بلغة الأرقام .. الطوفان يتلو “سفر السقوط” على الكيان الصهيوني

|| صحافة ||

“أوهن من بيت العنكبوت”.. يظل صدى ورنين كلمات سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، يغازل الذاكرة الجمعية العربية ويشحنها بطاقة حيوية ومتدفقة، اليوم وبعد 340 يومًا على عملية “طوفان الأقصى المباركة” استقبلت ساحة المنطقة تغيرًا عميقًا وفارقًا – هو الأول من نوعه تاريخيًا ــ بانقسام مجتمع المستوطنين على نفسه، ودخول اتحاد نقابات العمال “الهستدروت” على خط مناطحة رئيس الوزراء والمؤسستين الأمنية والعسكرية، ومحاولة كبح جماح الخسائر المروعة التي تجرعها الكيان طوال أكثر من أحد عشر شهرًا، لم يسبق أن خرج المستوطنون أبدًا ضد حكومتهم في زمن الحرب، مهما بلغ بؤس وضعهم خلالها، ومهما بلغ سوء الإدارة، لكن اليوم كل شيء مختلف في كيان الوهم، الطوفان قد عرى الكل.

ما يجعل خبر دخول “الهستدروت” إلى المعركة السياسية الداخلية بقوة ذا أهمية ودلالة، هو أن اتحاد نقابات عمال الكيان ليس نقابة مثل ما نعاين في عالمنا العربي، بل هي تشبه تنظيمًا كاملًا قائمًا بذاته، هي أكبر منظمة نقابية في الكيان بعدد أعضاء يناهز الـ 799 ألفاً، ثم هي أول منظمة عمالية أسسها “بن غوريون” في 1920، أي قبل تأسيس الكيان، وهي تضم فضلًا عن ممثلي الأحزاب الصهيونية، مجلس إدارتها المستقل، والذي يعد صاحب الصوت الأكثر تأثيرًا في ما يخص الشؤون الاقتصادية.

عمق تأثير الإضراب الكامل، مضافًا إليه استمرار طوفان الأقصى كأطول جولة قتال عربية/صهيونية على الاقتصاد الصهيوني بشكل عام، قد جعلا من فكرة استمرار الحرب جنونًا لدى بعض طبقات العدو، رغم حزم الدعم الأميركي والغربي التي لا تتوقف، من أموال وأسلحة، فقد بدأت وتيرة الاستنزاف المستمر تتسارع وتنمو وتنتشر في كل اتجاه، وكل القطاعات الاقتصادية الصهيونية قد تأثرت سلبًا بالحرب، ثم إن كل المستويات أصابها من شظايا القتال الكثير والكثير، وبتركيبة المجتمع الصهيوني الشاذة “جيش له دولة” فإن الجيش عجز عن حماية الدولة، والدولة اليوم أقل من أن تدعم جيشًا فاشلًا والاقتصاد فقد توازنه في بيئة غير مستقرة.

 

“نافع”: الاقتصاد سيحسم الحرب

“أولئك الذين يرغبون فى القتال يجب عليهم أولاً أن يفهموا التكلفة”، مقولة للحكيم الصيني الأشهر صن تزو، يستشهد بها الخبير الاقتصادي المصري البارز، الدكتور مدحت نافع، في حديثه لموقع “العهد الإخباري”، و”أهمية هذه النصيحة البسيطة –برأيه – تكمن في أن الحرب الحديثة تعقدت وتشابكت خيوطها وتمددت تأثيراتها حيث أصبحت ساحة لتفاعلات الصناعة والتكنولوجيا، وسلاسل التوريد، وتدفقات رؤوس الأموال، بصورة غير مسبوقة في التاريخ”، و”باتت الإدارة الاقتصادية تلعب دورًا أكبر في ترجيح كفة أحد الأطراف، وارتفاع التكاليف الاقتصادية للحروب بإمكانها حسم مصير الحكومات والدول التي تخوضها”.

مصداق ما تقدم على كيان العدو، عكسته بحسب نافع وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني،حينما كشفت أن الحرب كبّدت اقتصاد العدو 269 مليون دولار يوميًا، أي ما يعادل قرابة 62 مليار دولار بشكل مباشر منذ اندلاعها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم، مع توقع أضعاف مضاعفة لهذا الرقم إذا ما تحدثنا عن الخسائر الإجمالية.

