نص محاضرة السيد / عبد الملك بدر الدين الحوثي 5/ محرم/ 1435هـ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه المنتجبين.
أيها الإخوة الأعزاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
يحمل لنا شهر محرم الحرام ذكرى أليمة وفاجعةً كبيرة لازالت آثارها ونتائجها في أمتنا من يوم وقوعها وإلى هذا الزمن، هي ذكرى حادثة كربلاء ( ذكرى عاشوراء) ذكرى استشهادُ سبط رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله الإمام الحسين عليه السلام، وهذه الذكرى التي هي في العاشر من المحرم والذي يقترب منا يفصلنا عنه خمسة أيام، ليست هي فقط ما يربطنا بالإمام الحسين عليه السلام ويذكرنا به، الإمام الحسين عليه السلام هو علمٌ من أعلام الهدى، ومنارٌ للحق، وهو لنا القدوة والقائد والأسوة، وهو إمام المسلمين، وسبط رسول الله صلى الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو الإمتداد للرسالة الإلهية وللنهج المحمدي الأصيل.
الإمام الحسين عليه السلام هو وريث جده النبي، حمل راية الإسلام، وحمل همَّ الأمة، حريصاً على أمة جده، على هدايتها، على إنقاذها من حالة القهر والإستعباد والهيمنة، حريصٌ على أمة جده، على صلاحها ورشدها وعزتها وكرامتها، وهو وريث جده صلوات الله عليه وعلى آله، يحمل ويُجسِّد في واقع حياته قيم الإسلام ومبادئ الإسلام أصيلةً نقيةً سليمةً بعيداً عن الزيف والتحريف والتضليل، والرسول صلوات الله عليه وعلى آله قال عنه :- "حسينٌ مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط" ويكفينا هذا النص النبوي لنعرف مقام الحسين في أمة جده، مقامه كنسخة مصغرةٍ من رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، يحمل مبادئ الإسلام، وقيم الإسلام، ومفاهيم الإسلام، وروحية جده صلوات الله عليه وعلى آله، فهو ورث من جده القِيَم، وورث الروحية وحمل الراية، وورث أيضاً المسئولية في هداية الأمة، وانقاذ الأمة، والعمل على إصلاح الأمة.
"أحب الله من أحب حسيناً" هذه الفقرة من النص النبوي تدلل على مكانة الإمام الحسين عليه السلام عند الله سبحانه وتعالى، فهو ولي الله وحبيب الله وهو بهذا المستوى من أحبه أحبه الله، ولا يتحقق لك حب الحسين الذي به تنال محبة الله إلا عندما ترتبط بمحبة الإمام الحسين عليه السلام ارتباطاً بالنهج، وارتباطاً بالمشروع، وارتباطاً بالموقف فتسير في نفس الطريق، وتتبنّى نفس الموقف الذي يُعبِّر عن الإسلام، يعبِّر عن القرآن، يعبِّر عن ما يريده الله سبحانه وتعالى ويمثل الموقف المشروع الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وبقدر ما يحب الله مَن أحب حسيناً فبالتأكيد سيكون مقت الله وغضب الله وبغض الله شديداً على من يُبغض الحسين، ومن يعادي الحسين، ومن يقف في وجه الحسين.
كما يقول عنه في نصٍ آخر الرسول صلوات الله عليه وعلى آله، يقول فيه وفي أخيه الحسن عليهما السلام :- " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خيرٌ منهما" وهذا أيضاً يدلل على أهمية الموقع، موقع الهداية والقيادة في سبيل الحق، في طريق الحق، في الصراط المستقيم، فهما سيدا شباب أهل الجنة، هذا ليس لقباً فخرياً، هذا يعبر عن استحقاقٍ وجدارة بأن يكون لهما هذه المنزلة ويدلل على دورهما الأساسي في الدين في هداية الأمة، في الحفاظ على مبادئ الدين، وفي أنهما النموذج الراقي والعظيم الذي يجب أن يحذوا حذوه شباب الأمة، وأن يقتدي به شباب الأمة، وأن يتأثر به شباب الأمة، وأن ينهج نهجه شباب الأمة، إذ إنه هو النموذج الذي حينما تتأثر به الأمة في شبابها وفيها كلها فهو تأثرٌ يُثمر خيراً وله عاقبةٌ حسنة هي الوصول إلى الجنة، وقيام الإمام الحسين عليه السلام، وهو سيد شباب أهل الجنة مع أخيه الحسن، وله من الله تلك المكانة العظيمة، وله من نبي الإسلام هذا الموقع هو امتداده في أمته بهديه وقيمه وروحيته، الإمام الحسين عليه السلام قيامه كان قياماً لله وأداءً للتكليف الإلهي، ومن واقع المسئولية كما قال عليه السلام :- " ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" فهكذا كان الإمام الحسين عليه السلام في موقعه في المسئولية وفي دوره في الأمة وفي طبيعة مشروعه الذي تحرّك به وخرج من أجله لله سبحانه وتعالى، وهذه مشكلته مع أعداءه الذين هم بالطبع أعداء الحق، فأصحاب وحملة الموروث الجاهلي وقفوا ضد الموروث الرسالي الذي يمثِّل الإسلام الحق وتحرك به الإمام الحسين عليه السلام، الطرف الآخر وهو الأموي الذي وقف في وجه الإمام الحسين عليه السلام، كان الموروث الذي يتحرك به فكراً وسلوكاً وأخلاقاً هو الموروث الجاهلي بذاته، موروث الجاهلية، الطغيان، الإجرام، الفساد، نزعة التسلط، وهكذا كل موروثات الجاهلية من مساوئ الأخلاق، من المفاسد والشر كان يحمله الطرف الآخر الذي هو الجانب الأموي الذي وقف بوجه الإمام الحسين وتحرك ضد الإمام الحسين بالموروث الرسالي الإيماني القرآني المحمدي الذي كان يحمله الإمام الحسين عليه السلام وتحرك به،. أجل. الطرف الأموي الذي يمثّل الشر والفساد والطغيان والزيف والغرور والباطل رأى في الإمام الحسين عليه والسلام وفي حركة الإمام الحسين عليه السلام خطراً على مصالحه، خطراً على نفوذه، خطراً على هيمنته، خطراً على سلطته في الأمة، والإمام الحسين عليه السلام رأى فيهم خطراً على قيم الإسلام وعلى مبادئ الإسلام، وعلى أخلاق الإسلام، خطراً حقيقياً على أمة جده في حاضرها في عصره عليه السلام وفي مستقبلها، خطر على الأمة حتى في مستقبلها وفعلاً الخط الأموي والنهج الأموي هو نهج الإستبداد والملك العضوض والجور والظلم والفساد والطغيان، والتجرد من القيم والإنسانية وهو للأسف الشديد النهج الذي استمر في الأمة، استمر