المراكز الصيفية.. وعي قرآني يتجدد ومسؤولية تتعاظم
موقع أنصار الله . تقرير | صادق البهكلي
في خضمّ تحدياتٍ كبرى تواجه الأمة الإسلامية، ومع تصاعد الاستهداف الثقافي والعقدي لجيل الشباب، تبرز المراكز الصيفية كواحة تربوية قرآنية تعيد رسم الوعي، وتحيي في النفوس روح المسؤولية الإيمانية والارتباط الوثيق بكلام الله عز وجل. تكمن قيمة هذه المراكز في أنها تسير على منهج قرآني محض، مستلهمة رؤيتها من موجهات السيد القائد ومن محاضرات الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، الذي أسّس لنهج قرآني عملي في فهم الدين والعمل به، وخاصة في أوساط طلاب العلوم الدينية.
وفي مرحلة تواجه الأمة بحرب شاملة، وتستهدف في دينها وكرامتها وكتابها، وتنتشر فيها الموجات العاتية من التشويه والانحراف، تتعاظم الحاجة للعودة إلى القرآن الكريم وتربية جيل يحمل لواء الهداية الربانية، لا عبر الترديد النظري للنصوص، بل من خلال الانخراط الواعي والمسؤول في واقع الأمة، بمناهج قرآنية أصيلة، وقيم عملية تحررية.
في هذا السياق، تبرز أهمية المدارس والمراكز الصيفية بوصفها حاضنات تربوية مركزية، تُعنى بإحياء الهوية القرآنية لدى النشء، وغرس قيم التحرر من الطاغوت، والولاء لله ورسوله والمؤمنين.
فليست هذه الدورات مجرد نشاط تعليمي عابر، بل هي ـ في الرؤية القرآنية والمشروع الإيماني ـ حالة رباط معرفي وتربوي وبنيوي تُعدّ من الخطوط الأمامية في معركة الوعي.
إن الهجوم الشرس والمنظّم من قبل الأعداء والمنافقين على هذه الدورات الصيفية، ومحاولات التشويه الإعلامي المستمرة لها، ليست إلا دليلاً واضحًا على أثرها الفعّال في صناعة جيل قرآني، يمتلك مناعة فكرية، ويقف موقف الرافض للهيمنة والتبعية، ويُجيد تمييز الحق من الباطل في زمن الفتن والتزوير الإعلامي.
وفي هذا الإطار، تأتي محاضرة الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) “مسؤولية طلاب العلوم الدينية” كمنهجية تأملية عميقة، تُعيد تعريف موقع طالب العلم في مشروع النهضة القرآنية.
فهو ليس مجرد متعلم أو ناقل معلومة، بل حامل رسالة، ومؤتمن على وعي الأمة وهويتها، ومشارك أصيل في بناء جيل يرفض التبعية لأولياء اليهود والنصارى، ويقف حارسًا على حدود الوعي في وجه الطرح المضلل والمخادع الذي يتسرب عبر مختلف الوسائل الإعلامية والثقافية.
طالب العلم.. حامل رسالة لا مجرد متعلم
إن أول ما ينبّه عليه الشهيد القائد (رضوان الله عليه) في محاضرته “مسؤولية طلاب العلوم الدينية” هو ضرورة إدراك طالب العلم لموقعه في المجتمع، بوصفه لا مجرد متلقٍّ للمعرفة، بل حاملًا لواء الرسالة الربانية، وأمينًا على وعي الأمة وهُويتها، فالموقع الذي يحتله طالب العلم لا يُحتّم عليه الاجتهاد في التحصيل فحسب، بل يفرض عليه أن يكون في موقع التأثير، وأن يتعامل مع علمه كأداة تغيير لا ترفًا فكريًا.
وفي مستهل محاضرته يطلق الشهيد القائد نداء تحذيرياً، يصف فيه حالة التقاعس عن التفاعل الجاد مع القرآن بقوله:
“من العار ومن العيب – قبل أن نقول من الإثم – أن يكون بنو إسرائيل، أن يكون أولياء الشيطان، هم أكثر اهتماماً منا، أكثر وعياً منا، أكثر فهماً منا، أقرب إلى بعضهم بعض في اتخاذ مواقف تخدم مصالحهم منا، ونحن من نمتلك القرآن الكريم، ونحن من نمتلك الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) أليس هذا من العيب؟ أليس هذا من العار؟ أليس هذا من الكفر بنعم الله سبحانه وتعالى، بالقرآن وبالرسول؟”
هذا التشخيص العميق يُبرز بوضوح المفارقة المخزية التي تعيشها الأمة حين تتخلف عن أداء رسالتها، بينما أعداؤها أكثر تنظيماً وتحركاً في خدمة باطلهم، في الوقت الذي نملك فيه أعظم مصدر للهداية والعزة:
القرآن.. كتاب وعي لا كتاب حفظ فقط.
