استطاع الرسول الأعظم بحركته بالقرآن أن يصنع تغييراً مفصلياً في التاريخ
لقد استطاع الرسول “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” بحركته بالقرآن، وبما منحه الله تعالى من مؤهلات عالية وكمالٍ عظيم، وبتأييد الله تعالى، أن يصنع تغييراً مفصلياً في التاريخ، وأن يؤسس لعهدٍ جديد، ختم به رسالات الله تعالى إلى الأنبياء، ومن معجزات الرسالة الإلهية أنَّ رافعتها وحملتها وأتباعها وأنصارها والمنتصرين بها هم المستضعفون، وليس المستكبرون، ولم يكن انتصار الرسالة الإلهية مرهوناً بقوى الاستكبار، بل كانوا هم- على الدوام- أعداءها، والمختلفين معها؛ لأنها تناقض أطماعهم وطغيانهم واستعبادهم للبشرية، بل كان المستضعفون هم الذين يؤمنون بها، ويعتزون بها، ويقوون بها، ويتغير واقعهم بها، بعد أن يغيروا ما بأنفسهم.
والرسالة الإلهية هي المشروع الوحيد، ليس هناك أي مشروعٍ آخر، هي المشروع الوحيد القادر على إحداث التغيير الحقيقي للواقع البشري، وتقديم الحلول الواقعية للبشر؛ لأنها مشروعٌ شامل، يتجه إلى الإنسان نفسه، فيغير ما بنفسه من ظلمةٍ ودنس، وإذا صلح الإنسان صلحت الحياة بكلها، وصلح واقعه؛ لأنها مشروعٌ يصنع الوعي، ويزكي النفس، ويأخذ بيد الإنسان في الحياة في الطريق السوي، ويهدي للتي هي أقوم، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: من الآية1]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحديد: الآية9]، ولأنه مشروع الله لكل عباده، ليس من قومٍ حسبوا حساب أنفسهم وحساب مصالحهم على حساب قومٍ آخرين، ولا لعرقٍ على عرق، ولا للونٍ على لون، ولا لقوميةٍ على قومية، بل هو الكلمة السواء التي يمكن أن يلتقي عليها جميع البشر، وهو المشروع العالمي الحقيقي الصالح، القائم على العدل، والعدل دعامةٌ أساسيةٌ في بنيانه، قال الله تعالى : {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}[الأعراف: من الآية29]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}[النساء: من الآية135]، ثم هو حجة الله تعالى على عباده؛ لأنه الذي خلقهم، هو ربهم وملكهم وإلههم الحق، وإليه مصيرهم وحسابهم وجزاؤهم، وقد قدم نداءه إليهم منذ بداية وجودهم على هذه الأرض، فقال تعالى مخبراً بندائه واحتجاجه: {يَا بَنِي آدَمَ} خطاب الله إلى البشر في كل الأجيال التي قد خلت، {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأعراف: 35-36]، ولذلك فلا خلاص اليوم للبشرية بأي بديلٍ عن رسالة الله تعالى، ولا حل يغير الواقع بكله إلا الانفتاح على الرسالة الإلهية، على رسالة الله ونوره، ولا صلاح لآخر الأمة، إلا بما صلح به أولها.
وقد ثبت أن قوى الاستكبار اليوم- وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل- تفاقم من مشاكل البشرية، وتفسد في الأرض، وتعتدي على الشعوب، وتنهب الخيرات، وتصنع الحروب والأزمات، ولا تقدم للبشرية إلا المزيد من المآسي والنكبات، وزاد من سوء الأمر في عالمنا الإسلامي- خصوصاً في المنطقة العربية- التبعية العمياء من بعض الدول التي تقدم نفسها على أنها تمثل الإسلام، كما هو حال النظام السعودي المنافق، الذي جعل من نفسه أداة الشر لتنفيذ مؤامرات الأعداء، وهدم كيان الأمة من الداخل، وهو- بلا شك- امتدادٌ ظلاميٌ ظالمٌ لقوى الاستكبار، ويمثل حالة الانحراف والتحريف داخل الأمة، التي ائتلفت مع شبيهاتها من حالة الانحراف والتحريف في شريعة موسى وشريعة عيسى “عَلَيْهِمَا السَّلَام”.
إن القرآن الكريم يجعل من التبعية لأعداء الأمة من المستكبرين خروجاً عن الحق، وزيغاً عن الهدى، وخيانةً للأمة، وهو يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة: من الآية51]، وإن أكبر معاناةٍ تعانيها الأمة اليوم هي هذه التبعية التي مثَّلت حالة اختراقٍ كبيرٍ ومؤذٍ ومخربٍ في داخل الأمة، ويجب أن تحذر منها الأمة، وأن تتحصن منها بالوعي، وأن تواجه مؤامراتها ومكائدها بتحمل المسؤولية، ومآل أولئك الخونة المنحرفون مآلهم إلى الخسران، مصداقاً للوعد الإلهي في سورة المائدة، والأمة في مواجهة التحديات الداخلية مع قوى النفاق، والخارجية من قوى الطاغوت والاستكبار معنيةٌ بالاعتصام بالله تعالى، والارتباط الوثيق برسالته، فبها تتقوى، وبتعاليمها تفلح، وبالتمسك بها تنتصر؛ لأنها رسالةٌ في مضمونها من التعاليم والتوجيهات والحكمة عناصر القوة، عناصر القوة ذاتيةٌ فيها، وبالتمسك بها تحظى الأمة بنصر الله وعونه، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
وقد كان لشعبنا اليمني الشرف الكبير- بدءاً بالأنصار- في إيمانه وجهاده، وتفاعله مع رسالة الله تعالى؛ حتى نال وسام الشرف الكبير فيما روي عن رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” بشأنه: ((الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))، وبهذا الإيمان كان ثابتاً ومتماسكاً في مواجهة العدوان الأمريكي السعودي، بالرغم من حجم المعاناة نتيجة القتل والحصار والتدمير، وبوعيه لم يتأثر بأبواق التضليل، وما عدا الخونة والمنافقين والمرتزقة، فإن جماهير شعبنا بعظيم الصبر والصمود والتضحية والعطاء قدمت إلى العالم أجمل صورة عن عظمة قيم الإسلام وأثر الإيمان، فأسر الشهداء، والجرحى، وأبطال الميدان من الجيش واللجان الشعبية، وجماهير الشعب من كل أطيافه، أثبتوا للجميع أن القوة هي قوة المبادئ، وقوة القيم والأخلاق، وقوة الاعتماد على الله والتوكل عليه.
ولذلك فإن شعبنا اليوم، وبميثاق الإسلام الذي قدمه في صدر الإسلام لرسول الله محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” إيماناً ونُصرةً وإيثاراً، يؤكد اليوم بالقول وبالفعل الاستمرار على النهج، والمواصلة للسير في الطريق، والسعي المستمر للاستبصار والارتقاء الإيماني إن شاء الله تعالى.
السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي
كلمة السيد في ذكرى المولد النبوي الشريف 1438هـ