المقاومة تقوّض أساسات الكيان الصهيوني وتكشف هشاشة بنيانه!
|| صحافة ||
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الكيان الصهيوني كـ”دولة وجيش” يُعدّ من أكفأ الكيانات وأقواها على مستوى المنطقة والعالم، ولا يستطيع أحد أيضاً أن يدّعي أن هزيمة هذه “الدولة” وهذا “الجيش” عبارة عن عملية سهلة يمكن القيام بها في حال توافرت بعض الشروط مثل امتلاك أعدائها السلاح الوفير، والتكنولوجيا الحديثة، أو القوى البشرية التي تملأ عين الشمس.
فهذا الكيان الذي قام على القتل والعدوان، وسفك دماء الآخرين من “الأغيار” من دون أي وازع من أخلاق، أو التزام بالمعايير الأممية لحق الإنسان في الحياة بغض النظر عن لونه وجنسه وطائفته، سعى على الدوام لتكريس هيمنته على جيرانه القريبين والبعيدين بقوة الحديد والنار، وقد امتلك وما زال مروحة واسعة من الخيارات العسكرية والاستخبارية التي مكّنته من فرض رؤيته على الآخرين، لا سيما أولئك الذين سلّموا بتفوّقه وهيمنته، واعتقدوا أن مجرد الدخول في حرب معه، حتى لو كانت دفاعاً عن النفس هي حرب خاسرة، لن تؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر، ولن تُفضي سوى إلى مزيد من الخراب والدمار.
منذ الإعلان عن تأسيس “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين التاريخية منذ نحو 76 سنة، وما تلى ذلك من كوارث ونكبات ونكسات أصابت الكثير من مفاصل الأمة العربية والإسلامية، أدّت في بعضها إلى عمليات تهجير واسعة للفلسطينيين، وإلى احتلال مدينة القدس، أحد أهم الأماكن المقدّسة لدى المسلمين والمسيحيين، وإلى تغيير في العقائد القتالية لبعض الجيوش العربية، التي ونتيجة للهزائم التي مُنيت بها، ولا سيما في العام 1967 أصبحت تعتقد باستحالة هزيمة “جيش” الاحتلال في أي مواجهة عسكرية مباشرة، بل وباتت تتهرّب من الرد على عملياته العدوانية التي شنّها على كثير من البلدان، واستخدمت خلال سنين طويلة عبارة “الرد في الزمان والمكان المناسبين” للتغطية على عجزها وقلّة حيلتها.
وفي حقيقة الأمر كان مفهوماً في بعض الأحيان عجز بعض الأنظمة عن مواجهة هذا “الوحش”، إذ إن فارق الإمكانيات العسكرية والتكنولوجية والاستخبارية كانت تصبّ في مصلحته على الدوام، خصوصاً وأنه كان يتلقّى دعماً بلا حدود من حلفائه الغربيين، وفي المقدمة منهم رأس الشر في العالم الولايات المتحدة الأميركية، ومن قبلها بريطانيا العظمى يوم كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وقد زاد ضعف تلك الأنظمة عقائدياً، وانفصالها عن الغالبية العظمى من شعوبها، إلى جانب الفساد الهائل الذي ضرب كل مؤسساتها، وافتقادها إلى الحلفاء الموثوقين حتى في زمن الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي من حجم الهوّة بينها وبين “دولة” الاحتلال، غير أنه لم يكن مفهوماً أن تعترف بعض تلك الأنظمة بمشروعية عدوانه، وتسلّم له في ما تحصّل عليه بالقوّة المفرطة، بل ذهب البعض منهم إلى أكثر من ذلك، من خلال التعاون الوثيق مع هذا الكيان المجرم، وتقديم الخدمات الأمنية والمعلوماتية له من دون أي مقابل يُذكر، بل كان العدو يعاملهم على الدوام على أنهم مجرد خدم، يستغني عنهم ويستبدلهم وقتما يشاء.
بعد سنوات طويلة من الذل والهوان التي عاشتها الأمة نتيجة استسلام أنظمتها الرجعية، والذي سمح بتحوّل “الدولة” العبرية إلى شرطي المنطقة، الذي يضرب بسوطه الغليظ أينما يشاء ووقتما يشاء، تغيّرت الظروف، وتبدّلت الأحوال، وبرز إلى الواجهة خصم جديد وقف في وجه دولة الإجرام، وأخذ في التنامي رويداً رويداً حتى أصبح مهاب الجانب، تخشى منه دول عظمى، وتتحاشى الاشتباك معه إمبراطوريات كبرى، وهو ما أدى إلى ترسيخ معادلات جديدة، وقواعد اشتباك لم تكن موجودة من قبل.
