سيد شهداء جبهة المقاومة.. ملامح من شخصيته المتعددة الأبعاد
|| صحافة ||
تحار من أين تبدأ عندما تريد التحدث عن أبعاد شخصية سيد شهداء محور المقاومة السيد حسن نصر الله، هذا إذا كان لديك ما يكفي من الإحاطة بجوانب هذه الشخصية المتعدّدة الأبعاد: القيادية، السياسية، الجهادية، الأخلاقية، الثقافية، الدينية، الإنسانية، إلخ.. فكيف بواحد مثلي يحيط بالموضوع من الخارج ولمّا يصل إلى لُبابه المُصفّى؟!
كان للسيد الشهيد حضوره الكبير في قلوب مريديه وأعدائه حباً أو كرهاً جعله قطباً رئيسياً وقائداً لمنظومة جهادية صانعة للأحداث على امتداد ثلاثة عقود، بحيث أصبحت فكرة فقدِه تثير هواجس كبيرة لدى محبّيه، وصنّفته دوائر العدو أحد ثلاثة ينبغي التخلص منهم، إضافة إلى القائد عماد مغنية واللواء قاسم سليماني. وفي حرب تموز/ يوليو 2006، كان العدو يبحث في الليل والنهار عن أثر له لاغتياله باعتبار ذلك هدفاً رئيسياً غير معلن من أهداف الحرب. وأصبح هذا المسعى علنياً وحثيثاً بعد تلك الحرب، بحيث شكّل العدو فريقاً خاصاً لتتبّع حركة السيد، الأمر الذي تطلَّبَ اتخاذ إجراءات معقّدة من جانب فريق حمايته.
أما عن صفاته القيادية، فقد لفت السيد الشهيد الأنظار مبكراً برغم حداثة سنّه. وكان عديدون يتوسمون فيه اللياقة للقيادة حتى قبل انتخابه أميناً عاماً عام 1992. وعلى سبيل المثال، ذكر لي أحد الإعلاميين في تلك الفترة أن صحفياً لبنانياً معروفاً يعمل في إطار المنظومة الإعلامية المعادية للمقاومة أسرّ له بأن السيد حسن نصر الله، وكان يومها مسؤول منطقة بيروت في حزب الله، يُعدّ شخصية فاعلة ومؤثرة من الطراز الرفيع وكان – من وجهة نظره- الرقم 1 في الحزب.
كان السيد رجلاً جريئاً، جسوراً، صاحب القرارات الصعبة التي يشقّ فيها الصفوف ويمضي دون أن يخشى لومة لائم، لكنه أيضاً بعيدُ الغور يتريث حيث ينبغي، ويعرف كيف يحافظ على العلاقات والتحالفات ويلتزم الوعد مهما كان مكلفاً. ويمكن إجمال جوانب من شخصيته القيادية في الأبعاد الآتية:
أولاً: الجانب الفكري- السياسي
1- الرؤية الإستراتيجية: أدار الصراع مع العدو بمنظور إستراتيجي أبعد من الساحة اللبنانية، وكان يرى كل ما يحدث في لبنان من هذا المنظور، حتى إذا استغرق بعضهم في تفاصيل الوضع الداخلي وتعقيداته كان يعيدهم الى ما يحاك ويخطَّط للبنان والمنطقة. ولهذا، كان يرى أن على حزب الله أن يقدّم تضحيات وتنازلات في العديد من المحطات من أجل أن يحفظ قضية المقاومة ويتفادى صراعات ومنافسات لا طائل من ورائها. واستطاع من خلال هذه الرؤية- بمعيّة إخوانه- أن يُجنّب حزب الله منزلقات خطيرة كان يمكن أن تؤثر في مسيرته ومستقبله وعلى الاستقرار الداخلي لفترة طويلة. ومن جملة ذلك أنه اتخذ قراراً صعباً في العام 1996 بالتراجع عن قرار مبدئي بتشكيل لائحة مستقلة في الانتخابات النيابية، مخالفاً بذلك مزاجاً كان سائداً في أوساط الحزب، وقد فعل ذلك حفاظاً على وحدة الصف الشيعي الذي كان يتعافى من أحداث ماضية، ولقطع الطريق على أي خلاف مدمّر مع القيادة السورية التي كانت تدير الملف اللبناني حينها مما قد يترك آثاره السلبية على مسيرة المقاومة في الجنوب. ويومها قرر سماحته التوجه إلى النبطية ومخاطبة قواعد الحزب مباشرة لإقناعها بصوابية هذا القرار وضرورة المشاركة في الاقتراع للائحة الائتلافية المشتركة على هذا الأساس. وفي ذلك كان ثمة مخاطرة حقيقية بحياته، خاصة أن الحزب سبق أن قدّم الأمين العام السيد عباس الموسوي شهيداً على أرض الجنوب قبل ذلك بأربع سنوات. وفي فترة ما بعد التحرير، تابع السيد معالجة آثار الاحتلال بكثير من سعة الأفق وتم تجاوز ملفات العملاء بالحكمة والحرص على المصلحة الوطنية. وهناك أمثلة كثيرة أخرى لا يتسع لها هذا المقال على رؤيته الواسعة، مما كان يترك بعض المحيطين في حالة تعجّب واستغراب لهذا التعالي عن الصغائر في بلد تتلاطم فيه الأهواء والحسابات الفئوية.
