سوريا الجديدة.. شواهد ملبدة بالتهاون وأمل في حدوث مفاجآت
موقع أنصار الله . تقرير | وديع العبسي
فيما لا تزال بعض الدول أو الكثير منها تحاول قراءة السياسة السورية الجديدة أو تَكهُّن تعاطيها مع القضايا الإقليمية والدولية وعلاقاتها مع محيطها العربي والدولي. المعطيات لا تنتظر لتشير الى جوهر هذه السياسة بصورة واضحة بلا لبس ولا مواربة. طبيعة العلاقة مع الكيان الصهيوني تكاد تكون المؤشر الأبرز الذي يترقب العالم على أي نحو ستكون، وكنهتها ستعني للمنطقة أهمية كبيرة لدلالاتها وآثارها على صعيد القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني.
سلوك الإدارة الحاكمة الجديدة في سوريا -بقيادة احمد الشرع- كشف حتى الآن عن إشارات لهذا الجانب، عكستها -حسب مراقبين- سلبية الموقف تجاه العدوان الإسرائيلي بقضم أراضٍ جديدة أو تدمير القدرات العسكرية للبلاد، أو حتى تجاه تأكيد “حكومة ” العدو الإسرائيلي باحتلالها أراضاً جديدة لن تخرج منها دون اعتبار لموقف السوريين، على أن ما كشفت عنه الأيام التاليات حسم أكثر في الحكم بأن سوريا -التي كانت قلعة للمقاومة- ربما تنخرط في إطار دول المولاة للكيان الصهيوني. ويرى مراقبون أن ما تضمنه لقاء صحفي للشرع من مطالبة لـ”إسرائيل” بالخروج من المناطق التي احتلتها كان محاولة فقط للرد على من يتحدثون ويتوافقون على سلبيته تجاه ما يجري، فما ورد -حسب المراقبين- لا يرقى لمستوى ما قام به العدو، إذ كان من الممكن مطالبة المجتمع الدولي -إعلاميا على الأقل باعتبار أن حكومته غير معترف بها- بإدانة صريحة ورفض لتعديات “إسرائيل” في سوريا لإثبات صدقية الموقف.
نزع سلاح السوريين
مع ذلك جاءت تصريحات الجولاني مشذّبة من كل مظاهر الحزم، ومن الرسائل الأكيدة بأن ما يجري غير مقبول ولن يستمر، والأوضاع التي لا تزال مرتبكة في البلاد لا تبرر تأجيل مواكبة التجاوزات الإسرائيلية بالتفاعل الطبيعي لجهة التعبير عن رفضها على الأقل. وربما شجع مثل هذا التعاطي المسالم، العدوَ الإسرائيلي على الاستمرار في تقليم حاضر سوريا ومستقبلها وانتهاك سيادة أراضيها. وعقب مشهد تدميره للمطارات والمواقع والقواعد العسكرية السورية البرية والجوية والبحرية ومخازن أسلحة بمئات الغارات، تبادل كيان الاحتلال و”هيئة تحرير الشام” رسائل الطمأنة، ليتحرك العدو بصورة أكثر جرأة، إذ شهد الوضع توغلَ وحدات صهيونية داخل قرية (المعلقة) وقطع الطريق بينها وبين (صيدا) في الجولان، وتوغل قوة أخرى باتجاه محافظة درعا. ثم عقدت بكل جرأة اجتماعاً بشيوخ ووجهاء عشائر بلدات تم احتلالها في القنيطرة ودرعا، وكان الأكثر جرأة من ذلك مطالبة الاحتلال للعشائر بإنهاء المظاهر المسلحة داخل بلداتهم ونزع سلاح القبائل بصورة سريعة، وتسليمها خلال أيام. ناهيك عن إطلاق النار يوم أمس الجمعة وإصابة مواطن سوري خلال تظاهرة مطالبة برحيل الاحتلال في درا ، وهو ما رأى فيه مراقبون تجاوزاً سافراً من قبل كيان الاحتلال لكل الخطوط الحمراء، فمثل هذا التحرك تقوم به حكومة البلاد، والسلاح إذا تم تسليمه فيكون لهذه الحكومة.
ولمّا كان التعاطي مع مثل هذه التحركات العدائية للاحتلال ينافي منطق حفظ السيادة ورفض -بل ومواجهة- أي اعتداء، فإن استخفاف العدو جرأته تزايدت لتصل حد تبرير ما يقوم به بأنه يأتي في إطار حرصه على حفظ حقوق الأقليات في سوريا، وهذا ما نقلته صحيفة “معاريف” العبرية عن ما يُسمى وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الذي قال: “أعداؤنا ناجحون جداً في الدعاية ودخلنا سوريا لحماية الأقليات”.