هذا الخصم تتم الإشارة إليه في وسائل الإعلام بمسمّى “محور المقاومة “، فيما تُطلق عليه أميركا وحلفاؤها “محور الشر”، في محاولة لتشويه صورة نضاله من جهة، ولخلق رأي عام معادٍ له من جهة أخرى، لا سيّما في أوساط شعوب الأمة، والتي تعرّضت خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة تحديداً لعمليات من البروباغندا السوداء، كان الهدف منها خلق عدو وهمي بديلاً من العدو الصهيوني، توجّه إليه الاتهامات، وتصبّ عليه اللعنات، بل وتستهدف جبهته الداخلية، وبيئته الحاضنة بالانتحاريين والانتحاريات، والسيارات الملغومة والعبوات.
وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب نجح في فترة ما، عانت فيها الأمة الأمرّين، واشتعلت بين ظهرانيها حروب وفتن مدمّرة، أدت إلى انقسامها إلى طوائف ومذاهب وأعراقٍ شتّى، فإن هذا الأمر بدأ في الانحسار بفعل الكثير من التطوّرات، كان من أهمها أن الدول والجماعات المنضوية تحت لواء محور المقاومة نجحت في امتصاص الضربة الأولى، وحافظت على تماسكها، رغم ما عانته من خسائر فادحة، وانتقلت بعد ذلك إلى الهجوم الساحق الذي حسم المعارك التي خاضتها في كثير من الجبهات، كما هي الحال في سوريا واليمن والعراق ولبنان على سبيل المثال، والتي تمكّنت فيها المقاومة على اختلاف مسمياتها من دحر أعدائها، وإفشال المخططات الجهنمية التي كانت تحضّر للمنطقة في حال انتصر تحالف الغرب و”إسرائيل” وبعض الأنظمة مع الجماعات التكفيرية المارقة.
وبما أن حسم محور المقاومة للمعارك التي فُرضت عليه قد شكّل انقلاباً للصورة، وتغيّراً جوهرياً في شكل المعركة ومضمونها، فقد عادت الأوضاع إلى سابق عهدها، من حيث النظر إلى “إسرائيل” بأنها العدو المركزي للأمة، وأنها عبارة عن رأس رمح لقوى الاستعمار العالمي في الشرق العربي والإسلامي، وأن قتالها والتصدّي لمخططاتها وجرائمها التي لا تتوقف مهمة قومية ووطنية ودينية، ومن هنا كان انطلاق معركة “طوفان الأقصى” في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، والذي جاء نتيجة تراكمات كثيرة من عمليات القتل والإجرام بحق الفلسطينيين، بالإضافة إلى مصادرة بيوتهم وأراضيهم، واستباحة مقدساتهم، ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع عليهم، ووضع الخطط طويلة الأمد لتهجيرهم من وطنهم، لا سيّما بعد وصول حكومة اليمين المتطرف إلى سدّة الحكم في “إسرائيل “.
اليوم، ونحن نعيش الشهر العاشر من هذه المعركة الفاصلة والحاسمة، والتي يمكن أن تترتّب عليها نتائج وتداعيات جيوسياسية عديدة، وإن كنا نعتقد أن تأثيراتها ستظهر بعد برهة من الزمن، تبدو “دولة” الاحتلال، وحلفاؤها الإقليميون والدوليون في وضع لا يحسدون عليه، نتيجة الكثير من التطورات التي بدت في جزء منها دراماتيكية وغير مُتوقّعة.
من أهم نتائج معركة “طوفان الأقصى” أنها ساهمت في تقويض الكثير من المبادئ الأساسية التي قامت عليها “دولة” الاحتلال، والتي عُدّت في فترات سابقة مبادئ مستدامة وغير قابلة للتغيير، إلى جانب كشف هشاشة بنيان هذه “الدولة “، التي اعتمدت منذ تأسيسها على الأساطير والأوهام في تثبيت دعائمها، وتقوية بنيانها.
