حتى لا نكون من الخاسرين في هذا الشهر الفضيل
يقول الله سبحانه وتعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ….} البقرة185
ويقول الشهيد القائد رضوان الله عليه: ((بمناسبة نزول القرآن في شهر رمضان أصبح شهر رمضان شهراً مقدساً وشهراً عظيماً وهذه الأهمية، أهمية القرآن الكريم هي تتمثل في أهمية وعظمة البينات والهدى التي هي مضامين، وهي الغاية من إنزاله، والبينات والهدى هي في الأخير لمن ؟ للناس. فيدل على الحاجة الماسة، الحاجة الملحة بالنسبة للناس، حاجتهم إلى هذه البينات، وهذا الهدى. ….)).
إذا فشهر رمضان المبارك يمثل فرصة مهمة للعودة إلى هدى الله وتصحيح اخطائنا وعيوبنا وعاداتنا السيئة التي اكتسبناها نتيجة ابتعادنا عن هدى الله سبحانه وتعالى، ولكن كيف يمكننا أن نحقق الاستفادة من هدى الله سبحانه وتعالى خلال هذا الشهر الفضيل سوى من خلال تلاوة القرآن أو من خلال البرنامج الرمضاني ومحاضرات علم الهدى السيد عبد الملك هنا وضعنا بعض النقاط التي يمكن من خلالها تحقيق الاستفادة والانتفاع بهدى الله:
كيف نتعامل مع هدى الله؟
1-الالتجاء إلى الله في طلب الهداية قضية أساسية في الاهتداء، فعلينا أن نلتجئ إلى الله أسوة بالنبي محمد (صلوات الله عليه وآله) الذي قال الله له: }وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{ وأيضًا بهذا الدعاء: (اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).
2-علينا التذكر بأن الهدى هو من جهة الله، وأننا إذا لم نتفاعل مع هدى الله، إذا لم نحاول أن نهيئ أنفسنا لأن يهدينا الله فقد نضل وقد تقسو قلوبنا، وقد نصبح شياطين، وليس ضالين فقط.
3-يجب أن نتعامل مع القرآن الكريم وهدى الله بتقديس وتعظيم، مع الشعور بالحاجة إليه.
4-يجب أن نحذر من اللامبالاة والانشغال بقضايا أخرى أثناء القراءة أو الاستماع.
5-يجب أن نحرص على التفهم والتركيز والاستيعاب، والحذر من الإعراض الذي يكون ناتجًا عن الشعور بالفهم وعدم الحاجة لهدى الله.
6-يجب أن نرسخ في أنفسنا الاستعداد التام لأن نتثقف بثقافة القرآن.
ومتعني بهدى صالح لا أستبدل به
((اللهم صل على محمد وآل محمد ومتعني بهدى صالح لا أستبدل به, وطريقة حق لا أزيغ عنها, ونية رشد لا أشك فيها)). قضية الهدى قضية مهمة, وهي نفس المسألة التي نتعامل معها ببرودة، والكثير من الناس لا يهمه قضية أن يبحث عن كيف يهتدي، وأن يعرف من نفسه أنه يسير على طريق هدي الله، وأنه يتعلم هدى الله، وأنه يربي نفسه على أساس من هدى الله سبحانه وتعالى.
الإمام زين العابدين يدعو الله أن يمتعه؛ لأنها متعة فعلا أن تجد من نفسك أنك على هدى, وأنك على حق في اعتقاداتك, ومواقفك, تجد في نفسك طمأنينة هي السعادة بكلها، هي العزة, هي متعة, حتى متعة الحياة. ((متعني)) هيئ لي أن أتمتع بهدى صالح لا أستبدل به, كيف يكون قضية أن تتمتع بهدى صالح لا تستبدل به؟ عندما يكون هدى تحرص عليه, هدى تكون واعيا وأنت تتمتع به، فلا تتعرض لأن تستبدل به غيره, وهل هناك غير الهدى إلا الضلال {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} (يونس: من الآية 32) لا أستبدل به شيئا من الدنيا, لا أستبدل به شيئا من دعاوى الضلال التي تقدم تحت اسم هدى, تحت اسم دعوة إلى التوحيد.
