ما الذي تميز به المتقون؟ أمثلة من الواقع

 

الميزة التي تُميِّز المتقين أنهم آمنوا بتلك الحقائق، فعندما- مثلًا- قرأوا قول الله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]، وفي ظرف- مثلًا- يكونون فيه في حالة كبيرة من الاستضعاف، في درجة الصفر من إمكانات، من عدة، من عتاد، من من من… ينطلقون من ذلك الواقع الذي لو نظروا إلى الحالة المادية والحالة القائمة في واقعهم، وراهنوا عليها وأنها يمكن أن توصل إلى النصر، بعيدًا عن الإيمان بالله، بعيدًا عن الإيمان بهذه الحقائق، لما كانوا منطقيين، ولا واقعيين، ولا ولا ولا… تجد الأمثلة التي لها اليوم حضور كبير في الساحة الإسلامية هي عاشت هذه التجربة: تجربة الإيمان بالغيب الذي تحقق، الذي وصلوا فيه إلى نتائج حقيقية في واقع الحياة.

حزب الله في لبنان، كيف بدأوا تحركهم بعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان، من أي ظرف، من أي مستوى، من أي واقع، بأي إمكانات، كيف كانوا منذ انطلاقاتهم الأولى واثقين بالنصر؟ رهانًا على ماديات، اعتمادًا على إمكانات؟ لا، اعتمادًا على الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى”، على هذا الوعد الإلهي الذي كان لديهم وعي عن أسبابه الإيمانية، وسائله العملية، متطلباته في نطاق المسؤولية وفي إطار الممكن، فتحركوا بناءً على ذلك، في النهاية تحققت النتيجة الإلهية، وتحقق الوعد الإلهي الذي كان وهم في بداية انطلاقتهم غيبًا، فإذا به يتحول إلى واقع، فإذا بهم يعيشون الانتصار، ويتحقق لهم الانتصار الإلهي العظيم والكبير، سواءً في عام 2000، أو في عام 2006، أو فيما بعد ذلك.

شعبنا اليمني المسلم العظيم، الذي تحرك في مواجهة هذا العدوان الجائر الظالم، بالرغم أن الإمكانات والقدرات التي بيد قوى العدوان بالحساب المادي، بعيدًا عن الحسابات الغيبية، بعيدًا عن التدخل الإلهي، بعيدًا عن النصر الإلهي، تلك الإمكانات والقدرات- فيما يقابلها من ظروف وإمكانات لدى شعبنا- كفيلة بأن تحسم المعركة خلال أسبوعين، وبالأقصى، مثلما خططوا لها: خلال شهرين. مرور أكثر من ثلاث سنوات، وتكبد قوى العدوان خسائر هائلة، وهزائمها في أغلب المعارك، في أغلب الزحوف، إذا هي تمكنت في معركة معينة، فهي في معركة ومعركة ومعركة ومعركة انهزمت، وإذا هي نجحت في معركة معينة بسبب خلل، أو تقصير، أو قصور، أو أسباب معينة، فقبل تلك المعركة التي حققت فيها نجاحًا، أو نتيجةً معينة، كم انهزمت في معارك ومعارك ومعارك، بالرغم من كل ما تمتلك.

شعبنا اتجه الأحرار فيه والمؤمنون فيه معتمدين على هذا الوعد الإلهي، عندهم إيمان بهذه الحقيقة، وعندهم سعي بالأخذ بأسبابها.

السبب الرئيسي لنكبات الأمة

لو تحققت هذه الحالة من الإيمان بالحقائق القرآنية لكانت هي كفيلة- بحد ذاتها- أن تتجه أمتنا، أن يتجه المسلمون كافة اتجاهًا مختلفًا في مسيرة حياتهم، اتجاهًا مستقلًا، لما كان عالمنا الإسلامي ساحة أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي، لما كان الكثير من أبناء الأمة يعيشون حالة اليأس والهزيمة النفسية وانعدام الأمل في أن بإمكاننا كأمة أن نكون أمة مستقلة تنطلق في هذه الحياة، تنطلق من خلال مبادئها، قيمها، مشروعها في هذه الحياة، وليس تابعة، أو أداة بيد أعدائها، من أولئك إلا أعداء لهذه الأمة بكل ما تعنيه الكلمة، ولكن كم كان لعدم الإيمان بالغيب وبتلك الحقائق من آثار سلبية كبيرة جدًّا في واقع الحياة، في التقوى.

