الأطماع الصهيونية وحلم التوغل إلى الفرات

 

أنصار الله. يحيى الربيعي 

 

في عالم مملوء بالدجل والتضليل، يبرز الكيان الإسرائيلي كنموذج متفرد في تجسيد فهلوية التلاعب بالمفاهيم، حيث يتم إلباس الحق بالباطل وفبركة الحقائق. من هنا تأتي التسمية “سهم باشان” التي أطلقها العدو الإسرائيلي على عملياته العدوانية الأخيرة في جنوب سوريا، لترمز إلى المشروع التوسعي الذي يحاول تحقيقه تحت غطاء “ديني”. هذه الأسماء تعد جزءا من استراتيجية مدروسة تعتمد على موروث “عقائدي” يتعمد الكيان الغاصب استغلاله لتبرير الأعمال العدوانية، بدءاً من العمليات العدوانية في 1948 التي أطلق عليها “يواف” إلى العدوان الحالي.

عندما يستدعي العدو الإسرائيلي النصوص “التوراتية”، فإنه لا يمارس فقط عملية تجميل لصورة عدوانه، بل يسعى لاستعادة حلم واهٍ طمح فيه أسلاف اليهود، والمتمثل بالسيطرة على أراضٍ تمتد من النيل إلى الفرات. هذه الإيحاءات “الدينية” تسلط الضوء على الطموحات الصهيونية الجشعة، التي تسعى إلى تجسيد أحلام قادة الكيان واستغلال الأحداث الطارئة لتحقيق مزيد من التوسع.

 

“سهم باشان”: هو اسم ينسب أصله إلى “التوراة” التي حرّفها اليهود، أطلقه الكيان الإسرائيلي المؤقت على عمليته العدوانية الأخيرة في سوريا، حيث يتوسع العدو لاحتلال أراضي جنوب سوريا. وفكرة لجوء العدو الصهيوني للعمليات الاستيطانية، والتي يصفها بالترجمة العملية لما يطلق عليه بـ “أحلام حكام إسرائيل وحاخاماتها ونبوءاتهم بالسيطرة والاستيطان”، نشأت مع أول عملية قام بها العدو الإسرائيلي عام 1948، والتي أطلق عليها عملية “يواف”؛ وهو مسمى “أحد قادة جيش النبي داوود”.

الدلالات والأبعاد للعناوين “التوراتية” المحرفة لحروب العدو الصهيوني تكمن في السعي المحموم لقادة العدو إلى التهام الأراضي العربية بدءاً من فلسطين وصولاً إلى القبض على المناطق الواقعة بين النيل والفرات. ها هي ما تسمى بحكومة نتنياهو تسخر “جيش” الإبادة وتعتمد سياسة الأرض المحروقة سعياً لإقامة ما تحلم به “دولة إسرائيل الثانية”.

 عندما يطلق العدو الإسرائيلي على العملية العدوانية في سوريا “سهم باشان”. ووفقاً لما دونه الحاخامات في “التوراة” المحرفة، فإن “سهم الباشان” مفهوم “توراتي” سبقته تسميات كثيرة “دينية” لعمليات عسكرية وحروب ظاهرها “ديني” وفق المفهوم الصهيوني وباطنها توسعي احتلالي استيطاني.

على سبيل المثال، أطلق العدو الإسرائيلي اسم عملية “كاتش” على العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وهو اسم استوحته من مدينة “توراتية” في سيناء وفق صحيفة “معاريف” العبرية. وفي مثال آخر، حمل العدوان على غزة عام 2004 اسم عملية “قوس قزح”، وهي استدعاء لقصة “قوس النبي نوح” في “التوراة” المحرفة لما يَعُدُّه اليهود التبشير بالولادة الجديدة.

في نوفمبر تشرين الثاني عام 2023، أثناء عملية الإبادة الوحشية والتي لايزال يقوم بها العدو الإسرائيلي في غزة، استَشَهد المجرم نتنياهو في خطاباته ثلاث مرات على الأقل بنصوص من “توراة” اليهود المحرفة  لتبرير عدوانه الدموي، وذلك من خلال اللجوء إلى الإشارة إلى قبيلة “العماليق” المذكورة في توراتهم لتبرير عدوانه على غزة. وكلمة “عماليق” تعني لدى اليهود ذروة الشر الجسدي والروحي.