نهجاً واستمر أساساً عقيدةً فكراً منطلقاً لكل الظالمين والجائرين والفاسدين والطغاة في واقع الأمة جيلاً بعد جيل، وحادثة عاشوراء بكل ما فيها من المأساة والمحنة، بكل ما تجلّى فيها من حقيقة أولئك الطغاة المجرمين والظالمين فيما هم عليه من شر ووحشية وطغيان وإجرام، لم تكن وليدة يومها، فمنذ استحكمت قبضة الأمويين على العالم الإسلامي وحكموا العالم الإسلامي اتخذوا دين الله دَغلاً وعباده خَولاً وماله دَولاً، وهذا ما كان الرسول صلوات الله عليه وعلى آله أخبر به وتحدث عنه، أنهم حينما يتمكنون من الهيمنة على الأمة، والسيطرة على مقاليد أمر الأمة فالنتيجة هي هذه، يتخذون دين الله دَغلاً، وهذه جناية كبيرة جداً جنوها في واقع الأمة نفسها، عندما أفسدوا على الأمة دينها بتحريف مفاهيمه، ونزع جوهره ولبه، ومسخ حقائقه، وحينما جعلوا من الأمة "خَولاً" يعني خدماً حولوا الأمة إلى أمةٍ مستعبدةٍ تخدمهم، حولوها إلى أمةٍ مسخرةٍ في خدمتهم، "وماله دَولاً" المال العام الحق العام للأمة بكله استأثروا به وجعلوه خاصاً بهم لمصالحهم الشخصية في الترف من جانب وفي تعزيز نفوذهم وهيمنتهم من جانب آخر في شراء الولاءات والمواقف وشراء الناس من جانب آخر، فالنتيجة كانت نتيجة فضيعة، النتيجة لهكذا ممارسة "اتخذوا دين الله دغلاً وعباده خولاً وماله دولاً" النتيجة كانت هي أن وصل واقع الأمة إلى حالةٍ فضيعة من التدني في الأخلاق، والإفلاس في القيم لدرجة وصلت في بعضٍ منها، في بعضٍ من الحالاتٍ، في بعضٍ من المجالات، إلى أسوأ مما كان عليه الحال في العصر الجاهلي فيما قبل الإسلام، لأنهم عندما اتخذوا دين الله دغلاً عمدوا إلى استهداف كل القيم المهمة، استهدفوها وعملوا على تضييعها من واقع الأمة، كل الأخلاق الكريمة كذلك استهدفوها حتى يؤقلموا الناس فيتقبلوهم بكل باطلهم وسوئهم وشرهم وفسادهم وطغيانهم، وحتى لا يكونوا حالةً لا تركب في واقع الأمة، فولفوا واقع الأمة بكله ونزعوا منها الأخلاق والقيم والمبادئ الأساسية التي تمثل منعةً وحمايةً للأمة من تقبلهم، ومن الإذعان لهم، ومن الخضوع لهم، ومن الإستسلام لشرهم، وفسادهم وإجرامهم، وطغيانهم، فهي عملية توليف للأمة حتى تتقبلهم بكل ما هم عليه، وبكل ما هم فيه وبكل النتائج السلبية لهيمنتهم وسيطرتهم على مقاليد الأمور، في بعضٍ من الحالات استوى واقع الأمة في اسلامها وفي جاهليتها وبقي في واقع الناس من الإسلام واقعاً شكلياً بعيداً عن الجوهر والمضمون والأساس الفاعل والمؤثر في حياة الناس، وبذلك فعلاً كانت المأساة كبيرة جداً، لأنهم غيبوا من الدين ما به صلاح الناس والحياة وما تتعزز به مكارم الأخلاق والصفاة الحميدة وما يبني واقع الأمة على ما أراده الله لها كأمةٍ مستخلفةٍ في الأرض، لها مسئولية كبيرة ويناط بها مهام عظيمة وجسيمة ويراد لها أن يكون لها الريادة والسيادة في الأرض، ووصلت الأمور إلى أن كانت فعلاً الحالة التي عاشها الإمام الحسين عليه السلام ما قبل الشهادة حالة غربة، وهي لغربة تلك القيم والأخلاق في واقع الأمة.
هذه الأمة للقيم والأخلاق دورٌ أساسيٌ في دينها ومعظم الدين هو قيم وأخلاق، جانب كبير من الدين مرتبط أساساً بالأخلاق والقيم، وما يتفرع في واقع الإنسان من العمل على المستوى الفردي أو في واقع الناس على المستوى الجماعي من الأعمال والتصرفات هي ترجمة لتلك القيم وهي تفريعات عن تلك القيم وعن تلك الأخلاق تجسدها وتتفرع عنا وتعبِّر عنها، فهي نتاجٌ لها، أعمال الإنسان وتصرفاته هي نتاج لأخلاقه على ضوء أخلاقه، بطبيعة أخلاقه يتصرف، يعمل، يعامل، يتخذ المواقف قوله وفعله وتصرفاته كلها، والإسلام أولى أهميةً كبيرةً للقيم المهمة في الحياة، العدل، الإحسان، الخير، الوفاء، الصدق، الشرف، الكرامة، العزة، الإباء، الرحمة، قيم كثيرة وكثيرة تقوم عليها تعاليم الإسلام ونجد في القرآن الكريم مساحةً واسعة، بل نجد في قول الرسول صلوات الله عليه وعلى آله كلمةً مهمةً جداً تدلل على مدى اهتمام الدين بالقيم والأخلاق وإعلاءه من شأنها وتركيزه عليها حينما قال فيما روي عنه " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" الأخلاق والقيم أساسية في دين الله لهذه الدرجة، لدرجة أنها غايةٌ أساسية، وهدفٌ أساس من أهداف الرسالة الإلهية، وأساساً بها سموا الإنسان، الإنسان حينما يتجرد من الأخلاق والقيم يصبح في واقعه أسوأ من الحيوان، ولذلك ضرب الله في القرآن الكريم أمثلة للإنسان الذي يبتعد عن ما أكرمه الله به من مؤهلات إنسانية يستطيع من خلالها أن يتحلى بتلك القيم العظيمة التي بها يسمو، بها يكون له كرامته وعزته ومقامه العظيم، وبها ينال الشرف كل الشرف، والعزة، والرفعة، والعلو، والسمو، نجد في القرآن الكريم يقول الله عنهم (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) وأوصاف كثيرة (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) نجد في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى يكرر في آياتٍ كثيرة، ويؤكد في آياتٍ كثيرة على أهمية القيم ويقدمها كأساسيات في دينه، فيما يأمر به عباده، فيما يوجِّه به عباده، فيما يرشد إليه عباده، يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فجمع في هذه الآية أساسيات في القيم وفي مقدمتها العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، في نفس الوقت أكد على نهيه الشديد عن مذام ومساوئ الأخلاق، عن الفحشاء، عن المنكر، عن البغي، وتجمع هذه الفحشاء والمنكر والبغي تجمع كل نطاق الشر وكل دوائر الشر تنحصر في داخل هذه الثلاث الخصال السيئة، الفحشاء والمنكر والبغي، يدخل فيها الظلم، يدخل فيها الفساد، يدخل فيها كل ما تبقى من المفردات التي تدلل على شيءٍ من الشر.