كثير مما حذرنا الله منه، يحذرنا من أشياء معينة، لها نتائج سلبية في واقع الحياة، لو تحقق الإيمان بالغيب، أو لو لم يكن إيماننا بالغيب ضعيفًا لكان الإنسان حذرًا من تلك الأفعال التي لها نتائج سيئة، نتائج التقصير والتخلي عن المسؤولية والتنصل عن المسؤولية نتيجته التمكين للعدو، هذه حقيقة من الحقائق، فرَّطت بها الأمة في كثيرٍ من الأقطار، في كثيرٍ من المناطق، في كثيرٍ في الساحة الإسلامية؛ النتيجة تمكَّن العدو، سنن إلهية تحكم هذه الحياة وواقع هذه الحياة، تكون قبل أن يعيشها الإنسان كتجربة حقيقة غيبية، إن آمن بها، وعمل بها، وانتبه لها، ووثق وتحرك وانطلق بناءً عليها؛ توقَّى الكثير مما يمكن أن يصل إليه من النكبات والأخطار، لو نشخِّص تشخيصًا دقيقًا لكثير من نكبات الأمة نجد أن هناك نقصًا كبيرًا وضعفًا كبيرًا في مسألة الإيمان بالغيب، وإلا كثير من الحقائق الكارثية التي وصلت إليها الأمة كان بإمكانها الوقاية منها؛ لأن من أعظم ما في القرآن هو أن ينذرنا، أن ينبهنا على المزالق، على النكبات، على الكوارث، أن يرشدنا إلى ما نتمتع من خلاله بالقوة والمنَعَة إلى ما يحيمنا ويدفع عنا الكثير من المآسي والنكبات قبل أن تقع، قبل أن تحصل، ولكن لأن الكثير إما غافلون عنها، وإما ضعاف الإيمان بها كحقائق غيبية، تحصل نكبات وكوارث في واقع الأمة الكلام في هذا المجال يطول ويطول.

لاحظوا على سبيل المثال قصة آدم “عليه السلام” الله أخبره بحقيقة غيبية، عندما أسكنه الجنة أخبره أن الشيطان عدو له، وأن الشيطان يسعى لإخراجه من تلك الجنة، وقال له ولزوجه حواء: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه: من الآية117]، هذه كانت حقيقة غيبية بالنسبة لآدم، ما الذي حصل لآدم؟ نَسِيَ، قال الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى”: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}[طه: من الآية115]، نَسِيَ، ذهُل عن هذه الحقيقة، غفل عنها، عمل الشيطان على إخراجه من تلك الجنة، في النهاية تحققت المسألة، لو كان متنبهًا إلى تلك الحقيقة الغيبية، لم يذهل عنها، لم ينسَ، لم يغفل، بقي مستحضرًا؛ لأن حالة الإيمان بالغيب تحتاج إلى ترسيخ وإلى استحضار، أحيانًا قد تكون مقرًا بحقيقة غيبية، لكنك بحاجة إلى تعزيز الإيمان بها، أحيانًا قد تكون مشكلتك الغفلة، الذهول، عدم الاستحضار، عدم الانتباه، خصوصًا في ظرف معين، أو أمام حدث معين، أو في ظل مرحلة معينة تتطلب وتحتاج إلى الاستحضار لتلك الحقيقة الغيبية.

فالمتقون هم مؤمنون بالغيب، ولذلك تتحقق لهم الوقاية، إيمانهم بالغيب يحقق لهم الوقاية من كثيرٍ من الشرور، ويساعدهم ويحقق لهم الاهتداء بالقرآن والانتفاع به؛ لأنهم في النهاية قبلوه، والتزموا به، اعتمدوه، بنوا مواقفهم، سياساتهم، اتجاهاتهم على أساسه.

الإيمان بالغيب- لاحظوا- مسألة أساسية جدًّا في الاهتداء بالقرآن وفي تحقق التقوى، الله حين يقول مثلًا: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: من الآية46]، هذه حقيقة، قد تكون لقومٍ في حالة من الوئام والانسجام والتفاهم حالة غيبية، يعني: ليست حاضرة في واقعهم، البعض منهم قد لا يستوعب أن النتيجة الحتمية للتنازع الفشل، يدخل في هذه التجربة الخاطئة، تكون النتيجة الفشل، ذهاب القوة…الخ. الإيمان بحقائق الغيب يساعد على الوقاية، على التقوى، على دفع كثيرٍ من الأخطار، على الانتباه من الوصول إلى كثيرٍ من المزالق.

 

السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي

المحاضرة الرمضانية الـ13: 15 رمضان 1439هـ 30 مايو 2018م

قد يعجبك ايضا