حرب الوعي

 

|| صحافة || موقع العهد الإخباري-

“أخطر الحروب هي الحروب التي تستهدف الوعي، والسيطرة على عقل وقناعات الإنسان”.

في البدء كانت الكلمة، في بداية كل موقف أو طريق، وكلما كانت الكلمة صادقة وتعبر عن مبادئ ومثل عُليا كانت سلاحًا قادرًا في وجه أية قوة أو إرادة مهما بلغ جبروتها ووصلت ثقتها، أما إذا سندتها التضحيات الهائلة فإنها تبقى شعاعًا من نور وخيوطًا من جلال على امتداد الأجيال والتاريخ، وتظل حية ملهمة أبد الدهر، وربما تكون هذه هي أحد تجليات “كربلاء” في كل نفس مؤمنة، الحرارة ذاتها باقية متقدة في كل يوم، وإلى الأبد.

سماحة السيد حسن نصر الله، حفظه الله لأمته، في خطاب الليلة السابعة من محرم بالمجلس العاشورائي المركزي، قرر أن يستكمل مهمة جليلة تتعلق بربط واقعنا، وهو صعب، وتحدياتنا وهي كثيرة، معقدة ومتشابكة، بوقفة سيد الشهداء الإمام الحسين –عليه السلام- في وجه طاغوت عصره، وأعاد لنا بالتالي فكرة الموقف الإيماني المطلوب، وأجاب عن سؤال “هل من ناصر ينصرنا؟”، إنه العقدة التاريخية الملحة –الآن- وطريق الحسين(ع) ينتظر المزيد من الأصحاب المؤمنين الملبين للنداء.

الخطاب الفارق، في ذكراه ودلالته وتوقيته، وما تمر به المنطقة من احتمالات تصعيد وما تحمله في قلبها من شحنات تفجير معبأة، جاء بليغًا في الشكل والمضمون، بداية من براعة الاستهلال من سماحة السيد، وهو فن من فنون البلاغة وحسن الكلام، ويعني باختصار انتقاء اللفظ والإشارة والمعنى في مطلع الخطاب، بشكل إبداعي يأسر القلب ويجذب العقل، ويستولي على الانتباه، وفكرة البداية بالحرب، وهي قائمة مستمرة، كانت الأجمل في هذا الخطاب الإيماني-السياسي الرفيع، قال سماحة السيد، أو هكذا نفهم، أن المقاومة كفكرة ومبدأ وطريق، هي إحياء قبل كل شيء لهذا المنهج الخلقي النبوي، قيامًا بالحق مهما كانت المصاعب ومهما ثقلت النتائج.

استعرض سماحة السيد بتركيز ودقة شديدين المشهد الحالي في المنطقة، بكل ما حملته الأيام من تغيرات وما جاءت به من تطورات، سواء على صعيد الوضع اللبناني أو الوضع العام العربي، في مواجهة عدو بدأ يتآكل ذاتيًا، وتنهشه الصراعات وتفجره الخلافات ويمزقه قادته ووزراؤه فيما بينهم، كيف وصل هذا الكيان المهزوم إلى هذا الوضع؟ وكانت الإجابة هي المقاومة والوعي، يقول السيد: “في العام 1982 عندما اجتاح العدو لبنان ودخل بيروت، كان هناك جيل لبناني كانت قناعاته واعتقاداته أن هذا الجيش يمكن أن يُهزم، وهذه القناعات تُرجمت بمقاومة ميدانية ألحقت الهزيمة بالعدو عام 1985، واستمرت إلى الهزيمة الكبرى في العام 2000، وتحول هذا الجيش في العالم العربي إلى جيش يُقهر”.

هذا الذل الذي كتبه الله على الكيان لم يكن وليد لحظة واحدة ولا كلمة في وقت ما، بل كان الترجمة الحقيقية والصادقة لفكرة المبدأ الحسيني الذي يرفض الانكسار، مهما بلغت تحديات الواقع أو عقبات الطريق، التمثيل النبيل لشعار “هيهات منا الذلة” المرفوع عبر القرون الطويلة، وفي وجه تاريخ من الجبروت والطغيان، وأمام جيوش رايتها الظلام والجهل والعناد.

واستكمالًا لهذا النهج الذي يتبنى الوعي الجذري المقاوم والرافض للهيمنة ولشروطها، وعصرها بجملته، قال السيد إن “هناك أنواعًا من الحروب منها العسكرية والاقتصادية، وأخطر الحروب الحرب الفكرية الإعلامية، لأنها تستهدف عقل الانسان ووعيه وقناعاته وكل ما يشكل سلوكه وموقفه”، هذه هي الحرب التي تواجهنا اليوم من الغربي، من الكيان ومن رعاته، بالاستهداف الممنهج للقرآن الكريم من جهة، ومن جهة أخرى الحملات المتواصلة لبث قيم الشذوذ وعولمتها وفتح كل الحدود أمامها، نحو تدمير وعي الأجيال الجديدة، خصوصًا العربية المسلمة.