2- سعة الاطلاع: عُرف السيد الشهيد بإحاطته الواسعة بالوضع في لبنان والمنطقة، وكان يتابع بدقة ما يدور في مجتمع العدو، نظراً للحاجة إلى التنبؤ بسلوكه والوقوف على خططه حيال لبنان والمنطقة. وخصص جزءاً كبيراً من وقته لمتابعة ما يجري في المحيط بالاعتماد على مصادر متعددة وقنوات دبلوماسية وشبكة علاقات واسعة أدارها لخدمة الرؤية الإستراتيجية للمقاومة، وكان يتأنّى في الحكم على بعض التطورات بانتظار إنجلاء صورتها النهائية.
ثانياً: الجانب القيادي
1- الذوبان في القضية: ذاب السيد الشهيد في القضية التي قاتل لأجلها واندمج فيها، وهذا أحد الشروط الضرورية في كل قائد؛ فلا يمكن لأي قائد أن يضحّي من أجل قضية يرى أنها أقل من مستواه أو لا تستحق التضحية بحياته من أجلها. وقد تمتّع السيد بروحية مميزة وكان مصداقاً للقول: (الروح فينا هي التي تقاتل)، وتحدّث مراراً في خطاباته عن استعداده للتقدّم والتضحية بنفسه، بدون أن يرى لنفسه خصاصة وإثرة. وترجم ذلك خلال فترة تحرير الجنوب بتقديم نجله البكر السيد هادي شهيداً، حيث سمح له بالمشاركة في القتال ضد العدو إلى أن استشهد في إحدى العمليات بمنطقة الجبل الرفيع عام 1997، خلافاً لنهج سائد لدى القيادات السياسية في لبنان والعالم العربي في تخصيص أبنائهم وادّخارهم لخلافتهم من بعدهم. وقال يومها في تأبينه: “نحن لسنا حركة أو مقاومة يريد قادتها أن يعيشوا حياتهم الخاصة ويقاتلوا بأبناء الأوفياء والأتباع والأنصار الصادقين الطيبين من عموم الناس؛ شهادة الشهيد هادي هي عنوان أننا في حزب الله لا نوفر أولادنا للمستقبل، نفخر بأولادنا عندما يذهبون الى الخطوط الأمامية ونرفع رؤوسنا بأولادنا عندما يسقطون شهداء”. في هذا المجال أيضاً، اتّسم سماحته بهمّة نفسية عالية وزهد في المواقع والألقاب والعناوين، وكان يحضّ المسؤولين في مختلف المواقع الحزبية على التحلّي بصفة “مجاهد” قبل أي عنوان آخر.
2- متابعة العمل الجهادي: على غرار سيد شهداء المقاومة السيد عباس الموسوي، كان السيد نصر الله يتابع الشأن الجهادي بالتفصيل، وهذا أمر مشهور عنه، وصورُه مع بعض الاستشهاديين في تسعينيات القرن الماضي قبل ذهابهم لملاقاة العدو توضح مدى انخراطه في قيادة العمليات والإشراف عليها.
3- تشكيل نموذج قيادي عابر للحدود: تخطّى السيد نصر الله الإطار القيادي المحلي وأصبح قائداً مؤثراً على مستوى الإقليم وأبعد، وله مريدون ومؤيدون يترقبون المواقف التي يعبّر عنها ويمشون في ركابها. وقد ساعد في ذلك مصداقيتُه والكاريزما التي تمتع بها وقدرتُه على البيان والتعبئة، وأتاحت وسائل الاتصال للكثيرين التعرّف على هذا القائد الذي قلّما يجود الدهر بمثله. في هذا الصدد، عمل سماحته مع كل العاملين في هذه المسيرة الجهادية على نقل تجربة المقاومة إلى المنطقة بدءاً بفلسطين، وكان إيمانه بأن محور المقاومة يعضد بعضُه بعضاً في الشدائد وأظهرت الأيام أن هذه الرؤية في محلها، وتجسَّد ذلك في مرحلة “طوفان الأقصى”.