نجد أيضاً أن المواصفات الإيمانية في القرآن الكريم مرتبطة بقيم وأخلاق، المواصفات الإيمانية التي يصف الله بها عباده المؤمنين (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) وكثير كثير من الآيات في القرآن الكريم، مواصفات إيمانية هي أخلاق هي قيم يلتزم بها الإنسان، ويتحلى بها الإنسان ويزكوا ويَشرُف بها الإنسان، للأسف الشديد غابت تلك القيم والأخلاق من واقع الأمة،. غابت..! نتيجة ذلك الإستهداف لها في واقع الأمة من الحكم الأموي، من الظالمين بني أمية، غابت من الأمة، وكان البديل عنها هو كارثة، أمر فضيع جداً، البديل عنها هو تربية الباطل، الغدر، الظلم، الفساد، الأطماع، الكذب، نقض العهود والمواثيق، إلى غيرها .. قائمة طويلة مفردات كثيرة يمكن أن يحشدها الإنسان ويتحدث بها ليعبِّر عن واقع الأمة فيما وصل إليه في الأعم الأغلب، وقد تجلى كثيرٌ من ذلك كله في الأحداث المتعلقة بحركة الإمام الحسين عليه السلام، رأينا في واقع العراقيين، والعراقيون كانوا يفترض بهم أن يكونوا هم في واقع الأمة والإمام علي عليه السلام بقي بينهم أيام خلافته، كان يفترض بهم أن يكونوا هم أكثر تمسكاً بالقيم والأخلاق من غيرهم، يعني من الطبيعي أن يكون التأثير السلبي السيء لبني أمية في الشام أكثر من غير الشام وهم متواجدون فيها وبداية تحركهم فيها، وأساس حكمهم فيها، وعماد ودعائم ملكهم على الأمة وتملّكهم وسيطرتهم من خلالها كان من الطبيعي أن يكون قد تأثروا إلى مستوى بعيد وسيء جداً، لكن بالنسبة للعراقيين كان يفترض فيهم وبهم أن يكونوا أكثر تمسكاً بقيم الإسلام ومبادئ الإسلام، لكن لأنهم أولاً لم يكونوا مهتمين متفهمين، جادين فيما كانوا يسمعونه من الإمام علي عليه السلام في ارتباطهم به أتعبوه . أتعبوه كثيراً وكثيراً وعانى منهم الأمرّين، ولذلك كان لديهم قابلية بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام أن يتأثروا إلى حدٍ كبير وفي فترة زمنية قياسية فيصلوا إلى ما وصلوا إليه، فقدوا القيم، فقدوا الأخلاق، وتربوا تربية الباطل بكل ما تتركه تربية الباطل في دنسٍ في نفسية الإنسان، في تضييعٍ لقيمه وأخلاقه، في تجريدٍ له حتى من إنسانيته، والطريقة التي تعاملوا بها مع الإمام الحسين عليه السلام واضحت، نقض للمواثيق والعهود والآلاف منهم كانوا قد بايعوا الإمام الحسين عليه السلام فنقضوا عهود الله ومواثيق الله، ولم يكونوا أوفياء، إجتمع الغدر ونقض العهود والمواثيق، واجتمع مع ذلك أيضاً ممارسة الظلم والإجرام على أبشع صوره، تخاذل الكثير، الكثير ممن تخاذلوا أيضاً لم يتخاذلوا فحسب بل تحركوا جيشاً للباطل يقفون في صف الباطل ضد الإمام الحسين عليه السلام بكل ما يمثله، ضد الحق، ضد العدل، ضد الإسلام، ضد قيم الإسلام ومبادئ الإسلام، وفي ممارساتهم في أسلوبهم في القتال، كذلك تجلت حالة الشر وانعدام القيم والأخلاق في ممارساتهم بشكل فضيع (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) استبانت سبيل المجرمين، استبانت تربية الباطل في أثرها السيء جداً في نفسية الإنسان الذي يفقد انسانيته ويتحول إلى متوحش لا أخلاق له ولا رحمة فيه، ولا إنسانية فيه، ولا ضمير له، ولا وازع، تعاملوا بشكلٍ بشع، حصار، استهداف للإمام الحسين عليه السلام بمكانته العظيمة في الإسلام، وهو رجل الإسلام العظيم الذي كان يجب أن يُحبّوه أن يتمسكوا به، أن يلتفوا حوله، لأن تمسكهم به، التفافهم حوله مناصرتهم له نصرةٌ للحق، للإسلام الحق، وخيرٌ لهم هم، عزٌ لهم هم، شرفٌ لهم هم، نجاةٌ لهم هم، وفوزٌ لهم هم، ولكنهم بدلاً من ذلك قاتلوه، ثم قطعوا الماء حتى عن أطفاله ونساءه، ثم استهدفوا حتى أطفاله، عندما يصل واقع أمة تنتمي للإسلام لدرجة أن تستهدف حتى الرضّع عمداً بالسهام، وقصة الرضيع قصة مشهورة، طفل الإمام الحسين عليه السلام الذي أشرف على الوفاة لأن أمه كان قد جف منها اللبن، لم يعد فيها حليب لتُرضع رضيعها الصغير، فخرج به الإمام الحسين عليه السلام وناداهم إذا كان بقي لديهم شيء من الرحمة والإنسانية ليرأفوا بذلك الرضيع الصغير، فماذا كان جوابهم.؟ سهم .. سهمٌ يطلقونه ليذبح ذلك الطفل الصغير الرضيع من الوريد إلى الوريد، أي قسوة.؟ أي وحشية وصلوا إليها.؟ ويدلل هذا على المستوى الفظيع من التجرد عن الإنسانية والقيم الذي ساد واقع الأمة، وشيء طبيعي كأن لم يكن، كأنها مسألة عادية جداً.
الممارسات كلها في أحداث كربلاء جلّت وكشفت المستوى المتدني في واقع الأمة من الأخلاق والتجرد من القيم، تربية الباطل التي هيأت الكثير من أبناء الأمة والكثير من جماهير الأمة لنصرة الظالمين والمجرمين، والقبول بحكمهم وهيمنتهم وتسليم أمر الأمة ومصيرها إليهم، والوقوف معهم ضد الحق، وضد العدل، وضد قيم الإسلام ومبادئه الأساسية، هذا أيضاً مؤسف، عندما نعود إلى القرآن الكريم، لنعرف من خلال القرآن الكريم موقف الإسلام من الظالمين، كم ورد في الآيات القرآنية من حديث عن الظالمين، عن غضب الله عليهم، عن سوئهم، عن سوء عاقبتهم، كم ورد في القرآن الكريم من وعيد لهم، من تحذير منهم الله يقول (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) لا يحب الظالمين ويمقتهم (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لا ينالون أي شيء من هداية الله، سُلبوا الهداية، وسُلبوا التوفيق، يقول (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بمعنى أن الله قد طردهم نهائياً من رحمته، بهذا الحال والله يمقَتهم ولا يحبهم، وهم مسلوبوا الهداية، ومسلوبوا التوفيق، ومسلوبوا الرحمة، وقد طردهم الله من رحمته، هذا في الدينا وفي الآخرة أيضاً، في الدنيا والآخرة فكيف تقبل بهم الأمة وتقبل أن يكونوا هم ولاة أمرها المتحكمين في مصيرها بيدهم هم الأمر والقرار وتدبير شؤون الأمة، وأمة أي أمة .؟ أمة الإسلام. أمة القرآن التي تقرأ مثل هذه الآيات في كتاب الله، يقول الله (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) الظالمون هم أهل جهنم، جهنميون (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) وعيد شديد من الله بالعذاب لهم (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) يقول أيضاً (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) هكذا هو موقف القرآن من الظالمين، الله لا يحبهم بل يلعنهم ويمقتهم، وطردهم من رحمته، وسلبهم الهداية، وسلبهم التوفيق، وتوعدهم بالعذاب، ومصيرهم جهنم، ثم تقبل الأمة أن يكونوا وهم على هذا النحو على هذا المستوى هم قادتها، هم من يتقلدون أمرها، هم من يسيطرون عليها، هم من يتحكمون بها، ماذا ستكون النتيجة إلا أن يملأوا الأمة بظلهم، وظلمهم يطال الأمة، الأمة أساساً متضررة وأشد الضرر من أن يكونوا هم قادتها، ويكونون هم من يتولون أمرها ويتحكمون بها، الأمة متضررة وأشد الضرر وتعاني أشد المعاناة، ويطالها ضرهم وشرهم وفسادهم وممارساتهم الظالمة في كل شؤون حياتها.
نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم ولو لم يكن إلا هذه الآية لكفى بها زاجراً للأمة عن حتى الميل مع الظالمين فما بالك بأن تٌسلَّم لهم أمور الأمة يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) لا تميلوا إليهم حتى الميل اليسير، الركون هو الميل اليسير، الميل القليل، يقال في اللغة العربية ركن الجدار إذا كان فيه القليل من الميل، الميل إليهم شيئاً يسيراً سببٌ لغضب الله، سببٌ لعذاب الله، سببٌ لأن يعذبك الله بناره، فما بالك ما بالك أن تقبل بهم الأمة حكاماً عليها، وأن تُسلِّم لهم الأمر، مشكلة كبيرة جداً وقضية خطيرة جداً، نجد هنا فعلاً إنفصام ما بين الهوية والموقف في واقع الأمة، واقع الأمة حقق فعلاً حالة رهيبة جداً من الفجوة والإنفصام ما بين هويتها كأمةٍ مسلمة، إسلامها الذي يقوم على أساس اتباعها للقرآن الكريم منهجاً لها وعودتها إلى مبادئه وقيمه، ثم في ممارساتها وفي مواقفها بقدر ما موقف القرآن الكريم هو هذا الموقف الشديد جداً من الظالمين، الأمة في مواقفها تقبل بهم، تناصرهم، تتَّبعهم، تُسلِّمهم أمرها، تناصرهم، تقف معهم، وتقف في صفهم، كيف هي تربية الإسلام، هل هي تربية تهيئ الأمة لتَقَبُّل الظالمين.؟ ومناصرة الظالمين.؟ والميل مع الظالمين.؟ والترحيب بالظالمين.؟ أم هي تربيهم تربية أخرى على أساس الحق، على أساس العدل، على اساسٍ من القيم التي تصلح الحياة وتصلح واقع الحياة، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) هذه هي تربية القرآن والإسلام، هذه هي المبادئ الأساسية للإسلام، أن يُبنى واقع الأمة على أساس من هذه المبادئ، أمةً قائمةً لله، لله من أجله، طاعةً له، فيما فيه رضاه، يشمل هذا كل المسئوليات التي أناطها الله بها، الجهاد في سبيله، القيام بالعدل، القيام بالحق، كل ما أمرها الله به وأناطه بها من مسئوليات (شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) وأن تكون هذه الأمة شاهدةً بالقسط، وتقدم الشهادة في أدائها وواقعها العملي وفي ممارساتها وفيما تقول، ملتزمة للعدل، الله يقول في كتابه الكريم أيضاً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) أيضا قوموا، هذا مسؤوليتكم، وقوامين تعني الإستمرار والتكرير والملازمة، استمروا بهذا كمسئولية تستمرون عليها، تلتزمون بها، تنهضون بها (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) أمة تحسب حساب الله قبل كل شيء وتدرك أن مسئوليتها بالدرجة الأولى يرتبط بها إقامة القسط والعدل في واقع الحياة (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) مسئولية كبيرة وأساسية في رسالة الله سبحانه وتعالى، ثم مع من تكون هذه الأمة، مع من أتاها يدعوها أو يغريها فتتحرك معه.؟ لا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اتقوا الله .. مع من تكونوا اتقوا الله في هذا وكونوا مع الصادقين (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) هذه أساسيات، مبادئ، قيم، يُبنى عليها واقع الأمة لتكون أمةً قائمةً بالعدل متمسكةً بالحق مناصرةً للحق، مسئوليتها أساساً ترتبط بإقامة العدل في واقع الحياة، مع هذا ساء واقع الأمة وتنكرت للغة الحق والمسئولية والدين، وأصبحت لغة الحق وكلمة الحق لا مسموعة ولا مفهومة ولا مقبولة، ينادى بالحق في أوساط الأمة تُدعى إليه فلا تجيب، ولا تستجيب، ولا تقبل، ولا تسمع، ولا تصغي، ولا تعي، ويناديها من .؟ رجل الحق الإمام الحسين عليه السلام ينادي في أوساطها يدعوها، يعمل ويحرص على أن يدفعها في إطار مسئوليتها التي هي شرفها وعزها فلا تستجيب.! لغة الحق غير مقبولة، ولم يعد هذا معياراً لا لموقف، ولا لتوجه، ولا لعمل، ولا لمسار، ولا لنهج، ولا لمبدأ، لم يعد من المهم عند كثيرٍ من أبناء الأمة في موقفه أن يكون موقف حق أو لا. من الطبيعي كان حق أم غير حق ما كان فليكن، لم يعد الحق معياراً لدى الأمة، تقيس به الموقف ولا تنطلق من خلاله في العمل ولا تلتزم به في الحياة، غُيّبت هذه المسألة وتحسَّر الإمام الحسين عليه السلام ورأى الواقع المظلم للأمة وقد ضيعت الحق ولم تعد تأبه للحق ولا تبالي بالحق، فقال :- " فإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت جداً فلم يبق إلا صبابةٌ كصبابة الإناء وخشيش عيشٍ كالمرعى الوبيل" ما أعظم هذا التعبير، يا كم ساء واقع الأمة، ويا كم تغير إلى المستوى السيء جداً إنعكست آثاره السيئة في واقع الحياة ظلم، معاناة، شقاء، اضطهاد، قهر، ساء واقع الأمة وأيما سوء حينما غاب الحق بقيمه، وموقفه، ومبادئه من واقع الحياة "ألا ترون أن الحق لا يٌعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً".