يوضح “نافع” أن النتائج المباشرة للحرب على الاقتصاد الصهيوني قد أوصلت نسبة الانكماش إلى 20%، بالإضافة إلى اتجاه حكومة العدو لجمع 60 مليار دولار من الديون، وزيادة الضرائب، وهو ما كانت أكدته وكالة “بلومبرغ”، حينما قدرت أن حكومة العدو جمعت نحو 55.4 مليار دولار منذ أكتوبر 2023، من الأسواق المحلية والدولية، هذا دون وضع الآثار بعيدة المدى للإضراب العام الذي شهده الكيان مؤخرًا، والذي كان مجرد بروفة لما يمكن أن يكون الكابوس الأسوأ الذي ينتظر الكيان.

ويخلص الخبير الاقتصادي الدكتور مدحت نافع إلى أن آثار الحرب لم تتوقف عند جبهات القتال، بل تعدتها إلى تحريك الخسائر في الإقليم كله، فقد تسبب “طوفان الأقصى” بضربات اقتصادية شملت السياحة وقناة السويس في كل من الأردن ومصر، بفعل هجمات اليمن على السفن العابرة لمضيق باب المندب، وتضررت إمدادات حقول الغاز الطبيعي لدى الكيان، فى حين واجهت السعودية صعوبة في جذب تدفقات الاستثمار الأجنبي المأمول إلى مشروعها الكبير “نيوم”.

 

“سيد”: تفكك ينذر بالانهيار

مطرقة الضغط الاقتصادي، والتراجع السريع للمستوى المعيشي في ظل عدم الاستقرار الأمني، انعكس تشتتاً، وقلقاً وانقساماً، وهو وجه جديد لكيان العدو الصهيوني نراه لأول مرة. فوفق الدكتور محمد سيد أحمد، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة عين شمس، فإن الضغط الذي يتم الآن من قبل المستوطنين الصهاينة هو الأول من نوعه وحجمه في الكيان، ويمكن أن يشكل أداة ضغط على حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، لقبول تبادل الأسرى ووقف العدوان على غزة، وهو ما فشلت فيه كل حكومات العالم والقوى والمنظمات الدولية على مدار الأحد عشر شهرًا الماضية.

و في حديث خاص لموقع “العهد الإخباري”، يلفت “سيد” الى أن الإضراب العام شاركت فيه وزارات مهمة إلى جانب اتحاد العمال “الهيستدروت”، وهي: الدفاع والداخلية والمالية والتعليم وغيرها، وأتى هذا الإضراب في ظل حالة هروب جماعي وهجرة عكسية لما يزيد عن مليون مستوطن، ووفقًا لإحصاءات “إسرائيلية” رسمية هناك ما يقرب من 40% من المستوطنين يرغبون بترك الكيان والعودة من حيث أتوا، وكل هذه المؤشرات تعبر عن انقسامات داخلية وتفكك ينذر بانهيار الكيان، خاصة أن المقاومة بكل ساحاتها تمارس استنزافًا ممنهجًا ومدروسًا للكيان، وهناك قدرة للمقاومة على خوض مثل هذه الحرب الاستنزافية على مدى أطول.

 

الأرقام الرسمية تكشف الهزيمة

ما أكده خبير الاقتصاد وعلم الاجتماع السياسي المصري آنف الذكر شهدت عليه لغة الأرقام، فأظهرت كم كانت ارتدادات “الطوفان” على الكيان الغاصب هائلة في قطاعات الاقتصاد الصهيوني الرئيسية، وطبقًا لشبكة “بلومبرغ” فإن الناتج المحلي الإجمالي للكيان تراجع بنسبة 1.4% في الربع الأول من العام الحالي، من 420 مليار دولار إلى 414 مليار دولار، وتراجع بالتالي نصيب الفرد من الناتج المحلي بنسبة 3.1%، أي هبط من 36 إلى 34.9 ألف دولار، كما هوت قيمة عملة الاحتلال “الشيكل” إلى أدنى مستوياتها مقابل الدولار في السنوات الثماني الأخيرة، حيث بلغت قيمة الدولار 3.85 شيكل، هذه العوامل أجبرت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني على خفض تصنيف الكيان إلى “A2” مع نظرة مستقبلية سلبية.