4- القدرة على نسج التحالفات: عمل حزب الله بقيادة السيد الشهيد على إقامة شبكة تحالفات في الداخل لحماية ظهر المقاومة. وظهرت هذه الشبكة في فترة ما بعد العام 2005، حين تكثفت المساعي الأميركية لزرع الفتن بين الفرقاء اللبنانيين وعزل حزب الله تحت يافطة تطبيق القرار 1559، وعملت من أجل تفكيك أي علاقة ينسجها الحزب مع أي فريق لبناني آخر. وكان السيد صبوراً في التعامل مع “مشاكسات” بعض الحلفاء الذين قد يرون أن لهم مطالب أو وجهة نظر معيّنة، فلم يكن ليُخرج يدَه من يد أحد ما لم يُخرج هذا الطرف يده من هذه العلاقة. كما لم يفرّط بأي علاقة تحالفية بسبب خلاف ظرفي أو مزاج عام، وكثيراً ما تعرض لضغوط من أجل فك بعض التحالفات في فترة الحراك عام 2019، لكنه كان يرى أن إيجابيات هذه التحالفات أكبر من أي سلبية، وشدد على أن المقاومة تحتاج إلى الإكثار من الأصدقاء وتقليل الخصومات.
5- القدرة على التعبئة والتحفيز: امتلك السيد الشهيد قدرة هائلة على تعبئة الموارد البشرية والمعنوية، بما له من خصائص نفسية وبلاغية وصدقية معروفة. هذا كان الحال خلال حرب تحرير الجنوب من الاحتلال، وهذا كان الحال خلال الحروب الصهيونية التي تعاقبت على لبنان، وهذا كان الحال عند المشاركة في فترة “الدفاع المقدس” في سورية. وفي حرب سورية، كان الكثيرون يراهنون على أن حزب الله سيغرق ولن يستطيع الفوز، لكن السيد نصر الله كان واضحاً في التصميم على دحر الهجمة الإرهابية بقوله رداً على تفجير إرهابي في الضاحية الجنوبية لبيروت في آب/ أغسطس 2013: “إذا احتاجت المعركة مع هؤلاء الإرهابيين التكفيريين أن أذهب أنا وكل حزب الله إلى سورية فسنذهب إلى سورية”. وخلال معركة “طوفان الأقصى”، اعتقد العدو أن التخلّص من هذه القدرة التعبوية وإسكاتها سيتيح إضعاف وشلّ قدرات المقاومة في أول احتكاك بري. وثبت أن العدو يبني تصوراته على أسس تتجاهل ما تمثله الثقافة الإسلامية الإيمانية من مددٍ ساهم السيد الشهيد في زرعه وحرص على تنميته لكي يثمر ويستمر في حضوره وغيابه.
ثالثاً: الجانب السلوكي
1- التديّن العملي: كان السيد الشهيد صاحب دين وتقوى، وحرص على ملازمة الأحكام الشرعية في القضايا الجهادية والسياسية، وقد تطرق إلى هذا الجانب في المجالس الداخلية وفي الخطابات، حيث كان يشدد على تجنب ممارسات قد يرى آخرون أنها جائزة في العرف السياسي المحلي، لكن سماحته كان يرى فيها غشاً أو تزويراً أو كذباً أو مخالفة للشرع الحنيف.
2- الوفاء بالعهد: عُرف السيد بوفائه بالكلمة التي يقطعها، فإذا أعطى عهداً التزم به، وقد بنى مصداقيته عليها بالفعل. وفي التعامل مع الحلفاء كان بعضهم يسعى للحصول على وعد منه في بعض المحطات السياسية والانتخابية وهم على اطمئنان بأن حزب الله سيلتزم ما يقوله السيد. ومن القضايا المشهورة وعده بمساندة ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وبقي على هذا الالتزام بالرغم من التعقيدات التي وُضعت أمام هذا الترشيح والضغوط التي تعرض لها حزب الله للتراجع عن موقفه حتى تحقق انتخاب العماد عون عام 2016. وفي العدوان الصهيوني الذي أعقب عملية “طوفان الأقصى”، كان سماحته يدرك الثمن الضخم الذي سيدفعه حزب الله بسبب دعمه لفلسطين، وتعرّض هذا الموقف للهجوم من الداخل والخارج ومورست ضغوط شتى لثني الحزب عن الاستمرار في ذلك، وراجعته قيادات المقاومة الفلسطينية للاطمئنان على الثبات وكان صريحاً في هذا الالتزام على الدوام، وأوضح ذلك تكراراً في آخر خطاب له في 19 أيلول الماضي حين أكد المضي في مساندة شعب فلسطين، وقد دفع ثمن هذا الموقف مُقبلاً غير هائب للموت.
رابعاً: العلاقة مع الجمهور
1- المحبوبية: فله رصيد كبير في قلوب الناس، وهذا نابع من محبته لهم وهو القائل إنه يأخذ الروح (الدعم المعنوي) منهم.
