المشروع التركي في سورية .. بين النجاح والفشل

|| صحافة ||

سريعاً تكشّف الدور التركي في الأحداث الدراماتيكية المتسارعة التي شهدتها سورية، والتي انتهت بسقوط النظام السوري في 8 ديسمبر من الشهر الجاري، بعد دخول مقاتلي “هيئة تحرير الشام” إلى العاصمة السورية دمشق، وذلك في أعقاب السيطرة على كل من حلب وحماه وحمص على التوالي، وكان واضحاً منذ اللحظة الأولى لبدء الهجوم على حلب أن الدور التركي انتقل من الخفاء إلى العلن، وأن تركيا تنكرت لكل اتفاقياتها السابقة مع كل من روسيا وإيران، في ما عرف بصيغة آستانة طوال سنوات من الصراع في سورية، وبدا واضحاً أن مخطط إسقاط سورية قد أعد له مسبقاً من قبل أنقرة، بالتنسيق مع واشنطن والكيان الصهيوني وقوى إقليمية ودولية عدة، وهو ما أكدته تصريحات وزير الحرب “الإسرائيلي” يسرائيل كاتس الذي اعترف علناً بضلوع كيانه في المخطط بقوله: “لقد أسقطنا نظام بشار الأسد في سورية ودمرناه”، ولعل انطلاق الهجوم على حلب بعيد ساعات من إعلان نتنياهو عن موافقته على وقف إطلاق النار في لبنان وتهديداته العلنية لدمشق ونظامها السابق في إطار مخططه المعلن لتغيير الشرق الأوسط شكل أوضح دليل على التنسيق المسبق لكل ذلك.

شكّلت سورية أحد أهم الهواجس والأطماع في الإستراتيجية التركية مع وصول أردوغان للسلطة في العام 2002 ، وبعد سنوات من العلاقة الحميمية والانفتاح والتعاون السياسي والتجاري والاقتصادي قادت تركيا منذ العام 2011 مشروع إسقاط النظام السوري، في ما عرف بالربيع العربي، وصولاً إلى اللحظة الحالية التي أتاحتها لها الظروف الإقليمية والدولية، والتي لم يتوانَ النظام التركي عن استغلالها لتحقيق أطماعه ومخططه القديم الجديد في سورية.

يجمع معظم السياسيين والمتابعين على أن تركيا هي الرابح الأكبر في الحدث السوري المستجد، غير أن تعقيدات المشهد السوري والموقع الجيوسياسي الاستثنائي للجغرافيا السورية بالإضافة لخطورة المرحلة التي يمرّ بها الصراع العالمي وتحولاته كل ذلك يفرض على تركيا ويضع أمامها الكثير من علامات الارتياب حول حقيقة هذه الأرباح وحول المصاعب والتهديدات التي يمكن لها أن تعترض مشروعها في سورية.

 

المكاسب التركية :

مع وجود سلطة أمر واقع جديدة في دمشق ممثلة بـ”هيئة تحرير الشام” التي تتبع لتركيا في خياراتها وقراراتها، فإنه يمكننا الحديث عن المكاسب التركية الآتية:

أولاً؛ تمكنت تركيا مرحلياً من تعزيز نفوذها الإقليمي في الشرق الأوسط على نطاق واسع، وذلك على حساب قوى أخرى كإيران وروسيا والدول العربية.

ثانياً؛ ستشكل السوق السورية مساحة واسعة للتجارة ولتصريف البضائع التركية خاصة إلى جانب سماح السلطات الحالية في دمشق بالتعامل بالليرة التركية وهو ما سيشكل قوة إضافية للعملة التركية التي تعاني من ضغوطات كبيرة.

ثالثاً؛ ستسعى تركيا لتكون صاحبة الحصة الأكبر من الاستثمارات المتعلقة بإعادة الإعمار في سورية وعلى الصعد كافة، وهو ما سيعني انتعاشاً واسعاً للشركات التركية وبالتالي الاقتصاد التركي الذي يعاني من تضخم العملة و خدمة الدين العام.

رابعاً؛ تشكل سورية المعبر التجاري الأكثر أهمية لتركيا والذي يربطها براً بالعالم العربي بمشرقه ومغربه وصولاً إلى جنوب شرق آسيا وإفريقيا، خاصة بعد أن جرى استبعادها من مشروع الممر الهندي.

خامساً؛ تعتقد أنقرة أن سقوط النظام في سورية سيشكل دافعاً للاجئين السوريين الموجودين على اراضيها للعودة إلى سورية، ولطالما كان هذا الملف محط تجاذب في الحراك السياسي الداخلي لتركيا، وواحدًا من عوامل الضغط الداخلي.