ليس مستغربًا ما تحمله إلينا وكالات الأخبار من ضلوع للموساد وأجهزة العمل الخفي للعدو في تأجيج الأعمال التي تستهدف كتاب الله الكريم في أوروبا، وانتقالها كالوباء من بلد لبلد، تحت ذرائع حرية التعبير وعبر لافتة حقوق الإنسان، وكأن الأوروبي حتى يستطيع أن يجاهر بالعداء للقيم الشاذة الجديدة أو ينتقد الكيان الصهيوني، فهناك في هذه الحالة قوانين تردع وتمنع وتقيد، أما بالنسبة للإسلام فحرية الإساءة مكفولة ومصانة.

الخطاب الأرفع من الأمين جاء على مستوى ما نواجهه من حرب غربية جديدة معلنة، خطاب سياسي يضع المشكلة في أبسط صورة أمام جماهير ضخمة تسمع وتثق، وهو كشكل جاء بصيغة المناقشة المفتوحة أو التفكير بصوت عالٍ، طرح القضية في إطار ما تحمله من تحديات “دينية وسياسية واجتماعية وثقافية” ثم بلورها أمام الجماهير الواسعة من تيارات وقوى وأحزاب وشعوب، بهدف رفعها من حالة الشك إلى حالة التهديد، وتحويل الغضب العربي والإسلامي من كلمات تلعن إلى قانون فعل، قادر على فرض إرادته واحترامه على أوروبا والعالم.

إذا كان الخطاب السياسي في عصرنا الحالي، بكل ما بلغته الاتصالات والتكنولوجيا من قدرة على الوصول والنفاذ، فإن خطاب سماحة سيد الوعد الصادق، وفي ذكرى كربلاء بالذات، ليس خطابًا سياسيًا عاديًا يستهدف إجماع البعض أو الصفوة ويعرف حدودًا لا يتخطاها وقدرًا من الدبلوماسية التي توفر مساحة لمناطق الاتفاق والحفاظ على الود، بل كان خطابًا يستنهض إرادة الأمة ويحاول أن يخلق بها –ومعها- حالة من الغليان لتحويل الغضب إلى بخار يحرك ويدفع، بقدرة استثنائية على ترجمة مشاعر الأغلبية الرافضة، وتعبيرًا عن كرامتها وعزتها، في وجه حرب كاملة تخاض ضدنا على كل المستويات.

كيف ينظر إلينا الغربي؟ في الواقع فإن النظرة الأوروبية للعالم العربي والإسلامي حكمها أولًا الطمع في الموقع والثروات، قبل اكتشاف العالم الجديد، ثم حدث الصدام الحضاري المعروف بالحروب الصليبيبة، ليستجيب الغرب بمرونة وسرعة، ويرفع رايات الحقد المقدس ضد كل ما هو عربي ومسلم أو غير أوروبي، ويبدأ فصل جديد من التاريخ كان عنوانه الأساس هو “الإرهاب”، الوصف الأدق لما حدث من مجازر جماعية وحرق وتشريد وتدمير شامل للمدن العربية وسكانها في الشام بالذات.

في كتاب الباحثين ديفيد بلانكس ومايكل فراستو “وجهة النظر الغربية من الإسلام في القرون الوسطى وبداية العصر الأوربي الحديث”، يجزم الكاتبان أن النظرة الغربية –بشكل عام- ترى الاختلاف أمرًا كريهًا، والغرب قد عمل بكل جهد لاستئصال هذا الآخر أو استعباده، والآخر هنا هو كل من لا يفكر ولا يعمل ولا يلبس كما يفكرون ويعملون ويلبسون، وهو بالتالي زنديق ودمه مطلوب. ويزيد الكتاب من الغوص في العقل الأوروبي بقوله: إن “الشرق في الفكر الأوروبي موضع الشر في الأرض، والمسلمون وثنيون يتميزون بالخسة”، وعقب هزيمة الحملات الصليبية فإن الغرب زادت كراهيته لنا، وعمد الأوربيون إلى تشويه صورة أعدائهم المسلمين كأسلوب لتقوية صورتهم الذاتية عن أنفسهم، وبناء ثقتهم في أنفسهم، هكذا يرانا الغرب، أو هكذا هي صورة إيمانه المترسخ فينا وفي أي حق لنا.

قد يعجبك ايضا