أنا أريد منك يا الله أنت أن توفقني إلى هدى صالح لا أستبدل به، فلا أستبدل به شيئا من الدنيا، فيكون الإنسان كما حكى الله عن بني إسرائيل {يشترون بآيات الله ثمنا قليلا} {يشترون بعهد الله ثمنا قليلا} وآيات الله هي هداه، وعهد الله هو هداه فيما عهد به إليهم، فأن تستبدل بهدي الله شيئا من الدنيا، أن تستبدل بهدي الله شيئا من المكانة المعنوية: شهادة جامعة، شهادة ثانوية، شهادة تقدير، وظيفة في أي مكان كنت, كلها تعتبر قليلا؛ ولهذا جاء في القرآن الكريم وهو يتحدث عن بني إسرائيل: {يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} (آل عمران: من الآية 77) يقول: دائما قليلا. قليلا .. كلما تحدث عن ما جعلوه بدلا عن الدين من الدنيا يقول عنه: ثمنا قليلا, والدنيا بكلها هي ثمن قليل، أن تستبدل بها تجعلها بدلا عن دينك، تجعلها بدلا عن الهدى الذي متعك الله به، ومنحك إياه.
الاقبال والاصغاء والتفهم لهدى الله
قال في كتابه الكريم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: الآية 55]، لماذا؟ لأن المؤمنين يُقبِلون على هدى الله، يصغون، يتفهمون، يتعامل مع هدى الله بإصغاء وتفهم، يدرك قيمة هدى الله، عظمة هدى الله، أهمية هدى الله، فهو يصغي، وهو يتفهم، الله / قال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: من الآية 45]، الله -جلَّ شأنه- قال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 9 – 10]، من يدرك أن هدى الله / هو حجةٌ عليه، وأنه إن لم ينتفع بهدى الله / سيخسر، سيشقى، سيكون مصيره إلى جهنم والعياذ بالله، المسألة ليست مسألة مزاجية، تترك لمزاج الإنسان ولا يترتب عليها أي نتائج. لا الإنسان المعرض، الإنسان المستهتر، الإنسان الذي لا يلتفت إلى هدى الله، ولا يصغي إلى هدى الله، ولا يتفاعل مع آيات الله؛ هو خاسر، هو هالك، تبعات ذلك ووزر ذلك عظيم، ذنبٌ عظيم.
ولهذا يأتي القرآن الكريم فيتحدث عن كل فئات المجتمع في موقفها من هدى الله، وفي علاقتها من هدى الله:
البعض ليس عندهم استعداد حتى للإصغاء والتفهم، ولا حتى للاستماع، أول ما يسمع هدى الله / ويسمع التذكير بآيات الله، قد ينهي استماعه بالكامل ويذهب، أو يحاول أن يبعد نفسه عن ذلك، ليس على استعداد حتى على مستوى الاصغاء والسماع بتفهم، وهذه حالة خطيرة جدًّا على الإنسان، الله / قال في كتابه الكريم: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: الآية 49]، هذه حالة إعراض بالكامل، لا يريد حتى أن يسمع، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 – 51]، كمثل الحمار الوحشي إذا ظهر عليه الأسد يريد أن يفترسه فيهرب مذعوراً في حالة من الفوضى، والهروب بطريقة مذعورة، بطريقة فوضوية، بطريقة وهو يحمل الخوف والذعر والحركة غير المنضبطة، والحركة الفوضوية.
هذه حالة البعض مع هدى الله: ينفر من هدى الله، ويتجه بعيداً عن الإصغاء والاستماع، وكأنه من الحمر المستنفرة، لا يطيق حتى أن يبقى، أن يصغي، أن يستمع، هذه الحالة حالة خطيرة على الإنسان، سيندم عليها، لو لم يكن إلا يوم القيامة؛ لأن هذا الهدى الذي به نجاتك، به فوزك، إعراضك عنه، تجاهلك له، ابتعادك عن الإصغاء والسماع له، عدم تفاعلك معه، هو خطرٌ عليك أنت، أما الله فهو غنيٌ عنك.
الحالة الأخرى للبعض: أنه حتى إذا سمع آيات الله، إذا سمع التذكير بهدى الله لا يتأثر، لا يتأثر لا في واقعه النفسي ولا في واقعه العملي، آيات الله هي تذكِّرنا، وتتجه في كثيرٍ منها إلى واقعنا العملي، ما نعمل، ما هو يشكِّل خطورةً علينا ويجب أن نحذر منه، تذكِّرنا بمسؤولياتنا، ترسم طريق الخير لنا في مسيرة هذه الحياة.
مصير من لا يتأثر بهدى الله
يقول الله -جلَّ شأنه-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: الآية 16]، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا}: إلى متى سيظل الإنسان في هذه الحالة من البرودة، من عدم التفاعل مع هدى الله، من عدم التأثر بهدى الله إلى متى سيبقى الإنسان على هذا الروتين الذي يتعامل فيه مع هدى الله وبدون تفاعلٍ جاد، بدون توجهٍ عملي، بدون رجوع إلى واقع حياته ليصلح، تصبح المسألة عنده مجرد سماع، يسمع للموعظة حتى تنتهي، يسمع للتذكير حتى ينتهي، يسمع لآيات الله حتى يفرغ منها، لكن على مستوى العمل، على مستوى واقع حياته لا يتجه بجد ليصلح على ضوء ما سمع، لا يتجه بمصداقية على ضوء ما ذكِّر به من آيات ربه.
