الجهاد أكبر اختبار لمصداقية الإيمان
ولهذا تبقى أيضاً محكاً للاختبار، محكاً للاختبار: الكثير من الناس قد يقدِّم نفسه مؤمناً ومن أعظم المؤمنين، ولكن فيما إذا كانت الالتزامات الإيمانية والدينية محدودة وبسيطة، ولا تلامس أشياء مهمة بالنسبة له، ولهذا حين قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}[التوبة من الآية:16]، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ) يعني: لا يمكن، لا يمكن أن تتركوا من هذا الاختبار، الذي هو أهم اختبار يكشف مدى إيمانكم، مصداقيتكم في الانتماء الإيماني، لابدَّ من هذا الاختبار: الاختبار في الموقف، في مواقفكم، في ولاءاتكم، في اتجاهاتكم العملية في إطار الموقف العملي، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}.
ونحن في واقعنا الإسلامي يجب أن نمتلك هذا الوعي، أن نمتلك هذه النظرة القرآنية، ماذا يريد البعض بعد القرآن ليعرف الحقيقة، ليعرف الواقع، ليعرف عندما يأتي البعض ليتخاطب معه باسم الدين، باسم الإيمان، باسم التعليم الديني، باسم الإرشاد الديني، ثم يراهم بعيدين كل البعد حتى عن مجرد الحديث عن هذه الفريضة وعن هذه المسؤولية، ليعرف أن الله قد فضحهم، هذا تقييم إلهي، الله هو الذي يبين، الله هو الذي يميز ويقدِّم المواصفات التي توضح وتبين وتكشف {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران من الآية:179]، فبماذا يميز الخبيث من الطيب؟ بماذا يكشف لنا الخبيث من الطيب في واقع الانتماء الإيماني؟ من خلال هذه الفريضة، من خلال هذا الواجب العظيم المهم، من خلال الاختبار في الموقف، ما هو موقفك؟ أين هو ولاؤك؟ ما مدى اهتمامك بهذه الفريضة العظيمة والمهمة؟ والبعض يبقى أصم وأبكم، لا يعي، لا يفهم، لا يدرك، لا يستفيد حتى من آيات الله التي هي فرقان، تفرق لك، لا تبقى تعيش حالة الالتباس، لا تبقى إمَّعة، لا تبقى خاضعاً للتأثير من هذا أو ذاك ممن يأتي تحت أي عنوانٍ ليثبطك، أو يقعدك، أو يدفع بك نحو التخاذل، هذه الفريضة العظيمة هي ذات فوائد كبيرة، ومكاسب عظيمة.
ولهذا عندما نأتي إلى موقعها من الفضل والأجر، الإيمان والعمل الصالح: هو قربة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” نحظى من خلاله بالأجر بالفضل، نرجو به رحمة الله، نرجو به الجنة، نرجو به المغفرة، نرجو به الفضل عند الله، والأجر العظيم من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هذا ما نتربى عليه كمؤمنين كمسلمين، هذا ما نتثقف به، هذا ما نكسبه من التعليم الديني، والخطاب الديني، والإرشاد الديني، أن نكون من أهل الرجاء، أن نرى في العمل الصالح قربةً نكسب بها الخير عند الله، الفضل عند الله، الأجر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن الله غنيٌ عنا، وعن أعمالنا، نحن من نستفيد من العمل، ولهذا يقول الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ}، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضاً: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت الآية:6].