يمكن أن نلحظ بوضوح أن “الدولة” العبرية، وعلى الرغم من محاولتها نفي ذلك قد تعرّضت لنكسات كبيرة وغير مسبوقة منذ انطلاق “طوفان الأقصى”، لا سيما بعد أن توسّعت المعركة جغرافياً إلى ساحات أخرى من الإقليم، وازدادت تداعياتها لتصل إلى داعميها وحلفائها في المنطقة والعالم، وقد انسحبت هذه النكسات على مختلف المجالات في “الدولة “، وتركت تأثيرات كارثية في مجمل الأوضاع فيها سواء على الصعيد الداخلي، أو في ما يتعلّق بعلاقاتها الخارجية والتي كانت على الدوام مصدر قوة لهذا الكيان المجرم.
على المستوى السياسي، فقدت “إسرائيل” الكثير من نفوذها حول العالم، وباتت معزولة ومنبوذة حتى من دول وحكومات كانت حليفة لها، ومن شعوب وأعراق لطالما انبهرت بـ”التجربة الإسرائيلية”، والتي نجحت خلال سنوات طوال بعد تأسيس الكيان الغاصب في إظهار نفسها بأنها واحة للديمقراطية، وحقوق الإنسان، واحترام المواثيق والمعاهدات.
بعد “طوفان الأقصى” ظهرت “الدولة “العبرية على حقيقتها، ونزعت عن وجهها اللثام الذي كان يُخفي وحشيتها وساديّتها وإجرامها، وأطلقت العنان لكل أنواع القتل والإجرام ضد المدنيين العزّل، من نساء وأطفال وشيوخ، وقامت بارتكاب جرائم ترفّع عن بعضها عتاة القتلة على مدار التاريخ، بل ومارست حرب إبادة غير مسبوقة أدّت إلى محو عوائل بأكملها من السجل المدني، وغيّرت طبوغرافيا المدن والقرى الغزّاوية بصورة لم تحدث من قبل، ليس هذا فحسب، بل فعلت كل ذلك على الهواء مباشرة، وأمام عدسات الكاميرات، من دون أي وازع من ضمير، أو أخلاق، مستغلّة حالة من الصمت المطبق والغريب من معظم دول العالم ومؤسساته المعنيّة بحقوق الإنسان، كما هي الحال بعد مجزرة “المواصي” قبل يومين.
هذا الإجرام الدامي وضع الكيان الصهيوني في خانة الدول المارقة حسب تصنيف محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية، وهو ما أسقط بالضربة القاضية كل السردية الإسرائيلية السابقة بأن الحروب التي تخوضها “الدولة” الصهيونية هي للدفاع عن النفس، وحشر كل الداعين إلى إقامة علاقات طبيعية مع هذا الكيان، لا سيما من الدول العربية والإسلامية في الزاوية، وعرّاهم أمام شعوبهم التي انخدعت خلال سنوات طويلة بالكلام المعسول والوعود الكاذبة.
عسكرياً، أثبتت معركة “طوفان الأقصى” ومن قبلها المعارك التي خاضتها المقاومة في غزة ولبنان، أن فائض القوة لدى “دولة” الاحتلال ليس مقياساً لتحقيق النصر، وأن ما يتمتّع به “جيش” العدو من إمكانيات تُعدّ من الأفضل على مستوى العالم لم تكن كافية لتحقيق أهداف الحرب، إذ إن حسم الحروب العسكرية لا يرتبط فقط بما يملكه هذا الطرف أو ذاك من قوة، فهناك عوامل أخرى مؤثرة وحاسمة، من قبيل العقيدة القتالية للجنود، والجغرافيا التي تجرى عليها العمليات القتالية، إلى جانب طبيعة الأهداف المراد تحقيقها، وكل هذه الأمور لم تكن في صالح العدو، سواء في المعركة الحالية أو في معارك سابقة.
لقد بدا واضحاً للجميع عجز وإخفاق “جيش” الاحتلال الذي يتم تصنيفه، حسب الكثير من مراكز الأبحاث المتخصصة، بأنه من أقوى عشرين جيشاً في العالم، وأنه يملك من القوة النارية ما لا تملكه عشر دول مجتمعة، إذ تجلّى هذا العجز في عدم تمكّنه من سحب آلياته المدمّرة في الشجاعية ورفح، وفشله وهو الذي يملك -حسب زعمه- فرقاً نخبوية وخاصة من اقتحام أي منطقة في قطاع غزة إلا بعد قصفها بمئات القنابل الملقاة من الجو وقذائف المدفعية الحارقة، إضافة إلى ما جرى في مدن ومخيمات الضفة الغربية المحتلة، حيث تم تفجير عرباته المدرّعة وقتل ضباطه وجنوده في مخيم نور شمس بطولكرم، ومخيم جنين رغم قلة إمكانيات المقاومة هناك.