سادساً؛ نجحت تركيا حتى الآن في إزالة مخاوفها جزئياً بما يتعلق بالوجود الكردي على حدودها الجنوبية بعد أن طردت قوات “قسد” من تل رفعت ومنبج، وتسعى لاستكمال ذلك إلى عين العرب عبر إحدى الفصائل السورية المدعومة من قبلها والتي تعرف باسم “الجيش الوطني السوري” وصولاً لتحقيق هدفها السابق بإنشاء منطقة آمنة في الداخل السوري بعمق 30 كم على طول الحدود، وكل ذلك في ظل إصرار القيادة الجديدة في دمشق على نزع سلاح قوات “قسد” وبسط سلطتها على مناطق سيطرتها في شرق الفرات.

سابعاً؛ تسعى تركيا لصياغة نظام حكم في دمشق يتلاءم مع مصالحها ويحاكي نظام الحكم التركي ويتبع له ليشكل حليفاً إستراتيجياً لها، وذراعاً إقليمياً تستخدمه في ممارسة نفوذها في المنطقة، وهو ما يفسر رفض تركيا لأية محاولات لتقسيم سورية، وإعلانها الاستعداد لحماية سلطة الحكم الحالية في دمشق.

ثامناً؛ في إطار النفوذ “الجيوسياسي” التركي المنافس لقوى إقليمية ودولية عدة على امتداد ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير وخارجه وصولاً لآسيا الوسطى والبحر الأسود و البلقان، وإلى الهند وباكستان، وعلى امتداد إفريقيا والبحر المتوسط، فإن الفوز بالرقعة السورية ولو مرحلياً سيمنح أنقرة بيدقاً هجومياً، يلزم منافسيها بالتحسب والتحوط وربما التراجع خطوة في كل تلك الساحات.

 

المخاطر والمصاعب :

على الرغم من حالة النشوة والشعور بالنصر البادية في الخطاب السياسي التركي من خلال التصريحات والمواقف الكثيفة لكل من أردوغان وأركان نظامه ومسؤوليه، والتي ترجمتها الصورة الملتقطة عمداً لكل من وزير الخارجية التركي هاقان فيدان ورئيس جهاز المخابرات إبراهيم قالن وهما يحتسيان القهوة على قمة جبل قاسيون، فإنه من السذاجة الاعتقاد بأن الطريق بات معبداً أمام أنقرة لتثبيت مكاسبها والارتكاز عليها لبلوغ المكانة التي يطمح إليها أردوغان وفريقه بجموح في إطار رسم خرائط المنطقة وتوازناتها وخرائط العالم الجديد ، ويمكن لنا الإشارة إلى العديد من المعوقات والتحديات التي من المتوقع أن تواجهها تركيا في هذا الإطار:

 

على صعيد الداخل السوري :

أولاً؛ من المبكر الجزم بأن الصراع في سورية أو عليها قد حسم لصالح تركيا، وتشير العديد من الحوادث المتزايدة على الساحة السورية إلى أن المرحلة الانتقالية لن تمرّ بسهولة كما تظن أنقرة.

ثانياً؛ إن مخاطر اندلاع صراع طائفي في الداخل السوري ما زالت مرتفعة في ظل تخوف الأقليات الدينية من سياسات الانتقام والتطرف التي تمارسها الفصائل “الراديكالية” التي سيطرت على الحكم في سورية، ولا شك فإن تركيا ستكون أول المتأثرين من اندلاع صراع كهذا، مع ارتفاع احتمالية تمدده للداخل التركي المتنوع بطبيعة الحال.

ثالثاً؛ ما زالت المشكلة الكردية في الشمال و الشمال الشرقي السوري مستعصية على الحل في ظل إصرار أنقرة وحلفائها الجدد في دمشق على نزع سلاح ميليشيا “قسد” المدعومة من واشنطن و”التحالف الدولي”، وما زالت مخاطر اندلاع نزاع مسلح بين الجانبين مرتفعة، وفي حال وقوعه فإنه بالتأكيد سيترك آثاره في الداخل التركي، وحيث يشكل الأكراد غالبية السكان في الجنوب الشرقي لتركيا.

رابعاً؛ في ظل استئثار ما يعرف بـ”هيئة تحرير الشام” بالحكم ومفاصله وإداراته وتهميشها لباقي مكونات المعارضة السورية في الداخل والخارج، ولشريحة واسعة من مؤيدي النظام السابق والأحزاب التي كان يمثلها، فإن استتباب الظروف من المتوقع ألا يدوم لفترة طويلة، مع العلم بأن حراكاً مدنياً وسياسياً واجتماعياً مضاداً قد بدأ بالظهور على الأرض.