شواهد التسامح مع العدو
ورغم مسارعة الكيان الصهيوني إلى نفي رغبته احتلال أي أراض جديدة في سوريا، إلا أن سلوكه العدواني يكشف -كل مرة- عن عنوان جديد يعمل عليه، فالمخاوف المزعومة من الجماعات المتطرفة جعل منها أساسا في أول التحرك لمواصلة تدمير البنية التحتية الدفاعية بشكل كامل تقريباً لسورية من صواريخ وراجمات حديثة، وصواريخ أرض جو الاستراتيجية وطائرات مقاتلة، ومروحيات قتالية، وصواريخ سكود، وطائرات مسيّرة، وصواريخ كروز، وصواريخ ساحل – بحر، وصواريخ أرض – جو، وصواريخ أرض – أرض، بالإضافة إلى رادارات وقذائف صاروخية وغيرها من الأسلحة. كما تم استهداف مواقع الرادارات وأخرى تابعةً لسلاح الاتصالات والحرب الإلكترونية.
وفي التحرك الموازي كان الاستمرار في التعمق واحتلال الأراضي لا يشير إلى نوايا طيبة. نتنياهو أكد أن الخروج من المناطق التي احتلها لن يكون متاحا على المدى المنظور وربما يستمر للأبد، وصحيفة “معاريف” العبرية أكدت أن: “الانطباع المتزايد هو أن “إسرائيل” تخطط لوجود أطول في الأراضي السورية”، وكان “رئيس حكومة” العدو الصهيوني أوعز إلى “جيشه” بالاستعداد للبقاء في منطقة جبل الشيخ السورية والمنطقة العازلة حتى نهاية عام 2025 على الأقل.
وخلال زيارته لقمة جبل الشيخ في الجولان، أشار “وزير الحرب” الصهيوني المجرم “يسرائيل كاتس” إلى أنّ “قمة جبل الشيخ تُعدّ عيون “إسرائيل” لرصد التهديدات القريبة والبعيدة”. بينما تداول الإعلام العبري ما يمكن وصفُه بالاحتلال الناعم أو الاحتلال باسم القانون، إذ تحدث إعلام الصهاينة عن عشرات آلاف الدونمات داخل العمق السوري، مدعيا بأن “البارون إدموند جيمس دي روتشيلد” اشتراها زمن الدولة العثمانية لصالح الوكالة اليهودية”.
وفي شاهد آخر، التسامح مع الكيان وهو يتحرك داخل سوريا بكل أريحية محاولا فرض واقع جديد هناك، لاحظه العالم في حضور التلفزيون العبري “اي 24” بالداخل السوري وتغطيته تظاهرات السوريين بعموم المدن بما فيها دمشق، متبنيا خطاب عناصر الجماعات الحاكمة ومناصريها.
وفي شاهد أكثر إثارة، ما كشفت عنه صحيفة الأخبار اللبنانية بقولها: أبلغ “الجولاني” فصائل المقاومة الفلسطينية العاملة في سوريا بإلقاء السلاح، وإغلاق المعسكرات التدريبية، وإلغاء أجنحتها العسكرية العاملة من سوريا. وهذا ربما يعطي فكرة واضحة عن رؤية “هيئة تحرير الشام” تجاه القضية الفلسطينية التي سبّبها احتلال الكيان الصهيوني للأراضي والمقدسات الإسلامية.
ومساء الاثنين الماضي، مروحية إسرائيلية تهبط قرب أحد المواقع العسكرية بمحيط العاصمة دمشق وتغادر المكان بعد وقت قصير، قالت وكالة “سبوتنيك” إن جنودا إسرائيليين دخلوا إلى الموقع العسكري وغادروا المكان بعد ما يقارب 20 دقيقة باتجاه الجنوب السوري.
ازدواج الموقف
تنامي نغمة الرفض لصراع القوى الإقليمية داخل سوريا لم يكن له تأثير لجهة الضغط على جماعات الحكم، من أجل فرض مبدأ الاستقلال عن نوازع هذه القوى، ما أعطى انطباعا أوليا سلبيا عن ما يمكن أن تؤول إليه تفاصيل المشهد السوري. وملامح الرؤية المستقبلية للعلاقات التي يمكن تصنيفها بالمحور الأمريكي الصهيوني ومحور باقي القوى الدولية تتكشف من الرسائل المباشرة سواء في تصريحات الشرع أو في تواجد الدول وتحركاتها داخل سوريا، فقائد العمليات العسكرية الشرع قال في تصريحات لتلفزيون سوريا الذي يبث من تركيا: “إنّنا لسنا في صدد الخوض في صراع مع إسرائيل، ولا حِمل معركة ضدّها”. بينما بالنسبة لإيران قال إن “وما حدث انتصار على المشروع الإيراني الخطير في المنطقة”، على حد قوله. أما عن روسيا فقال الشرع: “كان في إمكاننا ضرب القواعد الروسية في سوريا، لكننا أعطينا الروس فرصة في إعادة النظر في علاقتهم بالشعب السوري”.