على المستوى الاقتصادي، عانت “دولة” الاحتلال أوضاعاً غير مسبوقة، وتعرّضت لنكسات لم تكن متوقّعة، إذ فاق حجم خسائرها نتيجة الحرب الحالية مليارات الدولارات، إذ توقّفت عجلة الإنتاج في معظم المناطق عن العمل، نتيجة استدعاء أكثر من 300 ألف من جنود الاحتياط إلى القتال، وهذا ما كلّف اقتصاد “الدولة ” خسارة شهرية بقيمة 5 مليارات شيكل، أي ما يعادل ملياراً وثلاثمئة ألف دولار.
فيما يعاني فرع البناء من شلل شبه تام، إذ تقدر خسائره في اليوم الواحد بـ 150 مليون شيكل “40 مليون دولار “، وبلغت خسائر قطاع الزراعة نحو ملياري شيكل “540 مليون دولار” شهرياً، إذ إن 75% من السلة الغذائية لسكّان “إسرائيل ” تأتي من مستعمرات غلاف غزة، التي تضم أكثر من 1200 مزرعة.
قطاع السياحة هو الآخر تأثر بشدّة، إذ بلغت خسائره نحو 4 مليارات شيكل ” 1.1 مليار دولار ” في ظل عزوف السيّاح الأجانب عن القدوم إلى فلسطين المحتلة، إضافة إلى آلاف الإسرائيليين الذين كانوا يأتون لقضاء الإجازات والأعياد.
من جهته، سجّل قطاع التكنولوجيا المتقدّمة في “إسرائيل” تراجعاً في حجم الاستثمارات بنسبة بلغت 60%، حيث توقّفت قيمة الاستثمارات عند 1.3 مليار دولار فقط، وهو أدنى رقم منذ عام 2017.
يُضاف إلى كل ذلك تكلفة إخلاء سكّان المستعمرات في غلاف غزة والشمال والذين يزيدون على 330ألف مستوطن، وهو ما يفرض خسائر إضافية ترهق خزينة الدولة، وتكبّدها خسائر كبيرة للغاية، إذ تبلغ تكلفة إقامتهم في فنادق وسط البلاد نحو700 مليون شيكل شهرياً ” 189 مليون دولار”.
بالإضافة إلى كل ما سبق، فقد ازدادت الانقسامات الداخلية التي أثّرت في عموم المجتمع الإسرائيلي، إذ ظهر جليّاً حجم الخلافات لا سيما بين أتباع التيار الديني المتطرّف من جهة، وبين باقي مكونات المجتمع الصهيوني الأخرى، وهو ما جعل البعض يعتقد بإمكانية حدوث ما يشبه الحرب الأهلية في مرحلة لاحقة إذا ما ارتفعت وتيرة هذه الخلافات، وهو أمر متوقّع حسب كثير من المتابعين للشأن الصهيوني.
على كل حال، وعلى الرغم من التضحيات الهائلة التي قدّمها الشعب الفلسطيني المظلوم خلال الشهور العشرة الماضية، والتي تكبّد فيها خسائر على الصعيدين البشري والمادي كما لم يحدث في أي مرحلة من تاريخ مراحل نضاله، فإنه نجح من دون أدنى شك في رسم معادلة جديدة قد تغيّر من وجه المنطقة خلال المرحلة القادمة، معادلة قد تؤسس لبداية تفكّك المشروع الصهيوني برمّته، وهو أي هذا المشروع، وعلى الرغم من كل ما يمتلكه من مقوّمات، فإنه قابل للهزيمة والانكسار، خصوصاً وهو يواجه محوراً قوياً ومقتدراً ذا عقيدة قتالية صلبة.
صحيح أن الأمر لا يتعلّق بشهور أو سنوات قليلة، نتيجة الكثير من التعقيدات التي يعرفها الجميع، ولكن ما يهمّنا هنا أن بداية انهيار “مملكة” الشر والإجرام في المنطقة قد بدأت، وأن عقارب الساعة التي تشير إلى بداية تفكّك هذا المشروع تسير بشكل منتظم وفي اتجاهها الصحيح.
الميادين نت: أحمد عبد الرحمن