يرفض الشهيد القائد حصر أهمية القرآن في الجوانب التشريعية أو الإعجازية المجردة، ويعيد توجيه الأنظار إلى القرآن بكونه كتاب وعي وحياة، فيقول:
“القرآن الكريم يتحدث عن أسس الأشياء في معظم ما يتناوله، ويتحدث عن أن تلك الآيات التي سطر فيها تلك الأخبار أنها حقائق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}(البقرة: من الآية252) سماها آيات أي: حقائق {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: من الآية103) ما هو الاهتداء؟ أليس هو الوعي؟. أليس هو الفهم الذي يدفعك إلى الالتزام والعمل وفهم الأمور، وفهم القضايا، وفهم ما تستلزمه مسيرتك العملية على منهج القرآن؟”
وهذا ما تسعى إليه المراكز الصيفية، أن تخلق وعياً حقيقياً في أوساط النشء، لا وعياً نظرياً جامداً، بل وعياً يدفع إلى الفعل، ويترجم الإيمان إلى موقف.
خطورة الانفصال عن القرآن
كما يؤكد الشهيد القائد أن الابتعاد عن هدي القرآن الكريم لا يعد تقصيراً فحسب، بل كفر بنعمة عظيمة، وسبب من أسباب الذلة، إذ يقول:
“إساءة إلى القرآن الكريم أن لا نهتدي به، وكفر بنعمة الله العظيمة أن لا نهتدي به، وسبب من أسباب السخط الإلهي علينا أن لا نهتدي به، وسبب من أسباب الذلة والخزي أن لا نهتدي به.”
إن التربية القرآنية التي تسعى المراكز الصيفية إلى ترسيخها، هي في حقيقتها وقاية للأمة من الخزي والهوان، وسياج يحميها من الانزلاق في مهاوي التبعية الفكرية والثقافية.
وفي تشبيه دقيق ومؤلم، يقول الشهيد القائد: “الجزء الأكبر الذي لا تهتدي به هو أشبه شيء بالكفر به، فموقفي من القرآن الكريم كموقف اليهود من التوراة؛ لم يسيروا على هديها فاستحقوا أن تكون عاقبتهم الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.”
هذا التشبيه لا يُراد منه التهويل، بل التنبيه الصارخ إلى أن هجر القرآن عمليًا – وإن لم يكن لفظيًا – هو خيانة للأمانة، وانحراف عن الرسالة، ما يستوجب مراجعة شاملة لكل المفاهيم التقليدية التي اختزلت القرآن في التلاوة دون اهتداء.
ويحذر الشهيد القائد من الاكتفاء بالتحصيل العلمي الجاف، دون أن يتحول هذا العلم إلى سلوك وموقف عملي، فيقول:
“كل لقاء نجتمع فيه ينبغي لطالب العلم، ينبغي لكل مسلم في المقدمة ناهيك عن طالب العلم ومن يحمل علماً، أن يكون ما نسمع عنه من أحداث هي محط اهتمام الجميع، نحن ننسى أن القرآن الكريم يهدي الناس بشكل عجيب.”
وبذلك، تصبح المراكز الصيفية ميداناً عملياً لترجمة العلم إلى وعي ومسؤولية، تُهيّئ طلاب العلم ليكونوا قادة رأي، ومصابيح هدى، لا مجرد حَمَلَة نصوص.
التربية على الثقة بالله لا على الشعور بالضعف
من أخطر ما يُزرع في نفوس الناشئة هو الشعور بالدونية والعجز، وهو ما تصدّى له القرآن، بحسب تأكيد الشهيد القائد:
“نحن ننسى أننا نمتلك طاقات هائلة وجبارة يكشفها لنا القرآن الكريم، تتلخص في ماذا؟ هو أن هناك مسيرة معينة، هناك أشياء معينة متى ما كنت عليها كان الله معك، ومتى كان الله معنا فهو من لا تستطيع أي قوة أخرى أن توقف إرادته.”
إن الثقة بالله، والارتباط الواعي بسننه، هو الأساس الذي يُبنى عليه مشروع النهوض. والمراكز الصيفية، إذ تغرس هذه القيم، إنما تُعبّد الطريق لجيل لا يعرف الهزيمة ولا يقبل بالهوان.
كما قال الشهيد القائد بصدق ووضوح: “ارتبِط وثق بمن هو غالب على أمره، فإذا ما ارتبطت ووثقت بمن هو غالب على أمره، بمن لا يستطيع أحد أن يهدي إلى ما يهدي إليه.”
عندما يصير الإحسان مشروعًا للنهضة
تتجلى الرؤية القرآنية العملية التي يعرضها الشهيد القائد، بوصفها إطارًا تربويًا متكاملًا يعيد صياغة وعي الأمة تجاه مفاهيم جوهرية كمفهوم “الإحسان”، الذي لم يعد في هذا الطرح خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل أصبح معيارًا للفهم، ومدخلًا للعلم، وأساسًا للتحرك العملي في واقع الأمة.