خامساً؛ يشكل العامل الاقتصادي والمعيشي الخانق الذي يعاني منه الشعب السوري عاملاً محرضاً على عدم الاستقرار في ظل استمرار العقوبات الغربية التي بات رفعها مشروطاً بتنازلات يطلبها الغرب من سلطة الحكم الجديدة في دمشق، وبطبيعة الحال من أنقرة، بالإضافة إلى القرارات الاقتصادية المتسرعة التي اتخذتها السلطات الجديدة والتي تمثلت برفع الدعم عن الخبز و المحروقات.

سادساً؛ ليس لدى تركيا القدرة والإمكانيات المالية الكافية لتبني ملف إعادة الإعمار في سورية بمفردها، وبالتالي فإنها ستكون مضطرة لتقديم تنازلات لقوى خارجية من أجل ذلك.

سابعاً؛ إن عملية توحيد الفصائل المتطرفة سواء المنضوية تحت مسمى “هيئة تحرير الشام” أو خارجها ستكون عملية معقدة وغير مضمونة النجاح، ومن غير المستبعد أن تعود هذه الفصائل للاقتتال في ما ببنها في ظل تنوع تبعياتها للخارج، وتنوع الفكر الأيديولوجي المتطرف الذي تعتمده كل منها.

 

على الصعيد الإقليمي:

أولاً؛ يتناقض المشروع التركي مع المشروع “الإسرائيلي” لجهة حاجة الأول لسورية موحدة خوفاً من امتداد التقسيم للداخل التركي، وحاجة الأخير لتقسيم سورية لتحقيق حلمه في مزيد من التوسع، وهو ما يعني الوصول لاصطدام المشروعين على الرغم من اتفاقهما السابق على إسقاط نظام بشار الأسد، ومن المؤشرات على احتمالية وقوع الصدام بينهما قيام “إسرائيل” باحتلال المزيد من الأراضي السورية في الجنوب الغربي من البلاد، وإعلان مسؤوليها صراحة عن ضرورة دعم الأكراد في الشمال الشرقي.

ثانياً؛ إن المشروع التركي ذا الطابع الإسلاموي يشكل تهديدًا للأمن القومي لدول الخليج العربية ومصر والأردن، وهذه الدول وعلى الأخص السعودية و الإمارات ومصر بدأت تستشعر خطراً حقيقياً من تمدد النفوذ التركي ذي الطابع الإسلاموي عبرت عنه تصريحات مسؤوليها والإعلام التابع لها، ولعل تصريحات مستشار رئيس دولة الإمارات للشؤون السياسية “أنور قرقاش” في هذا الإطار خير دليل على ذلك، ومن جانب آخر فإن دولة مثل السعودية تسعى لتشكيل قطب عربي وإسلامي إقليمي ووازن في العالم الجديد ستجد نفسها أمام قوة إقليمية كتركيا أشد منافسة لها وتزاحمها على الزعامة في العالمين العربي والإسلامي. إن كل ذلك يدفعنا لتوقع صداع وتنافس و تمحور جديد في الإقليم لمواجهة المشروع التركي.

ثالثاً؛ إن محور المقاومة الذي خسر سورية مرحلياً لن يقف مكتوف الأيدي بعد الغدر الذي تعرض له من قبل أنقرة على الساحة السورية، وهو بلا شك يملك الكثير من الأوراق والوسائل لإعادة صياغة إستراتيجية الإقليمية لمواجهة نتائج الغدر التركي والتحرك الصهيوني معاً.

 

على الصعيد العالمي:

أولاً؛ تدرك روسيا بأن مشروعها الأوراسي تعرض لنكسة كبيرة بخسارته لبوابته المتوسطية الوحيدة، كما تدرك بأن تغلغل النفوذ التركي يتعاظم على حدودها الجنوبية من وسط آسيا وحتى البحر الأسود وأوكرانيا ومؤخراً جورجيا وأبخازيا وصولاً للبلقان، كما تدرك بأن النفوذ التركي بات يزاحمها في شرق المتوسط وشمال إفريقيا والقرن الإفريقي وحتى في المنطقة العربية، وعلى الرغم من التصريحات الودية الصادرة عن موسكو تجاه تركيا، فإن تلك التصريحات لا تستطيع أن تخفي حقيقة امتعاض موسكو وتخوفها من مزاحمة تركيا الدولة العضو في “الناتو” لها، ومحاولاتها الرامية لحصارها، وقد تكون موسكو مضطرة مرحلياً لإظهار التعامي عن كل ذلك بسبب الحرب الأوكرانية، لكنها لن تستمر في هذه السياسة طويلاً.