اشراف خارجي على تشكيل الحكومة
هذا الموقف من “إسرائيل” ربما هو الذي هيأ الفرصة لفتح مناقشة حول القرار 2254، وهو ما اتضح الاثنين الماضي خلال لقاء رئيس غرفة عمليات الفصائل المسلحة والذي يطلق عليه حاليا قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع مع المبعوث الأممي لسوريا جِير بيدرسون الذي زار سوريا للإشراف على تشكيل حكومة انتقالية. ومع ما يمكن أن يفتحه إعادة النظر في القرار -حسب الشرع- للشعب السوري من انفراج على صعيد كثير من القضايا الناشئة عن حالة الحصار والاستهداف ونشاط الجماعات الإرهابية خلال أكثر من عقد مضى، إلا أن الشرع فضّل -كما يبدو من اللقاء- ضمان الحصول على الاعتراف الدولي كأولوية قصوى وترحيل باقي القضايا وعدم الضغط بتعجيلها، كتلك المتعلقة بعودة اللاجئين، ووحدة أراضي سوريا وإعادة الإعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية.
وقالت الوكالة السورية للأنباء “إن الشرع تحدث عن ضرورة التعامل بحذر ودقة في مراحل الانتقال وإعادة تأهيل المؤسسات لبناء نظام قوي وفعال”. ووفق “سانا” أشار الشرع إلى “ضرورة تنفيذ هذه الخطوات بحرص شديد ودقة عالية دون عجلة وبإشراف فرق متخصصة، حتى تتحقق بأفضل شكل ممكن”.
وفي عين الوقت فان عدم الحصول على وعود ببقاء الوضع في سوريا على حاله من أن تنهشه المطامع، ينبئ أيضا بحقبة مختلفة جدا لملامح الدولة السورية وهويتها، قد تكون فيها مهادنة أو قد تدخل في صراعات دائمة، فإلى جانب الكيان الصهيوني هناك تركيا وأمريكا، وقد بداتا فعلا الاستفادة من الأحداث في الداخل السوري لصالح أجندتيهما الخاصة.
سباق امريكي تركي
في البدء ارتفعت وتيرة التنافس بين الدولتين لخطف إدارة الحكم، إذ جاء الدفع الأمريكي ببيدرسون لعقد لقاءات مع القوى السورية لتشكيل حكومة جديدة، على وقع محاولة تركيا إسناد مهام إدارة سوريا الجديدة لسفارتها بدمشق التي بدأت عملها السبت 14 ديسمبر عقب زيارة لوزير الخارجية التركي بمعية رئيسَي استخبارات بلاده وقطر. أمريكا أيضا سبقت تركيا بخطوة، إذ جاء الدفع بالمبعوث الأممي عقب لقاء في مدينة العقبة الأردنية ضم مجموعة الاتصال العربي الخاص بسوريا والتي تقودها السعودية بوزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن. وقال بلينكن “انه تم الاتفاق في الاجتماع الذي حضره وزير الخارجية التركي على مجموعة مبادئ للعمل في سوريا”، فيما كانت تركيا نجحت نسبيا بالسيطرة على المشهد السوري ودفعت بفصائلها في مناطق سيطرة الفصائل الكردية التي تصنفها أنقرة كمنظمات إرهابية.
إلا أن التحرك الأمريكي الذي انتهى إلى تفعيل المبعوث الأممي في سوريا نجح في تحجيم مساحة المناورة التركية بملف سوريا، ثم عكست التحركات الصريحة، نَهَم الدولتين لخلق وضع يتناسب مع رؤيتيهما حول قضايا مرتبطة بهما لها علاقة بسوريا.
ولأجل كل ذلك -في مثل هذه المناخات غير الحازمة لجهة الانتصار للحقوق والثوابت واحترام مبدأ سيادة الدولة على أراضيها- واصل العدو الصهيوني فرض معادلة الاستباحة في سوريا حسب توصيف السيد القائد عبدالملك الحوثي، وظهر من حجم ومواقع الاستهداف أن العدو لا يزال يرى في الوضع العام العربي والدولي ما يحفزه على الاستمرار.
يأتي هذا رغم حديثه عن تدمير 90% من القوة الصاروخية السورية، و80% من القدرات العسكرية للبلد، فضلا عن البنية البحثية المتعلقة بالتطوير الصناعي، وعلى ضوء النشوة التي تسببت في تصاعد الهجمات، لا يبدو أن العدو في وارد الإرتداع مالم يكن هناك صوت واضح يجرّم هذا العدوان، يتبعه تحرك عملي صريح. وخلال الأيام الماضية تعالت الأصوات الرافضة لهذا التمادي عقب مصادقة “الحكومة” الصهيونية -الأحد- بالإجماع على خطة قدمها رئيسها بنيامين نتنياهو لتعزيز ما أسماه “النمو السكاني” في مستوطنات الجولان المحتل بتكلفة تزيد عن 11 مليون دولار، ورغم أن مثل هذا الإعلان ليس بجديد فقد بشّر به نتنياهو حين قال بان “هضبة الجولان ستبقى إلى الأبد جزءاً لا يتجزأ من “إسرائيل”، إلا أنه فِعلٌ يثبت لمن تخاذلوا طويلا وتصوروا أن مثل هذا الكيان يرغب في السلام، بأنه يسير في اتجاه طموحه وأهدافه بالجغرافيا الكبيرة لكيانه غير عابئٍ بمواقف أو تقييمات لممارساته.