وبالنسبة للشركات وظروف العمل فيها، فقد كشفت شركة المعلومات التجارية الصهيونية “كوفاس بي دي آي”، أن نحو 46 ألف شركة أغلقت أبوابها منذ بداية الحرب، 75% منها شركات صغيرة لم تتحمل الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحرب، مع توقعات بوصول عدد الشركات التي ستضطر للخروج من السوق إلى 60 ألف شركة، هذا بالطبع مع ندرة الاستثمارات الأجنبية الجديدة دفع إلى زيادة نسب البطالة والفقر، وأدخل مجتمع المستوطنين في دائرة جهنمية من الخسائر التي تتوالد وتتكاثر ذاتيًا، فخروج الشركات زاد من البطالة، وانعكس ذلك على تراجع إنفاق المستهلكين بنسبة 0.7%، وكذلك ارتفاع مؤشر الأسعار بنحو 12%، كل هذه الأسباب مجتمعة أدت بدورها لزيادة معدلات الفقر في الكيان، ليصل إلى أعلى رقم تاريخي مسجل على الإطلاق بنسبة 25.3% في عام 2024، كما ذكرت دراسة منظمة “لاتيت” الصهيونية غير الحكومية لدعم ومساندة الأسر الفقيرة، وهي نسبة شديدة الضخامة مقارنة بما كان العدو يصدره إلينا من صورة بلد متفوق ونظامه التعليمي راقٍ ويقدم لمستوطنيه أحد أفضل مستويات الخدمات الحكومية في العالم، ويقارن رفاهية المستوطن في تل أبيب بنظرائه الأوروبيين والأميركيين.

ويمكن إيجاز أكبر خسائر القطاعات الاقتصادية المتضررة من “طوفان الأقصى” وتوابعه مثل “الإضراب”، بالنسبة لقطاع التكنولوجيا الفائقة الذي يمثل قاطرة الاقتصاد الصهيوني ورهانه الأكبر، ويستحوذ على 18% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ضعف ما يشكله القطاع من الناتج في الولايات المتحدة، و53% من الصادرات، ويمثل 30% من عائدات الضرائب، فقد واجه هذا القطاع الضربة الأقسى على الإطلاق، إذ هوى حجم الاستثمارات فيه بنسبة 50%، وتراجعت بالتالي الصادرات بنسبة 20%.

ولا يختلف الحال كثيرًا في قطاع العقارات، إذ أدت الحرب إلى سحب نحو 800 ألف مجند احتياط من أعمالهم وأنشطتهم، ما أدى إلى توقف 14 ألف شركة بناء وتشييد عن العمل كلية، ومع غياب استثمارات جديدة، وبالطبع انعدام الطلب، سجلت الكثير من الشركات (صفر) دخل، وبشكل عام تراجعت قيمة العقارات في الكيان بنسبة 10% رغم غياب المشروعات الجديدة، وهو ما يوحي بوجود عروض كثيرة للبيع أو الهجرة.

تتكرر الصورة في قطاع الزراعة الذي يخسر ملياري شيكل شهريًا، وبات الكيان يعتمد على الاستيراد بشكل شبه كامل، وتراجع إنتاج الحليب والبيض ومشتقاتهما 80%، والحبوب 25%، وأدى نقص الإنتاج المحلي إلى زيادة في الأسعار بنسبة 15%، كذلك سجل قطاع الغاز الطبيعي، وهو أحد القطاعات التصديرية الحيوية للكيان خسائر تقدر بـ 2.5 مليار دولار. قطاع السياحة هو الآخر سجل انهيارًا مروعًا مع تحول الكيان إلى ساحة حرب، وأغلقت العديد من الشركات والفنادق أبوابها وسرحت موظفيها، وتبلغ الخسائر في هذا القطاع 1.5 مليار دولار شهريًا.

ولا تتوقف مشاكل الكيان عند خسائر الاقتصاد، هي ليست السطر الأخير في القصة، فإعادة الوضع إلى ما كان عليه يكاد يكون مستحيلًا، وضياع ثقة الأسواق الدولية والمستثمرين والشركات في دولة ما، هو أمر لا يمكن تجاوزه بسهولة، القاعدة الأولى في عالم الأعمال تقول، إن رأس المال جبان، وبالطبع أي مهاجر أو مستثمر أو سائح لن يذهب إلى بلد قادته مجموعة من المجانين المفتونين بشن الحروب، والمساعدات الغربية قد تمنع انهيارًا كاملًا وشاملًا عن اقتصاد الكيان، لكنها ربما تصل إلى حالة من اليأس من هذا المشروع ثقيل العبء والتكلفة. إذًا فالضمانة الوحيدة للنصر هي استمرار الجهاد في كل ميدان وكل اتجاه، حتى نشهد تبخر أسطورة الكيان الزائف واقعًا.

 

العهد الاخباري: أحمد فؤاد

قد يعجبك ايضا