(في شهر الله… صِيَامٌ وَجِهَادٌ وإحسان)
عبد الإله عبد القادر الجنيد
الحمدُ للهِ الذي بلَّغنا شهرَ رمضانَ، شهرَ الصيامِ والقيامِ، الذي أُنزِلَ فيه القرآنُ في ليلةِ القَدْرِ المُبارَكةِ هُدىً للناسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدى والفرقانِ. وفيها امتنَّ اللهُ على عبادِه بالفضلِ والإكرامِ؛ فجعلَ العبادةَ فيها خيرًا مِنْ عبادةِ ألْفِ شَهرٍ. وفيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وتتنزَّلُ الملائكةُ والروحُ بإذنِ ربِّهم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. ويَغْشَى قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ الوافدينَ على ربِّهم الأَمْنُ والسَّلامُ، والمحبَّةُ والرحمةُ، والرِّضوانُ والمغفرةُ، والعِتْقُ مِنَ النِّيرانِ.
وبِهذا الاختصاصِ والتفضيلِ الرَّبانيِّ جعلَها اللهُ أَعْظَمَ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيهِ في أَعْظَمِ شَهْرٍ مِنْ شُهورِ السَّنَةِ؛ فذلكَ شَهْرُ اللهِ الذي كَتَبَ فيه الصومَ فَرِيضَةً على عبادِه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وجعله الرُّكْنَ الرَّابِعَ مِنْ أَركانِ الإسلامِ. وعنه قالَ ربُّنا الأَعْلَى: ﴿الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ﴾.
فأَيُّ مُسْلِمٍ قَادِرٌ على صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهِدَهُ بِظُهُورِ هِلَالِه، وَجَبَ عليه صِيَامُهُ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ. وَمَا جَعَلَ اللهُ الأَهِلَّةَ إِلَّا مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ والحَجِّ، يَهْتَدِي بِهَا المُؤْمِنُونَ لِشَهْرِ الصِّيَامِ.
فيا أَيُّهَا المُقبِلُونَ على ربِّكُمْ في هذا الشَّهْرِ العَظِيمِ، اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَقْرَبُ إلى العِبادِ بِرَحْمَتِه وَفَضْلِه وَجُودِه وَكَرَمِه. فَالَّذِينَ تَقَرَّبُوا إليه بِإِيمَانِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ وَقِيَامِ لَيَالِيهِ رُكَّعًا سُجَّدًا، وَزَكَاتِهِمْ وَإِنْفَاقِهِمْ وَذِكْرِهِمْ وَتَسْبِيحِهِمْ وَتَقْدِيسِهِمْ وَتَمْجِيدِهِمْ للهِ، واسْتِغْفَارِهِمْ لِذُنُوبِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ وَوَرَعِهِمْ وَزُهْدِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَاسْتَجَابَ لَهُمْ وَآتَاهُمْ رُشْدَهُمْ، وَشَمِلَهُمْ بِرَحْمَتِه وَرِضْوَانِه، وَتَقَبَّلَهُمْ في عِبادِهِ الصَّالِحِينَ، وَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَاخْتَصَّهُمْ بِتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ.
وَبِذَلِكَ بَلَغُوا مَقَامَ التَّقْوَى وَالوِقَايَةِ لأَنْفُسِهِمْ مِنْ سَخَطِ اللهِ وَغَضَبِه، وَكانُوا مِنْ عِبادِهِ المُتَّقِينَ الَّذِينَ عَاقِبَتُهُمُ الرِّبْحُ المُؤَكَّدُ وَالرِّزْقُ المُحَقَّقُ جُودًا وَعَطَاءً مِنَ اللهِ البَرِّ الرَّحِيمِ بِلا حِسَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُمُ النَّجَاةُ مِنَ الوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَالحَسْرَةِ وَالخُسْرَانِ.
وَخَصَّهُمُ اللهُ ابْتِدَاءً بِالفَضْلِ وَالإِكْرَامِ؛ لِقَوْلِ رَبِّنَا الأَعْلَى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.
