لحظته الزمنية، وإنما هو إيمان مختلف تماما، متفرد تمام التفرد، سواء في كنهه أو هيئته أو مقوماته، أو في طقوسه وتجسداته، أو في جذوره الضاربة في أعماق الزمن، حيث شواهده راسخة فيهم، منذ مجيئهم إلى أرض هجرتهم، التي تبوأوا وسكنوا وامتزجوا بإيمانهم فيها، كما تبوأوها وسكنوها وامتزجوا بها، وتلك صورة تجسد الإيمان في أعلى مراتبه، وأرقى مستوياته الأخلاقية والسلوكية والقيمية والروحية، ولأنهم كذلك، سرعان ما استجابوا للرسول الكريم، وهو يعيد تأهيلهم وتهيئتهم، على قيم ومبادئ الإيمان، الذي تبوأوه وامتزجوا به سلفا، وسرعان ما استعادوا دورهم الريادي، في حمل مشروع الدين الإلهي، وتأسيس نواة المجتمع الإسلامي، انطلاقا من تفردهم بصفات إيمانية، امتازوا بها، وعبروا من خلالها حدود فضاءات القيم والأخلاق الحميدة، ليصلوا إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه مجتمع، مهما بلغ مستوى رقيه ودرجات كماله، ذلك لأنهم دون غيرهم:-

1- “يحبون من هاجر إليهم”،
أي أن قلوبهم سليمة، خالية من الأحقاد والضغائن، مشبعة بالحب والود والإجلال، لكل من هاجر إليهم، حاملا ذات المشروع المقدس، والقضية الإلهية العظيمة، لا تزيدهم كثرة الوافدين عليهم، إلا حبا لهم، وانجذابا إليهم، والتصاقا بهم، ما دام العنوان الجامع هو الإيمان بالله، وما دامت القضية الإيمانية، والمسئولية المشتركة، هي السبب في هجرة أولئك الوافدين، الذين فروا بدينهم وإيمانهم، نحو أخوة لهم سبقوهم هجرة وإيمانا، استقبلوهم بكل الحب والعطف والامتنان، باذلين لهم كل سبل الراحة، والحياة الكريمة، وكل ما من شأنه بث السعادة والأنس والطمأنينة في نفوس الوافدين عليهم، وليس ذلك وحسب، بل هم أيضا

2- “لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا”،
وهذه الصفة تجسد – كما يقول السيد القائد يحفظه الله :- “روحية العطاء هي روحية مهمة جدًّا، ومحبتك الخير للآخرين من حولك، وأن تريد لهم الخير، وأن تحب لهم الخير، هذه علامة تدل على خيريتك في نفسك، على أن في نفسك الخير أنت، أنت إنسانٌ يحمل الخير، ويحمل إرادة الخير للآخرين؛ وبالتالي لا حساسية عندك إذا أعطي هذا، أو أعطي ذاك شيئاً مما يحتاج إليه في حياته، لن تمثل مثل هذه الأمور حساسيات وعقداً”، وتلك الصورة النموذجية، من أهم مقومات وركائز قوة المجتمع، الذي يحمل قضية واحدة، ويؤمن بمبدأ واحد، ويسعى لتحقيق غاية واحدة، بما يضمن تخلصه من شوائب الأنانية، ومحاذير الطمع والحسد، والنظر بعين الشراهة إلى ما يمتلكه الغير، الأمر الذي يؤدي إلى تفشي الإحساس بالغبن، والرغبة في سلب الآخرين ما في أيديهم، وما قد ينتج عن تلك الحالة من التفرقة والاختلاف والضعف، بخلاف أولئك الذين بلغت بهم روحية العطاء، درجة أنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي إخوانهم المهاجرين إليهم، لأنهم في كمال إيمانهم، ورقيهم الأخلاقي والإنساني

3- “يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”،
وتلك هي أعلى مراتب الكمال الإنساني، وأبهى حالات الفوز والفلاح، في الدنيا والآخرة، وهي – كما يقول سماحة السيد القائد – “ميزة عظيمة جدًّا، ومؤهل كبير جدًّا، للنهوض بالمسؤوليات الكبيرة، والمواقف الكبيرة، والأعمال العظيمة، أن يكون الإنسان ليس فقط يحمل إرادة الخير للآخرين، ولا يتعقَّد عندما يرى خيراً لدى الآخرين، بل أكثر من ذلك: يُؤْثِر على نفسه، حتى في الظروف الصعبة، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وهذه روحية عالية جدًّا، أن يكون الإنسان إلى هذا المستوى، في أخلاقه، في روحيته، في إخلاصه لقضيته، لمبدئه، لموقفه، فهو إلى درجة الاستعداد أن يُؤْثِر على نفسه، عنده اهتمام كبير بقضيته، بمبدئه، بموقفه، عنده استعداد عالٍ للتضحية، للبذل، للتقدمة، عنده اهتمام كبير بنجاح الموقف، والوصول إلى الغاية، ولو قدَّم ما قدَّم، ولو آثر على نفسه، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، حتى في الظروف الصعبة، حتى عند الحاجة الشديدة”.

وليس غريبا أن يتخذ الله تعالى، هذا المجتمع ملجأ لدينه، وملاذا لنبيه، ومنطلقا لمشروعه العظيم، ويعهد إليهم حمله، والنهوض به، ومؤازرة ونصرة نبيه، ويسميهم الله تعالى تخصيصا بالأنصار، تشريفا لهم، وتأكيدا لأصالة امتدادهم التاريخي، في كل زمان ومكان، وامتياز مجتمع الأنصار بتلك الصفات الراقية العظيمة، قد جعل منه أنموذجا إنسانيا راقيا، في ميدان التأسي والاقتداء، بين جميع أبناء المجتمع المسلم، وأبناء المجتمع اليمني على وجه الخصوص، نظرا لعلاقة الارتباط الوثيق بين أنصار الأمس وأنصار اليوم، على ذات المشروع والقضية والمبدأ، وما أحوجنا اليوم إلى إحياء قيم البذل والعطاء والسخاء والإيثار، والتكافل والمواساة والتراحم، تحت عنوان الأخوة الإيمانية، والتأسي بأسلافنا الأنصار، الذين استحقوا حمل أمانة المشروع الإلهي، ونصر الله وتمكينه، لأنهم أحبوا في الله، وصغرت أطماع الدنيا ومتاعها في أعينهم، مقابل عظمة المبدأ وقداسة القضية، وآثروا غيرهم بما يملكون، رغم حاجتهم الشديدة إليه، ونحن في واقعنا اليوم، أحوج ما نكون إلى التحلي بمكارم الأخلاق، وروحية البذل والعطاء والإيثار، ولو أننا جميعا نعاني من الخصاصة، لأن ذلك هو الخلاص الوحيد لأنفسنا من الشح والطمع، خاصة ونحن نعيش الأجواء الروحانية، في هذا الشهر الكريم، ونتعرض للنفحات الربانية، التي يجب أن تكون حافزا لنا لتعزيز قيم الإيثار فيما بيننا، لكي نكون أهلا لحمل مشروع الهداية، والحصول على النصر والعزة والتمكين، كما تحتم ذلك سنة الله في الذين خلوا من قبلنا، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

قد يعجبك ايضا