ثانياً؛  بالنسبة للصين فهي الأخرى تدرك بأن البوابة السورية لـ”طريق الحرير” و”مشروع الحزام والطريق” باتت مقفلة في ذات الوقت الذي تتمدد فيه تركيا نحو البوابة الإفريقية للمشروع الصيني في منطقة القرن الإفريقي، وكذلك في القوقاز وأوراسيا، ومن المستبعد أن ترهن الصين مشروعها بالكامل بالقرار التركي، وهو ما سيستدعي منها انخراطاً أوسع في الشرق الأوسط وخرائطه الجديدة، وخاصة أنها تبنت ورعت اتفاق المصالحة السعودي- الإيراني.

ثالثاً؛ بالنسبة للهند ومشروعها الإستراتيجي “الممر الهندي الأوروبي” ، فإن الهند تدرك امتعاض تركيا السابق من المشروع ومحاربتها له، كما أن العلاقات بين الهند وتركيا يشوبها بالأساس توتر مستمر نتيجة الدعم الذي تقدمه الأخيرة لباكستان وموقفها من قضية كشمير، وبالتالي فإن الهند ليست سعيدة بالمشروع التركي في سورية، والذي ربما ترى فيه الهند تهديدًا لمشروع الممر الهندي الأوروبي.

رابعاً؛ بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ومع اقتراب تسلم الرئيس المنتخب ترامب وإدارته الجديدة للحكم فإن على تركيا ألا تشعر بالارتياح لذلك، وهي التي تدرك بأن ترامب سيكون الحليف الأكثر صهيونية لـ”إسرائيل” من أي رئيس أميركي سابق، وسيسعى سريعاً لإنجاز اتفاق تطبيع سعودي “إسرائيلي”، ولضمان هيمنة “إسرائيلية” كاملة على المنطقة، ومن غير المستبعد أن يتخذ ترامب قرارات مفاجئة تخص الشرق الأوسط، كالانسحاب من سورية أو التهديد بتدمير الاقتصاد التركي كما فعل سابقاً في حال لم يرضخ أردوغان لمطالبه، والمعروف عن ترامب أنه يفرض شروطه بدون مقابل على حلفائه قبل أعدائه، ومن جانب آخر سيسعى لإنهاء الصراع الأوكراني مع بوتين بدون وساطة، ولا شك بأن قراراته الحاسمة ستفقد تركيا مزيدًا من أوراق المناورة، وستجد صعوبة كبيرة في المضاربة معه كما اعتادت في سياساتها الخارجية.

خامساً؛ في إطار الصراع العالمي على مشاريع الممرات والمعابر وخطوط النقل والطاقة، وفي ظل تزاحم تلك المشاريع وتناقسها، يمكن أن تتوقع بأن جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين لن يكونوا متحمسين للمشروع التركي في سورية والذي يحاول فرض مشاريع منافسة عبر الجغرافيا السورية تحت نفوذ و سيطرة تركيا.

أخيراً؛ لا بد من الإشارة لنقطة أخرى متعلقة بالجغرافيا التركية، هذه الجغرافيا الممتدة من وسط آسيا إلى أوروبا، ومن الشرق الأوسط إلى حدود روسيا، تفرض هذه الجغرافيا أن تتحول تركيا من دولة نامية إلى قطب عالمي لا إقليمي فكيف إذا أضيف إلى ذلك الجغرافيا السورية، وهو ما يصعب على العالم أجمع بشرقه وغربه تقبله، لذلك فإنه من المستبعد أن تقبل القوى العالمية والإقليمية بالواقع “الجيوسياسي” الجديد الذي تحاول تركيا تثبيته انطلاقاً من سورية، كما لا بد لنا من التوضيح بأن سورية كانت وستبقى الرقم الأصعب في المنطقة و ربما خارجها، وإذا كان إسقاطها جرى بالخداع والغدر، فإن الحقيقة التاريخية والحضارية والديمغرافية تؤكد بأن ابتلاعها لن يكون أمراً سهلاً أو حتى ممكناً، وهو ما يجب على تركيا أن تدركه قبل أن تجد نفسها وقد ارتكبت خطيئة إستراتيجية ستكلفها ما لا يمكن توقعه.

 

العهد الاخباري: محمود الأسعد

 

 

قد يعجبك ايضا