ثم نجد تربية الباطل التي غَيَّبت الحق فلم يعد مقبولاً ولا مسموعاً، ولا مفهوماً، ولا مرغوباً، ولا مستساغاً في واقع الأمة التي كان يُفترض بها أن تكون هي أمة الحق، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى) كل هذه المسألة انتهت من واقع الأمة إلى حدٍ كبير، بقي صفوة الأمة قلة قليلة، ثم ما كان هو البديل عنه وما كانت المعايير والأسس التي يُنطلق من خلالها وتُبنى عليها المواقف، يعني الكثير من أبناء الأمة الإسلامية، الكثير من المسلمين لم يعد يقيس موقفه على أساسٍ من الحق، يعني هل أنا على حق في موقفي أم لا.؟ هل أنا على حق في اتجاهي أم لا.؟ هل أنا على حق في عدائي أو ولائي أم لا .؟ هذه مسألة لم تعد ذات أهمية نهائياً ولا يحسب لها حساب، أصبح هناك أسس أخرى يُعتمد عليها ومن خلالها يُتخذ الموقف، وعلى أساسها تبنى المواقف وتُتخذ القرارات، وتُحدد المسارات، ويتحرك الكثير من الناس، في مقدمة هذه المال، فالكثير من أبناء الأمة كان جاهزاً ومستعداً لاتخاذ أي موقف يُطلب منه، قتلاً أو سباً أو حقداً أو كُرهاً أو حصاراً، أي ممارسة، أي عمل مهما كان بشعاً، مهما كان سيئاً في مقابل الحصول على المال، طمع هذه تربية الباطل التي تُفسد الإنسان وتُحوله إلى إنسان جشع، وطمّاع لدرجة فضيعة جداً، فيصبح جاهزاً لاتخاذ أي موقف مهما كان بعيداً عن القيم والأخلاق والمبادئ و…إلى آخره، في مقابل الحصول على المال مستعد أن يعمل أي شيء حتى لو قتل الحسين سبط رسول الله، وحتى لو عاد رسول الله من جديد وكان الأمر يستلزم أن يقتل رسول الله لم يكن يتحرَّج من فعل ذلك، المهم هو الحصول على المال، تربية الباطل التي تُربي على حالة رهيبة من الجشع والطمع والحرص والشح الذي يوصل الإنسان إلى مستوى فضيع ومتدني جداً، مع أن موقف القرآن الكريم يُربي الإنسان على التقوى، يُزكّى نفسية الإنسان من حالة الطمع والشح والجشع والهلع، يُزكّي نفسيته ويربيه على البذل وعلى العطاء والإحسان والجود والكرم وما إلى ذلك.
ونجد كيف أن زعماء قبائل الكوفة تغيّر موقفهم من أول ما استدعاهم عبيد الله ابن زياد وأعطاهم الذهب الدنانير المال، وبسرعة غيروا موقفهم تجاه الإمام الحسين عليه السلام، وتحولوا إلى جند مجند لصالح الباطل وفي صف الباطل، القرآن الكريم يُحذِّر الإنسان من أن يكون هكذا جشعاً، وأن يكون اندفاعه ولهفه وراء المال بأي ثمن حتى على حساب دينه وأخلاقه وقيمه، بل وحتى انسانيته والله سبحانه وتعالى يُقدِّم لنا الدرس والعبرة من واقع كل أولئك الذين باعوا أنفسهم وباعوا دينهم وباعوا أخلاقهم وباعوا مواقفهم في الدنيا من أجل المال فظلموا وظلوا يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) إن هول العذاب وسوء العذاب وشدة العذاب وفظاعة العذاب يوم القيامة لدرجةٍ يتمنى كل ظالم أن لو كان له ما في الأرض بكلها من المال ليفتدي به، ليفتدي به من عذاب الله، ما في الأرض بكله، ولو أتينا إلى كل الذين ظلموا كم حازوا من الأرض.؟ كل الذين ظلموا من كل البشرية، الإنسان يوم القيامة يتمنى لو كان له كل الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من العذاب، وما أكثر من باع نفسه وباع مستقبله الأبدي يوم القيامة بثمنٍ تافه ورخيص.! أرخص نفسه وأضاع مستقبله الدائم والعظيم مقابل الشيء التافه الحقير، يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) كل ما في الأرض. كل ما فيها من أموال في ظاهرها وباطنها، أموال وخيرات وامكانات (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) كل ما في الأرض ويضاف إليه ضعفه مثله (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وهنا تتجلى لنا خسارته ويتضح لنا مدى سوء عاقبتهم، فعلاً خسارة كبيرة جداً إذا كان الإنسان يتمنى يوم القيامة لو أن له كل ما في الأرض في ظاهرها وباطنها من الإمكانات، والأموال، والخيرات لكان حاضراً أن يفتدي به نفسه من ذلك العذاب الشديد، بينما هو باع نفسه وأهلك نفسه وأوبق نفسه وخسر نفسه ومستقبله بشيء تافه، قليل قليل جداً من المال لا يساوي ما في مستوى مثلاً دولة، افترض دولة معينة بكل ما فيها من خيرات، بل قدم لنا حسرتهم، مشهداً من مشاهد حسرتهم وندامتهم (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) ما أغنى عني مالية، لم يفدهم ولم ينفعهم ولم يفعل لهم شيئاً ولم يدفع عنهم عذاب الله.
نجد عاملاً آخر إلى جانب المال، من أهم العوامل أيضاً عندما أضاعت الأمة المعايير والأسس والقيم والأخلاق، وأصبح هناك أشياء أخرى تُبنى عليها المواقف، عامل آخر هو المنصب البعض من الناس في مقابل الحصول على منصب معين، او وظيفة معينة هو حاضر ومستعد ولا يمانع أبداً في أن يتخذ أي موقف مهما كان باطلاً، وفي أن يمارس أي ممارسة مهما كانت بشعةً وظالمةً لا تتفق مع الإسلام ولا حتى مع الفطرة الإنسانية بأي حالٍ من الأحوال، المهم هو المنصب والمهم هو الوصول إلى المنصب، مستعد أن يقاتل أياً كان، ويقتل أياً كان ويفعل أي شيء ممكن في مقابل الوصول إلى منصب أو الحصول على وظيفة، عمر ابن سعد مثال واضح لهذا النوع من الناس، عمر ابن سعد الذي بقي يفكر ليلة كاملة وهو يُخيِّر نفسه بين منصبه والنار، أو بين أن يفقد المنصب الذي وُعد به فقط وهو نهاية المطاف لم يحصل عليه ولم يصل إليه، بقي يفكر ويتأمل ويتردد ليلةً كاملة ويقول:-
فوالله لا أدري وإني لحائرٌ .. أفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي -الري منطقة وعد بالولاية عليها وعداً من جانب عبيد الله ابن زياد-
أأترك ملك الري والري منيتي .. أم ارجع مأثوماً بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجابٌ.. وملك الري قرة عيني.
في نهاية المطاف لم يوفَّق وحسم خياره على أن يقتل الحسين عليه السلام ويحارب الحسين عليه السلام بغية الوصول إلى ذلك المنصب الذي وعد به، هكذا هي تربية الباطل تربي الإنسان على أن يكون عاشقاً للمنصب والسلطة والتسلط بأي ثمن. بأي ثمن ولو كان الأمر يستدعي أي موقف مهما كان ظلماً وسوءً ولو كانت العاقبة جهنم، ونجد هذه الأحوال وهذه العوامل هي المؤثرة ولا زالت في واقع الكثير من الناس من أبناء أمتنا، الحال امتد عبر الأجيال، ونجد اليوم الشواهد الكثيرة على الذين يعملون أي شيء مقابل المال، وعلى الذين يعملون أي شيء مهما كان مقابل الوصول إلى منصب أو الوعد بمنصب أو وظيفة.