فَطُوبَى لِمَنْ أَقْبَلَ على اللهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَصَامَ نَهَارَهُ وَقَامَ لَيْلَهُ، وَأَعَدَّ العُدَّةَ جِهَادًا في سَبِيلِ اللهِ وَقِتَالًا لِمَنْ أَرَادَ شَرًّا بِأُمَّتِه، وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ لِرَدِّ كَيْدِ الأَعْدَاءِ. وَهَلْ كَانَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى في يَوْمِ الفُرْقَانِ، يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ وَاحْتَدَمَ القِتَالُ بَيْنَ مَحْوِرِ الكُفْرِ وَمَحْوِرِ الإِيمَانِ، إِلَّا في شَهْرِ رَمَضَانَ؟! وَذَاتُ الأَمْرِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ كانَ.
ثُمَّ أَقْبِلُوا فِيهِ على كِتَابِ اللهِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، مُتَأَمِّلِينَ في آيَاتِه، مُؤْتَمِرِينَ بِأَوَامِرِه، مُنْتَهِينَ عَمَّا نَهَى عَنْه، عَامِلِينَ بِتَوْجِيهَاتِه.
وَإِذَا مَا قَامَ قَرِينُ القُرْآنِ وَعِلْمُ الهُدَى وَقَائِدُ الأُمَّةِ لِتَعْمِيقِ الهُدَى وَالوَعْيِ وَثَقَافَةِ القُرْآنِ، أَصْغَوْا إِلَى مُحَاضَرَاتِه وَأَقْبَلُوا مُنَفِّذِينَ لِتَعَالِيمِ اللهِ في كُلِّ شُؤُونِهِمْ وَأُمُورِ حَيَاتِهِمْ.
وَفِيهِ انْصَرَفَ العَبْدُ عَنِ المَلَذَّاتِ وَحُبِّ الذَّاتِ، وَعَمَدَ إلى نَفْسِهِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ فَقَمَعَ بِالتَّقْوَى رَغَبَاتِهَا وَأَطْمَاعَهَا وَشَهَوَاتِهَا، وَقَتَلَ فِيهَا الأَنَانِيَّةَ وَالجَشَعَ، وَأَلْجَمَهَا بِلِجَامِ الوَرَعِ وَالقَنَاعَةِ وَالتَّقْوَى؛ لِلوِقَايَةِ مِنَ الغَرَقِ في مُسْتَنْقَعِ أَهْوَائِهَا. وَتَذَكَّرَ المَوْتَ هَادِمَ اللَّذَّاتِ؛ فَعَمِلَ بِالتَّنْزِيلِ خَوْفًا مِنَ الجَلِيلِ، وَأَعَدَّ العُدَّةَ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، وَاكْتَفَى مِنَ الزَّادِ بِالقَلِيلِ، وَأَنْفَقَ اليَسِيرَ مِنَ القَلِيلِ بِصِدْقٍ وَمَحَبَّةٍ وَإِيمَانٍ.
فَمَا أَهْلَكَ الأَجْسَادَ إِلَّا الإِفْرَاطُ في المَأْكَلِ وَالتَّهَوُّرُ في التِّهَامِ الأَطْعِمَةِ بِلا تَقْدِيرٍ وَلَا مِيزَانٍ؛ فَأُصِيبَ بِالتُّخْمَةِ الَّتِي جَلَبَتْ عَلَيْهِ أَخْطَرَ الأَمْرَاضِ، فَضْلًا عَنِ التَّفْرِيطِ بِشَهْرِ اللهِ وَالغَفْلَةِ وَالتَّقْصِيرِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ!
وَهُنَاكَ خَسِرَ الاسْتِفَادَةَ الكُبْرَى مِنَ الصَّوْمِ الَّذِي حِكْمَتُهُ جَلَاءُ القُلُوبِ وَالأَفْئِدَةِ وَالنُّفُوسِ وَالأَرْوَاحِ وَتَصْفِيَتُهَا؛ لِتَزْدَادَ قُرْبًا وَصَفَاءً وَنُورًا، وَتَنْتَقِلَ مِنَ الظُّلْمَانِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ السُّفْلَى إلى النُّورَانِيَّةِ المَلَائِكِيَّةِ العُلْيَا، وَتَنْتَقِلَ مِنَ النَّظَرِ إلى الدُّنْيَا إلى التَّأَمُّلِ في آفَاقِ السَّمَاوَاتِ العُلْيَا.