“التوراة” والموروث “الديني” اليهودي المحرف يمثلان الغطاء للمشروع الصهيوني في مخططاته للتوسع والاستيطان، على غرار ما يحدث في الضفة الغربية، والمحاولات المكثفة لإعادة إحياء فكرة زرع المستوطنات في لبنان، حيث يستميت الصهاينة لاختراع حقوق “دينية” وثقافية في الجنوب.

  

النصوص “التوراتية” المحرفة في سياسة التوسع

 

“إسرائيل” هي كيان الاحتلال الاستيطاني الوحيد الذي ما يزال -في التاريخ الحديث والمعاصر- مستمراً في انتهاج مسار التوسع الجغرافي بشكل كبير وواضح. بمعنى، هناك نماذج احتلال استيطاني كثيرة في العالم، منها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومنها أيضا نيوزيلندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية نفسها. ولكن أن يستمر كيان الاحتلال الاستيطاني في انتهاج التوسع الجغرافي، فإن هذه سمة لم تعد مرتبطة سوى بذهن كيان الاحتلال الإسرائيلي بشكل أساس.

وهذا يعود -حسب محللين- إلى عاملين اثنين: العامل الأول أنها تمثل ذراع الإمبريالية العالمية في المنطقة، ومطلوب منها عدد كبير من المهمات، جزء منها على شاكلة القفاز القذر يطلب منها أن تؤديها في المنطقة بشكل كامل، وتتطلبها عملية التوسع التي تريدها منها الإمبريالية، وهذا طبعاً ترافق وتزامن بشكل كبير مع أن تكون العباءة الأيديولوجية أيضاً واسعة. عندما وضع سموتريتش خريطة الأردن أنها جزء من “إسرائيل” هو بشكل أو بآخر يحاكي نموذج “ثيودور هيرتزل” عندما قال: إن “الدولة الصهيونية لا حدود لها، وهذه الحدود تتسع كلما زاد الخزان البشري من المستوطنين الذي يمكن أن يستوطن في هذه الأرض”.

يقول المؤرخ السوري عفيف بهنسي في كتابه الأساسي “تاريخ فلسطين من خلال دراسة علم الآثار”: أن الحركة الصهيونية تعود إلى مجموعة من النصوص التوراتية لتقول بـ “أن الثروة والطاقة -وجزء من الثروة هو الأرض- هي حكر للعقل اليهودي الذي ينطلق من هذه النصوص. إلى أعلى، يرتقي العقل اليهودي، أما الجوييم (الأغيار) وهم جميع الأمم الأخرى، فهم مثلث مقلوب يسير إلى أسفل. هذا العقل يعيش حالة انحطاط، وبالتالي هو لا يستحق استثمار هذه الثروة وهذه الطاقة بشكل أو بآخر.”

مشيرا -بهنسي- إلى أن هذه الأيديولوجيا “التوراتية” المستمدة من هذه النصوص هي باختصار قائمة على فكرة تفويض بقتل الآخر واعتبار هذا الآخر شكلاً من أشكال الجوييم (العبيد). وعلى هذا الجوييم الذي يُقتل من منظور الأدبيات “التوراتية” أن يكون ممتنّاً لأنه يُقتل على أيدي معتنقي “اليهودية”. تصدير هذا الخطاب لن يتوقف عند حدود الأرض، تفويض قتل الآخر جزء منه يعني بطبيعة الحال اكتساح مساحة الأرض، التهام “الرافيا” ضمن هذه الأيديولوجيا الأبوية العامة.

وأضاف المؤرخ عفيف بهنسي: وفي حال الإجابة على تساؤل: بالتالي، ما خطورة لجوء “إسرائيل” إلى نصوص “دينية” في عدوان توسعي عسكري؟ تجدر الإشارة إلى أن المنطق الإسرائيلي عند استحضاره للأبعاد التراثية والدينية ينطلق من واقع “تقديم المبررات”، هو -أيضًا- يخاطب الغرب المؤيد للكيان الإسرائيلي، وخاصة في ما يتعلق بنقل ما يسمى بـ “الصهيونية المسيحية” بشكل أساسي. وذلك بدلالة أن الدعوة إلى بناء “الهيكل الثالث” لا تزال تلقى صداها في الغرب. حتى أن وزير الدفاع الأمريكي المعين مؤخراً -والذي سيخضع للاستجواب والمصادقة- يتحدث عن عودة “الهيكل” أو عودة بناء “الهيكل الثالث”.

 

قد يعجبك ايضا