عامل آخر من العوامل السيئة التي تُبنى عليها المواقف، وتُتخذ على ضوءها القرارات، وتُحدد المسارات والتوجهات كان هو الخوف ولا يزال كذلك لدى الكثير من الناس الخوف، الكثير من الناس جهلهم بالله سبحانه وتعالى يُنمّي فيهم حالة الخوف من غيره أكثر من الله، فيخافون من العبيد أكثر من رب العبيد، أكثر من الله سبحانه وتعالى بينما تربية القرآن وتربية الإسلام هي تربية تُنمّي فينا الخوف من الله فنخشاه فوق كل شيء، ونخاف منه فوق كل شيء (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) هكذا يقول الله (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الله جبار السموات والأرض المقتدر العظيم، ملك السموات والأرض القاهر فوق العباد، الغالب على أمره المهيمن على عباده، مدبِّر شئون السموات والأرض، المحيي المميت، والرزاق ذو القوة المتين، هو الأولى بأن نخافه، أن نخشاه ومن بيده جهنم، بيده أشدُّ عذاب، وأقسى عذاب، وأألم عذاب هو أولى بأن نخشاه وأن نخاف منه، لكن البعد عن تربية الإيمان وعن قيم الإسلام يثمر هذه النتيجة فيكون أمامك أمة من الناس مكبَّلين بقيود الخوف، وخائفين، كان بإمكان العراقيين في ذلك الزمن وأهل الكوفة بالتحديد وهم بالآلاف كان بإمكانهم أن يكونوا جيشاً مؤمناً منطلقاً على أساسٍ من إيمانه ويفوا مع الإمام الحسين عليه السلام وفي نفس الوقت كان مكفول لهم من الله النصر(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) وكل مخاوفهم كانت ستذهب ولن يتضرروا أبداً بالقدر الذي كانوا يتوقعونه، لا حضوا كفت دعاية واحدة، دعاية نشرها عملاء بني أمية بين أوساط أهل الكوفة أن جيش أهل الشام قادم، وأنه سيخرب دوركم ويقتل مقاتِلتَكم ويرمِّل نساؤكم وييتم أولادكم وهكذا بلغة الإرجاف والتهويل، فأخافتهم وأقعدتهم عن نصر الحق وشغلتهم ودفعتهم إلى نصر الباطل، دعاية واحدة، حينما تنمى حالة الخوف في نفوس الناس من الطغاة والظالمين والمجرمين يفقد الناس ثقتهم بربهم وثقتهم بأنفسهم فيكونون مهيئين بأن يندفعوا وبسرعة وبدون ثمن بدون مقابل، إنما نتيجةً لحالة الخوف، وفريق كبير من الناس تؤثر فيهم حالة الخوف وتعد عاملاً أساسياً لتحديد مواقفهم التي ينطلقون فيها ويتبنونها.
عاملٌ آخر من العوامل المؤثرة في كثير من الناس العصبية، العصبية التي تُبنى عليه التبعية العمياء، إما عصبية قبلية لقبيلته أو طائفية لمذهبه وبالتالي يتحرك فوراً في أي اتجاه دون أن يتحقق فيما هو عليه هل هو على الحق أو على الباطل.. لا. قالوا هيا إلى قتال الرافضة قال هيا، وبادر، العصبية كما ورد تفسيرها في الحديث هي أن تُعين قومك على الظلم، أن تُعين قومك على الظلم، تتحرك معهم وهم هم المخطئون الظالمون الجائرون المعتدون، وللعصبية تأثيرها في واقع الأمة بشكل كبير.
كان هذا جانب من الجوانب التي هي نتاج لما قال عنه الرسول صلوات الله عليه وعلى آله " اتخذوا دين الله دغلاً" جانبٌ منه يستهدف القيم، ويستهدف الأخلاق، ويُربّي الأمة تربية على الباطل، فإذا جُرِّد الإنسان من أخلاقه وقيمه أصبح جاهزاً لأي شيء مهما كان سيئاً، وعبداً للظالمين وخادماً لهم ونصيراً لهم.
جانب آخر من "اتخذوا دين الله دغلاً" هو تحريف المفاهيم الدينية بما يخدم سياستهم، أولئك الظالمون الجائرون المفسدون عمدوا أيضاً كما استهدفوا القيم، استهدفوا المفاهيم كثيراً من المفاهيم، مثل شرعنة الطاعة للظالمين وايجابها وجعلها من دين الله عبادةً وقربةً إلى الله، جعلوا طاعة الظالمين من طاعة الله، وطاعةً لله وعبادةً لله، وقربةً إلى الله، وجعلوها سبيل أجرٍ وثوابٍ وقربةٍ وزلفى، وهذا من أعجب العجب، من أعجب ما حصل في تاريخ الأمة الإسلامية.! ومن أغرب ما حصل أن تشرعن، تصبح شرعية وتصبح دين.! وتصبح عباده، وتصبح قربة طاعة الظالمين الجائرين.! وقد سمعنا بعض ما قاله الله سبحانه وتعالى في الآيات التي سبقت في بداية المحاضرة.
عندما نتأمل في هذا الجانب التحريف للمفاهيم الدينية، من الذي يؤدي هذا الدور.؟ ومن الذي يقوم به.؟ ويَعمِد إليه .؟ من هي مهمته.؟ من هو الذي يشتغل هذا الشغل.؟. هم علماء السوء علماء البلاط، علماء السلاطين، مع احترامي لكل العلماء الصالحين المستقيمين نحن لا نقصدهم، كل العلماء الصالحين المستقيمين نحن لا نقصدهم، كلامنا هنا بالتحديد عن علماء السلاطين، علماء البلاط، العلماء الذين كانوا مرتبطين بالظالمين مناصرين للظالمين، ينصرونهم عبر تاريخ الأمة وإلى عصرنا هذا لا يزالون كذلك وسيستمرون على ذلك، لأن العلماء صنفين، علماء سوء وعلماء صالحين أصحاب حق وأصحاب حقيقة وواقفين في صف الحق، معانين مظلومين مضطهدين، لكن هناك علماء سوء، مهمتهم التي يمارسونها وهم جنباً إلى جنب مع الظالمين مع المفسدين مع الجائرين، مع السلاطين الجور مهمتهم هي تحريف المفاهيم الدينية، لتوظيف الدين لمصلحة الطغاة والجائرين، ولتحقيق ذلك يستخدمون أساليب متعددة منها، تنزيل النصوص الدينية في غير محلها وعلى غير واقعها وهنا جريمتان، افتراء وكذب في التوصيف، ثم جريمة التوظيف، التوظيف للنص الديني في غير محله.
أولاً يقومون بتوصيف حالة معينة بغير وصفها وبغير واقعها بما يتمكنون من خلاله على أن يطلقوا نصاً دينياً يوظفونه عليها ليتطابق عليها، مثلاً يأتون إلى قول الله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) هذا نص من القرآن صحيح، آية قرآنية من كتاب الله، لكنهم يُنزِّلونها على غير محلها، يأتي مثلاً إلى القائمين بالقسط، القائمين بالحق، الواقفين في وجه الظلم، المنادين بالعدل والعدالة فيسمي عملهم الذي هو حق وما يقومون به في سبيل إحقاق الحق وإقامة العدل، يسميه عالم السوء، عالم البلاط، يسميه حرباً لله ورسوله وإفساداً في الأرض إلى آخره.. ويصيغوا بياناً يوقعه مع غيره من أمثاله ويقرؤوا الآية القرآنية ويدعوا إلى قتلهم والتنكيل بهم وتقطيع أيديهم وأرجلهم، أو ضربهم بالطائرات أو إبادتهم بأي سلاح، يُنزل النص القرآني في غير محله، على غير واقعه، ويكذب حينما يوصِّف حالة معينة أنها نفس الحالة التي يتحدث عنها النص الديني في القرآن الكريم أو من الرسول صلوات الله عليه وعلى آله.