فنحن يجب أن نحذر من هذه الحالة التي قد تطرأ على الكثير منا، قد تطرأ علينا في واقع حياتنا أن نفقد تفاعلنا، تأثرنا مع هدى الله أن نتعامل بملل ونحن نسمع التذكير، نسمع التذكير بآيات الله وكأنه مجرد كلامٍ عادي، لم يعُد تفاعلنا معه بما ينبغي وهو كلام الله، وهو هدى الله، وهي آيات الله نذكَّر بها، حالة خطيرة جدًّا علينا، حالة من قسوة القلب، حالة من انعِدام التفاعل، حالة خطيرة جدًّا، ينتج عنها الانحراف والفسق، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، عند قسوة القلب يصبح الإنسان جاهزاً للانحراف، وجريئاً على الانحراف، ولا مبالياً في إصراره على الخطأ، في إصراره على الذنب، في إصراره على التقصير، في إصراره على ما هو مخالفة لتوجيهات الله وهذه حالة خطيرة على الإنسان، نهايتها جهنم، عاقبتها النار والعياذ بالله.
وهذا يحصل للكثير من الناس، يتجه البعض في طريق الحق، ويتحرك في البداية بتفاعل واندفاع، مع الوقت يبدأ يتأثر بعوامل كثيرة، تأثيرات متنوعة تعقِّد نفسه، تصرف ذهنيته، تؤثِّر على أولوياته، تؤثِّر على اهتماماته، تؤثِّر على توجهاته، حتى يصل إلى درجة خطيرة جدًّا، تصبح علاقته بهدى الله علاقة ضعيفة جدًّا، تفاعله مع هدى الله على المستوى العملي تفاعل ضعيف جدًّا، تصبح أهواء نفسه، وتوجهاته الشخصية، ودوافعه الشخصية هي التي تحكمه، هي التي تؤثِّر عليه، هي التي يتشبث بها، ويعرض عن آيات الله تعتبر هذه حالة خطيرة جدًّا.
لكي نتفاعل مع هدى الله
كيف هي الحالة الصحيحة للإنسان في تفاعله مع هدى الله؟
أولاً: حالة الإصغاء والتفهم، الله -جلَّ شأنه- يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: الآية 204]، التفهم مع الطلب من الله أن يمنَّ على الإنسان بالهداية، وأن ينفعه بما ذكِّر به من آيات الله .
التفاعل مع ما يسمعه الإنسان من هدى الله، والإنسان إذا اتجه بصدق مع الله وتوجهٍ جاد للعمل والتذكر، فإنَّ الله سينفعه، سيهديه، سيمنُّ عليه بالإهتداء بكتابه، ومن الواقع الإيماني الذي الإنسان فيه يصدِّق، ويثق، ويؤمن، يتأثر بهدى الله الله يقول: إنما المؤمنون هكذا: الذين إذا ذكروا بآيات الله يتأثرون، يخضعون، هم يعيشون في واقعهم الخضوع لله، والطاعة لله، والتسليم لأمر الله ويتأثرون بهدى الله ويدركون عظمة وقيمة هدى الله، وأنه نعمة عظيمة، وأنه شيءٌ عظيم، يتأثرون به ويتفاعلون معه، (وهم لا يستكبرون): ليس عندهم أي عقد من الكبر تؤثر عليهم في تفاعلهم، في استجابتهم العملية، في تقبلهم لهدى الله .
فنحن في هذا الشهر الكريم ينبغي أن نحرص على أن نصغي لهدى الله، وأن ندرك أن فلاحنا ونجاتنا في الدنيا والآخرة تتوقف على تمسكنا بهذا الهدى، على تقبلنا لهذا الحق، على أن نلتزم به في واقع الحياة على مستوى العمل، وأن نحذر من الإعراض بكل أشكاله: من يعرض لا يريد أن يسمع أصلاً، ومن يعرض يسمع ولا يتفاعل، ولا يتأثر، ويُصر، ويتعنت على ما هو عليه من خطأ، وقد ذكِّر بآيات ربه، من يسمع بشكلٍ روتيني بغير تفاعل ولا تأثر فيقسو قلبه وينحرف، كل هذه الحالات حالات تشكِّل خطورة على الإنسان، وتفقده الإستفادة من هدى الله علينا أن نكون كالمؤمنين، وأن نسعى لأن نكون من المؤمنين الذين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: الآية 73].