في موقع القربة والفضل والأجر نجد أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يقدِّم إلينا هذا العمل وهذه الفريضة باعتبارها من أعظم الأعمال قربةً عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وهي العبارة التي أتى بها في القرآن الكريم لتقدِّم لنا صورة تقريبية عن عظيم فضل هذا العمل، وكبير أجره عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عندما قال “جلَّ شأنه”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف الآية:10]، (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ)، الحديث في الأجر، والحديث عن الفضل، والحديث عن المكاسب التي يمكن أن نحصل عليها من خلال هذا العمل، لم يعد حديثاً فقط عن أجر، وإنما عن تجارة، يعني: فَكِّر لو يقال لك: [عندما تنجز عملاً معيناً سنعطيك عليه أجراً بمقدار كذا كذا]، أما هذا العمل فالله يقول لنا: (تِجَارَةٍ)، وأيُّ تجارة! أعظم تجارة بأكبر مكاسب يمكن أن تتحقق للإنسان في حياته في هذه الدنيا، يعني: ليس هناك أي تجارةٍ على الإطلاق يمكن أن يتحقق من خلالها مكسب للإنسان، وتتحقق للإنسان من خلالها ما يتحقق له من هذه التجارة التي دلَّ عليها مَنْ؟ الله الغني الحميد، ذو الفضل العظيم، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد يمثِّل العرض من غنيٍ وتاجرٍ كبير يعرض عليك أنت، وبالذات إذا كنت فقيراً، ونحن كبشر فقراء إلى الله، فقراء إلى رحمته، لا نمتلك إلَّا ما أعطانا، وأنعم به علينا، وتفضل به علينا، قد يمثِّل العرض عليك من تاجرٍ كبير، وثريٍ مشهور بالثروة، قد يمثِّل عرضاً مغرياً، وتتفاعل معه، وتنشد إليه، عندما يقول: [هل أدلك على عمل تكسب من خلاله أرباحاً كبيرة، أو أعطيك أنا من خلاله مكاسب كبيرة] وقد تتفاعل إذا كانت المسألة أكبر من هذا: دولة مثلاً ذات إمكانيات كبيرة، وقدرات وثروة هائلة، أما الذي يقدِّم هذا العرض فإنه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، أول مكاسبها: النجاة من عذاب الله، تكسب هذا المكسب العظيم، وأنت أحوج ما تحتاج إليه، كلٌ منا بحاجة إلى أن يسعى لما يدفع عن نفسه عذاب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” العذاب في الدنيا، والعذاب في الآخرة،
{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف الآية:11]، (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ): فيه الخير لكم، وما وراء الخير إلَّا الشر، إذا لم نقبل ما بهذا الخير، فليس البديل عنه إلَّا الشر، وفعلاً الذين يعطِّلون هذه الفريضة من الأمم والشعوب أو من الأقوام ما الذي ستكون النتيجة؟ أن يكون في حالة من الضعف، أول ما يواجهون تحدياً أو خطراً كبيراً يكونون لقمةً سائغة، وفريسةً سهلة، يسحقون، ويضطهدون، ويظلمون، ويقهرون، بلا منعة، بلا قوة.
{ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 11 يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[الصف: 11-12]، أوليس هذا مكسباً كبيراً؟ كلٌ منا أثقلته الذنوب، كلٌ منا أثقلته ذنوبه في الماضي: إما التقصير فيما قصر فيه، وهذه من الذنوب السائدة والمنتشرة بشكلٍ كبير، والتي يتهاون بها الكثير من الناس، الذنوب التي هي بشكل تقصير في واجبات ومسؤوليات وأعمال مهمة نحن ملزمون بها في ديننا، أو الانتهاك لمحارم الله، والتجاوز لحدود الله، وهي قضية خطيرة، كم لها من تأثير على الإنسان في نفسيته، في علاقته بالله، فيما يحظى به من رحمة الله، وكم تشكِّل من خطورةٍ كبيرةٍ عليه في الآخرة، ما الذي يمكن أن يوصل الإنسان إلى جهنم إلا الذنوب، هنا يقول: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 12 وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:12-13]، الحديث عن هذه الفريضة، وعن هذا الأمر العظيم في ميزان القربة والأجر والفضل هو حديثٌ واسع، كم في القرآن الكريم من آيات، من ترغيب كبير، الذي يقدَّم كعرضٍ عليك هو الجنة بكلها، الجنة التي عرضها السماوات والأرض، الحياة الدائمة والأبدية، إغراءات كبيرة لا يمتلكها أي أحدٍ في الدنيا، الكثير من الناس يهلكون أنفسهم في خدمة الباطل، في صف الطاغوت، من أجل الحصول على أشياء تافهة، أموال قليلة، أو مكاسب محدودة. أما هنا فمكاسب عظيمة جدًّا مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
ولهذا مما يقرِّب لنا المسألة هذه في موقع هذه الفريضة بين سائر الأعمال، ما روي عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه” عندما قال: ((لَنومَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةٍ بَيْنَ أَهْلِكَ، تَقُومُ لَيْلَكَ لَا تَفْتُر، وَتَصُومُ نَهَارَكَ لَا تُفطِر))، هذا هو موقع العمل في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله، أنَّ النومة فيه- دعك من العمل المباشر- لها هذا الفضل: أفضل من عبادة ستين في أهلك، وهذه عبادة تكون بشكلٍ مكثف ((تَقُومُ لَيْلَكَ لَا تَفْتُر)): الليل تحييه بالعبادة، ((وَتَصُومُ نَهَارَكَ لَا تُفطِر))، ولستين سنة، النومة في سبيل الله تكون أفضل من هذا بكله في ميزان الأجر والفضل والقربة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي
المحاضرة الرمضانية الـ18 لعام 1440هـ