مثال آخر آيات الجهاد عندما يُنزِّل آيات الجهاد وهو يقصد التحرك في خدمة الباطل فيسميه جهاداً، يسمي القتال تحت الراية الأمريكية بعناوين طائفية أو بأي عنوان آخر، يسميه جهاد ثم يحشد النصوص القرآنية التي تتحدث عن الجهاد ولكن في غير محلها، أنت عندما تقاتل لمصلحة الأمريكيين والإسرائيليين هذا ليس جهاداً، هذا شراً، هذا عدواناً، هذا ظلماً، هذا بغياً، لا يسمى جهاد أبداً، عندما تتحرك في أوساط الأمة تحت عناوين طائفية تُطلق على أولئك أنهم رافضة، ثم تحشر النص القرآني الذي يتحدث عن الجهاد في غير محله.
مثال آخر عندما كانوا يقولون سواءً عن الإمام الحسين عليه السلام أو غيره من الثوار الذين ثاروا قياماً بالحق ونصرةً للحق وإقامةً للعدل من بعد الإمام الحسين عليه السلام، كانوا يقولوا شقّ عصا المسلمين، شقّ عصا المسلمين.! وفي الحقيقة هو شقّ عصا المجرمين، عصا الظالمين، عصا الجائرين التي بها يضربون الأمة ويسوقون الأمة إلى جهنم، إلى الخسران إلى الشقاء في حياتها في الدنيا وفي الآخرة، شقّ عصا الجائرين أما المسلمين لم يشق عصاهم ويعمل لقوتهم، لعزتهم.
مثال آخر هو التكفير، عندما يطلق التكفيريون إسم أو مسمى الكفر على مسلمين، لأنهم اختلفوا معهم في المذهب أو في الفكر أو في التوجه، فيطلقون عليهم كفاراً ثم يوردون كل النصوص القرآنية التي تتحدث عن الكافرين وكأنها تعني أولئك وهي لا تعنيهم، هم المسلمون حقاً في الأساس، هذا واحدٌ من أساليب التحريف للمفاهيم الدينية من خلال تنزيل النص الديني في غير محله على غير واقعه بتوصيف كاذب وافتراء وبهتان.
أسلوب آخر من تحريف المفاهيم من خلال تقديم مفاهيم باطلة، باطلة من الأساس والإفتراء على الله وعلى رسوله لإضفاء شرعيتها واعتبارها من الدين، مثلما تقدم من شرعنة طاعة الظالمين الجائرين واعتبارها من طاعة الله وعبادةً إلى الله وقربة إلى الله، هذا واحد من الأساليب، وهذا الأسلوب استخدم بشكل كبير في تاريخ الأمة وإلى عصرنا هذا، افتراء مفهوم من الأساس، يعني لا أصل له في الدين فيقول لك يجب طاعة الظالم، طاعة ولي الأمر وإن كان ظالماً، وإن قصم ظهرك، وإن أخذ مالك …إلى آخره. يأتي ويفتري على الله ويفتري على رسوله، نصوص معينة تدعم هذا المفهوم الذي هو ضلال في ضلال وباطل من باطل، فيقول سيكون بعدي أمةٌ لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، ثم يذكر نصوص أن الرسول أمر بطاعتهم والصبر عليهم والتقبل لهم وما إلى ذلك، هذا الأسلوب ورد بشكل كبير في واقع الأمة.
أسلوب ثالث من أساليب التحريف للدين هو تهميش وتغييب مفاهيم أساسية وذات أهمية كبيرة في الواقع ومحورية في دين الله، فتُغيَّب من عملية الوعظ والإرشاد والتثقيف الديني والتعليم الديني، ثم بالتالي تَغيب من دائرة الإهتمام، ومن نطاق العمل لتغيب في واقع الحياة، وهذا أسلوب خطير. أسلوب خطير، نجد من الأمثلة على ذلك مسئولية الأمة في القيام بالقسط وإقامة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مسئولية الأمة في إقامة العدل والقيام بالقسط من أكبر المسئوليات ويفترض أنها احتلت مكانةً كبيرةً في النشاط التعليمي والتثقيفي على المستوى الديني، أيضاً على مستوى الخطب والمواعظ والمحاضرات وما إلى ذلك، لكن نجد أن معظم الأمور المهم جداً والأشياء الأساسية والتي لها أهمية كبيرة في واقع الحياة وفي الدين نفسه، غُيبّت حتى نسيتها الأمة، وأصبحت حتى حينما تُذكَّر بها الأمة من جديد، الكثير من الناس يستغرب حينما يسمع حديثاً عن الجهاد، حديثاً عن مسئولية الأمة في القيام بالقسط والعدل، تعتبر مسألة غريبة جداً، وهذه فعلاً تركت أثرها الفظيع والمؤسف في واقع الأمة، حتى أصبح كثيرٌ من الدين غريباً.
نجد أيضاً أن هذا فعلاً كان إلى جانب الإستهداف للقيم تحريف المفاهيم الدينية من خلال علماء السوء تَرَك أثره السيء في واقع الأمة ولذلك نجد حديث القرآن الكريم عن سوء وفداحة ما عمل أولئك علماء السوء الظالمون الذين كانوا شركاء في الظلم بما فعلوه بالأمة، نجد الكثير من الآيات القرآنية نتحدث عن بعضها اختصاراً للوقت.
يقول الله سبحانه وتعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ومن أظلَم.؟ يعني لا أظلَم، ولا أسوأ ظلماً، ولا أفدح ظلماً ممن يفتري على الله الكذب، يفتري على الله الكذب فيحسب شيئاً من الدين وليس شيئاً من الدين، وعلماء السوء هم يفترون على الله الكذب ويحسبون على الله ما ليس من الله وما الله منزهٌ منه، ومقدسٌ منه، ومسبحٌ منه (مَنْ أَظْلَمُ) لأنهم فعلاً يظلمون أنفسهم بما ارتكبوا من عظيم الجرم وما تحملوا من الإثم وظلم كبير للناس الذين دجنوهم للظالمين وجعلوهم يخنعون ويقبلون بالظالمين، وينحرفون عن مسار الحق بسبب افتراءاتهم.
أيضاً جريمتهم في الكتمان، كتمان الحقائق وصمتهم عنها الله يقول (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) جريمتهم في لبس الحق بالباطل أشياء كثيرة، تُكتم الحقائق وفي نفس تغيب وتهمش أشياء أساسية جداً من دين الله فلا تُذكّر بها الأمة، ولا تُعلّم بها الأمة، ولا تقدم للأمة، بينما يصب الجهد التثقيفي والتعليمي في نطاق محدود شكلي غير مؤثر لوحده عندما فصل عن الأشياء الأساسية، ولا مصادم للظالمين ولا يصنع لوحده أثراً.
هكذا جنا بنو أمية على الدين واستمرت مسيرة التحريف والتوظيف للخطاب الديني في خدمة الباطل وفي خدمة أعداء الإسلام ولصالح المواقف التي هي وليدة الأطماع، ومن أبرز الأمثلة لذلك في عصرنا وزمننا هم التكفيريون.
التكفيريون قلنا في مناسبة سابقة عنهم أن من عجيب أمرهم أنهم لا يرون كفر أمريكا ولا كفر إسرائيل، الكافرون عندهم فقط هم الشيعة وبعض من السنة، أما الأمريكيين والإسرائيليين فهم أبرار في نظرهم ليس لديهم أي كفر أبداً، أولئك التكفيريون الذين هم أداة طيّعة وخدومة ومخلصة في يد أمريكا وإسرائيل ولصالح المشروع الأجنبي في ضرب الأمة الإسلامية، التكفيريون الذين يقومون بدورٍ أساس في ضرب الأمة من الداخل في تفريقها من الداخل، في إضعافها من الداخل، في استنزاف قدراتها وطاقاتها من الداخل، في إلهائها عن قضاياها الكبرى ومسئولياتها المهمة.