وَمَا جَعَلَ اللهُ الدُّنْيَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا إِلَّا لِكَوْنِهَا سَبَبَ الشَّقَاءِ وَالخَسَارَةِ الكُبْرَى. فَمَنْ أَرَادَ الفَوْزَ وَالنَّجَاةَ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَعَذَابِه وَسَخَطِه، فَلْيَطْمَحْ لِنَيْلِ رِضْوَانِه، وَيُفْنِي عُمْرَهُ في العَمَلِ عِبَادَةً للهِ؛ طَمَعًا في الحَيَاةِ العُلْيَا.
وَلْيَجْعَلْ صَلَاتَهُ وَجِهَادَهُ وَزَكَاتَهُ وَصِيَامَهُ وَإِنْفَاقَهُ وَنُسُكَهُ وَمَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ وَبِذَلِكَ يُحَقِّقِ الغَايَةَ مِنَ الصَّوْمِ في التَّزْكِيَةِ وَالتَّقْوَى، وَالاسْتِفَادَةَ المُثْلَى، وَيَفُزْ في الحَيَاتَيْنِ: الدُّنْيَا وَالأُخْرَى، وَيُصْبِحْ مِنَ الفَائِزِينَ بِجَنَّةِ المَأْوَى، الَّتِي وَعَدَ رَبُّنَا الأَعْلَى بِهَا المُتَّقِينَ: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ وَرِضْوَانٍ مِنَ اللهِ﴾.
وَتِلْكَ هِيَ عَاقِبَةُ المُتَّقِينَ الَّذِينَ تَزَوَّدُوا وَكَانَ خَيْرُ زَادِهِمُ التَّقْوَى.
فَيا بَاغِيَ الخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالفَوْزِ العَظِيمِ بِعَطَاءِ اللهِ وَرَحْمَتِه في الدَّارَيْنِ، هَلُمَّ لِتَكُونَ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمْ رَحْمَةُ اللهِ؛ لِتَحْظَى بِالأَمْنِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالسَّلَامَةِ في الآخِرَةِ، وَتَكُونَ مِمَّنْ أَوْرَثَهُمُ اللهُ النَّعِيمَ الأَبَدِيَّ في جِنَانِ اللهِ المَلِكِ الجَوَادِ الكَرِيمِ.
فَهَلْ آنَ الأَوَانُ لِنَجْعَلَ صِيَامَنَا جِهَادًا لِأَطْمَاعِ أَنْفُسِنَا، وَقَمْعًا لِشَهَوَاتِنَا، وَلِجَامًا لِأَهْوَائِنَا، وَالرِّضَا وَالقَنَاعَةَ بِحَلَالِ اللهِ عَنْ حَرَامِه، وَصَبْرًا عَلَى المُعَانَاةِ وَالجُوعِ، وَكَبْحًا لِكُلِّ رَغْبَةٍ بِوَرَعٍ وَزُهْدٍ وَخَشْيَةٍ؟ لِنَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ وَنُبْلِغَ مَقَامَ الصِّدِّيقِينَ لِلْقُرْبِ مِنَ اللهِ، فَيَرْحَمَنَا وَيُجِيبُ دُعَاءَنَا، ثُمَّ نَسْتَمِدُّ النُّورَ وَنَسْتَأْهِلُ تَفْرِيجَ الهُمُومِ وَكَشْفَ الغُمُومِ، وَنُفَوِّزُ فَوْزًا عَظِيمًا بِالظَّفَرِ بِلَيْلَةِ القَدْرِ وَالعِتْقِ مِنَ النَّارِ وَالمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوَانِ؟!
*وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.*