2- متابعة شؤون المستضعفين: كان لديه اهتمام غير عادي بالمطالب والظروف الإنسانية، سواء في الدائرة العامة أم في الدائرة الحزبية، وكان يوعز بملاحقة هذه المطالب مع الجهات المعنية وتقديم ما يمكن من المساعدة لمن يستحق. وقدّمت الأمانة العامة لحزب الله مساعدات مالية سخية للكثير من ذوي الأوضاع الطبية والاجتماعية. وبعد حرب 2006، كان له لقاء مفعم بالدفء والصدق مع الناس الذين هُدمت بيوتهم، وأبلغهم أنه في أثناء الحرب كان يفكر بفعل كل شيء ممكن من أجل إعادة إعمارها، واستخدم عبارة لا يقولها إلا من كان قلبه على الناس، ولا مزيد.
3- العفوية والشفافية: للسيد الشهيد أسلوب خاص في المكاشفة والمصارحة حيثما يكون ذلك مفيداً وضرورياً، متجاوزاً الحواجز الرسمية ومعتمداً التلقائية والوضوح في التوجيه. وفي بعض المجالس، كان يتطرق إلى بعض القضايا التي يتجنب كثيرون التوقف عندها لحساسيتها، لكنه يقدّمها بعقل صافٍ وقلب مفتوح وحسّ مسؤول.
خامساً: الشخصية الإعلامية
هناك جانب مهم في شخصية السيد نصر الله، وهو أنه قائد إعلاميّ بطبعه، يجيد التعامل مع الإعلاميين ووسائل الإعلام، يتعامل معهم باحترام كامل في اللقاءات الصحفية مما يترك أثراً بالغاً عليهم، ويعرف كيف يتخلص من بعض الأسئلة التي قد تكون فخّاً، وكيف يلاقي بعضها الآخر بالمصارحة في أول الطريق. ونذكر في هذا الجانب ما يأتي:
1- القدرة على الإقناع: أوتي السيد الشهيد – بشهادة خصومه قبل أصدقائه- موهبة مميزة في الإقناع، فإذا تحدّث في قضية دينية كان استدلالياً ومفهِّماً للمخالف والمؤالف، وإذا تحدّث في قضية اجتماعية كان حديثه جذّاباً وقريباً إلى القلب والعقل، وإذا تحدّث في السياسة كان لخطابه أصداء واسعة، وإذا تحدّث في الميدان والجهاد كانت قنوات العدو تنقل خطابه وتعلّق عليه بإسهاب من منطلق أنه ذو مصداقية. وامتلك سماحته القدرة على التبيين والتشخيص في أدقّ الظروف السياسية والعسكرية، إضافة إلى القدرة على شرح وتبسيط المسائل الدينية والسياسية وتقديمها في قالب عصري مُقْنِع. وقد أغنى ذلك الحزب – بقدر ما- عن آلة إعلامية ضخمة.
2- المتابعة لما يُنشر ويُبث في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث كان يردّ على بعض الشبهات من وقت لآخر، ويتولى التصدي للأقاويل والحرب الإعلامية التي تشنها دوائر معادية من أجل التشويش على الوعي العام، كما يتقصد ملاقاة الجمهور في كل محطة من أجل إطلاعه على الأوضاع القائمة والسياسات المتبعة إزاءها.
3- متابعة أداء وسائل الإعلام التابعة للمقاومة، حيث يسدّد ملاحظات للقيمين عليها. وأذكر على سبيل المثال أنه كان يطلب زيادة الاهتمام بشريط الأخبار على شاشة “المنار” حيث كان يتابعه خلال قيامه ببعض المهام الأخرى، كما كان يطلب زيادة جرعة بثّ بعض الأناشيد ذات المضمون الجيد والإيقاع الحماسي الثوري.
4- إعداد الشعارات التي تناسب كل مرحلة. ويُذكر على سبيل المثال أنه خلال معركة “طوفان الأقصى”، عمّم باستخدام عبارة “شهيداً على طريق القدس” في نعي كل شهيد في معركة مساندة فلسطين، من أجل إحكام العلاقة بين هذه المعركة والهدف الأسمى وهو تحرير القدس الشريف.
هذه بعض الأبعاد في شخصية السيد الشهيد حسن نصر الله، وبالتأكيد هناك أبعاد أخرى لم نتعرض لها لضيق المجال أو لعدم وقوفنا عليها بالتفصيل. لكن قد يكون هذا المقال بذرة للتوسع في تعريف الناس بشخصية السيد الذي حاول الأعداء إخفاء سطوعه عن طريق التشويش والتشويه والإشاعات ومحاولات الاغتيال مرة بعد أخرى، العى أن كتب الله له الشهادة على يد أشقى خلقه.
العهد الاخباري: علي عبادي