مؤامرتهم سواءً في اليمن، أو مؤامرتهم في سوريا أو في أي شعب من شعوب أمتنا الإسلامية هي مؤامرةٌ على الأمة بكلها، ومؤامرتهم في بلدنا اليمن هي مؤامرة على الشعب اليمني بكله، وتهدف لتحقيق ما سبق من الأهداف، تهدف لإلهاء شعبنا اليمني عن المخاطر الكبيرة وفي مقدمتها الخطر الأمريكي، والأمريكيون أصبحوا متواجدون في البلد بقواعد عسكرية ويعملون ليل نهار في ضرب الشعب اليمني بشتى الأساليب والوسائل وعلى كل المستويات، يعملون على خدمة الخارج والقوى العميلة النافذة في الداخل في إلهاء الشعب اليمني عن الاستحقاقات، عن المطالبة بالاستحقاقات الكبرى والأساسية لثورته الشعبية وفي مقدمتها إقامة نظام عادل وحكم رشيد بالحقيقة وليس بالوصف فقط، وتحقيق حالة التغيير المنشود، لا يريدون للشعب اليمني أن يحقق أهدافه من ثورته، لا يريدون له أن يحقق التغيير الحقيقي، لا يريدون له أن يتخلص من قوى النفوذ والجور والظلم التي عانا منها في الفترة الماضية وهم أداة يخدمونها ويخدمون الخارج، يعملون على تمزيق النسيج الإجتماعي، وتفريق اليمنيين على أشد مستوى وأبشع حال، وإغراق البلد في نزاعات داخلية، يعملون على تدمير البلد بمقدراته وامكاناته وافقاده السلم والأمن.
هم مثال واضح لحالة التحريف للدين، الإستهداف للدين بتحريف مفاهيمه، من الأمثلة أيضاً المحلية طبعاً في اليمن هيئة علماء حزب الإصلاح التي تسمي نفسها بهيئة علماء اليمن والتي سمعنا منها قبل أيام موقفاً تُحرِّض فيه على قتل الناس بغير حق ولا تمانع في إبادة طائفة واسعة وشريحة كبيرة من أبناء الشعب اليمني، هيئة علماء حزب الإصلاح هي أولاً هذه التسمية تسمية هيئة علماء اليمن التي سمت نفسها بها هي تسمية غير صحيحة نهائياً عندما سمّوا أنفسهم بهيئة علماء اليمن وهم في الحقيقة هيئة علماء حزب الإصلاح، حزب معين يمثلونه يشتغلون لمصالحه السياسية ووفق توجهاته السياسية، يوظفون النص الديني والموقف الديني والفتوى الدينية على ضوء توجهاته السياسية، ولا أعرف لماذا سموا أنفسهم بهيئة علماء اليمن.! هل يعنون أنهم يمثلون جميع اليمنيين وأنهم مهتمون بجميع اليمنيين فالواقع يشهد أنهم ليسوا كذلك، هم همهم إطار محدود، يعملون في إطار ضيق بتوجه ضيق ولا يبالون ببقية اليمنيين نهائياً، الواقع يشهد، مواقفهم كلها لم نجد فيها موقفاً لمصلحة اليمنيين كل اليمنيين.
أيضاً الهيئة هذه لا تضم جميع علماء اليمن، فئة محدودة من علماء معينين، طائفة معينة في إطار سياسي معين وبقية علماء اليمن ليسوا ضمن هذه الهيئة، فلماذا تسمي نفسها هيئة علماء اليمن.؟ الغلط أولاً على مستوى التسمية، ثم على مستوى الممارسة وعلى مستوى المواقف، أولئك البارزون في الهيئة هم من نعرف دورهم في شرعنة وتبرير كل الجرائم الرهيبة والفظيعة بحق إخوتنا في الجنوب، وبحق أبناء محافظة صعدة والمحافظات الشمالية طول الحروب الست، من الذي برر وأفتى وأجاز قتل النساء والأطفال في الجنوب في عام 94م من أصدر هذه الفتوى إلاّ من أولئك، هو منهم ويمثلهم ومن ضمنهم، وكان توجهاً واضحاً لهم أولئك البارزون في تلك الهيئة.
أما في حروب صعدة فهم فقط وكذلك في حرب الجنوب 94م ليس فقط أنهم برروا وشرعنوا، بل دعوا الناس، حرضوا الناس، دفعوا بالناس إلى القتل، وشجعوا الجيش، وشجعوا الحكومة على ممارسة أبشع الجرائم وإلحاق أشد الأذى بالناس المستضعفين في الجنوب والشمال بما في ذلك النساء والأطفال، في المقابل رأينا سكوتهم وتغاضيهم عما يحصل على الآخرين من خارج تياراتهم وطوائفهم وأحزابهم، لم نرى عندهم استعداد ولا تبني أي موقف، هل كان لهم موقف عندما كانت الطائرات في الحرب السادسة تقتل المئات من الأطفال والنساء في صعدة بقنابلها، عندما كانت الطائرات الأمريكية والسعودية واليمنية تقتل النساء والأطفال في محافظة صعدة وتقذف بقنابلها وصواريخها على البيوت والمساجد والمدارس والمستشفيات، وكانت كثير من الأسر تتقطع إرباً إرباً بفعل تلك القنابل وتُشوى لم نسمع لهم أي موقف.! كل ما كان هناك حرام أصبح هناك جائز.! تمييز سياسي، تمييز طائفي، تمييز مناطقي، رأينا أيضاً تغاضيهم عن الإساءات الكبرى من جانب أعداء الإسلام الحقيقيين، تجاه أمريكا، تجاه إسرائيل ولم نجد عندهم يوماً من الأيام الحماس، والإندفاع والتفاعل الذي يبدونه تجاه قضايا معينة بدافع طائفي أو سياسي، لم نجد عندهم هذا التحمس وتلك الشدة، هل يجرؤون على إصدار فتاوى إهدار لدماء من أساؤوا للرسول كما يصدرون بيانات وفتاوى تهدر ضمنياً دماء أبناء محافظة صعدة، وينادون بقتلهم، ويحرضون على قتلهم، هل يجرؤون على ذلك.؟ لن يجرؤوا أبداً، لن يجرؤوا أبداً.
كما كان هناك امتداد للتوجه الأموي، كما كان هناك امتداد لحالة الإنحراف التاريخية في واقع الأمة هناك أيضاً امتداد للحق، امتداد للقيم، امتداد للأخلاق، امتداد للنهج المحمدي الأصيل نراه في كل الثابتين على الحق، في كل الصابرين، في كل المواجهين للظلم وللطغيان، في كل المتمسكين بقيم الإسلام، ونرى الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى الإمام الحسين عليه السلام، إلى نفحةٍ من نفحات العز والإباء والكرامة والطاعة لله التي كان يتحلى بها الإمام الحسين عليه السلام.
نسأل الله أن يوفقنا بأن نسير على نهج وخطى الإمام الحسين عليه السلام في نهج وخطى جده المصطفى محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
5 / محرم / 1435هـ