“هذا شأن من يهتم هو أن يسأل، من يهمه أمر الآخرين.. بعكس ما نحن عليه، نحن لا نسأل، بل نحن لا نكاد أن نفهم”، بهذه العبارة يضعنا الشهيد القائد أمام فجوة معرفية – شعورية تفصل بين واقع الأمة ومقتضى الرسالة. إننا إزاء جمود لا يقتصر على الجهل بالمعلومة، بل يمتد إلى غياب الإحساس بمسؤولية السؤال، وهو ما جعل واقعنا جامدًا في مقابل “موسى” الذي كان أول تحركه في الغربة هو أن يسأل: {مَا خَطْبُكُمَا}؟
لم يكن سؤال موسى مجرد استفهام، بل بداية مسار إحساني تحرك فيه رغم التعب والغربة، خلافًا لمن يستغرق في أنانيته: “لم يقل: [إذاً امسكن طابور حتى يخرجوا…]”، بل اندفع ليسقي لهما. هذه اللحظة التي تبدو بسيطة ظاهريًا، تمثل -في سياق الخطاب- لحظة تأسيسية لبناء النفس المحسنة، التي ستُستحق بها الرعاية الإلهية لاحقًا.
يُقدم الشهيد القائد هنا تربية عملية قائمة على ضرب قرآني تمثل في قصة موسى، على أن الإحسان دائرة واسعة، يدخل ضمنها الإيثار على النفس، حتى أنه في مجال النكتة تحدث السيد حسين من خلال ملمح بسيط من الحياة اليومية في المدارس العلمية – كتصرف البعض على مائدة الطعام – “تجد هناك من يحاول أن يَقْضِم أكثر. فإن هذا لا يصلح أن يحمل علماً”، وهنا تبرز عملية غربلة خفية لمفهوم طالب العلم، فالمعيار ليس الحفظ أو كثرة المطالعة، بل في من يحمل الهمَّ ويقدّم غيره، حتى في اللقمة.
ثم تتصاعد القصة إلى ذروتها في لحظة التجرد المطلق: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، والتي تتحول في التحليل إلى نقطة مفصلية. لا يتحدث موسى عن ماضٍ مجيد، ولا عن وضعه الصعب، بل يتوجه بالدعاء بلسان العبد الواثق في وعد ربه. وهنا يتم الانعطاف الحاسم من الشعور بالضياع إلى الرعاية الإلهية: “بدأ المشوار التصاعدي الذي يبرهن على أن الله لا يضيع أولياءه”.
وما أعظم هذا الانتقال حين يربطه الشهيد القائد بالسياق الواقعي للأمة، مشيرًا إلى أن الثقة بالله ليست مجرد شعار، بل نتيجة لمواقف محسنة سابقة، تفضي إلى نتائج عظيمة. وهذا هو الدرس العملي: المحسن لا يُضيَّع، بل يُرعى.
وفي اللحظة التي يعود فيها موسى إلى مصر، يدخلها “وهو في أعلى مقام يمنحه الله”، رسولًا، واثقًا، طالبًا تحرير المستضعفين من بني إسرائيل، الذي كان أول همٍ تحرك من أجله. وهنا تعود الخاتمة إلى البدايات، فالإحسان الذي ابتدأ بسقي الماء، انتهى بإغراق فرعون، وبانتصار المستضعفين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا…}، في واحدة من أعظم صور الرعاية الإلهية والتمكين السياسي، تؤكد أن الله لا يضيع أولياءه، ولا يخذل من وقف في صف المستضعفين.
أما السؤال الجوهري الذي يطرحه الخطاب في عمقه فهو: “من الذي يحتاج إلى فهم دروس داخل هذه القصة؟”، ليكون الجواب ضمنيًا: الجميع، خصوصًا من يحملون العلم، ومن يتعلمونه.
وهنا يتحول الخطاب إلى نقد ضمني لطبقة “العلماء المنفصلين عن الواقع”، الذين “قد يكون علمهم وبالاً عليهم وعلى المجتمع”، لأنهم لا يُحسنون إلى أمتهم بوعيهم وسكوتهم، في لحظات تحتاج إلى الموقف لا إلى التنظير. يصبح العلم في هذه الرؤية قرينًا بالإحسان، بل لا يُعطى العلم الحقيقي إلا للمحسن: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، أما من لا يحسن، فـ”ما لديه من العلم قد يكون وَبالاً عليه”.
ويصل التحليل إلى ذروته في الربط بين الإحسان والجهاد: “ألم يَعُدَّ الله سبحانه وتعالى الجهاد إحسانًا عظيما؟”، وهنا يُعاد تعريف الجهاد لا كتكليف تعبدي فحسب، بل كقيمة إحسانية عظيمة تتجاوز الدفاع إلى البناء والنهضة، إلى إنقاذ الأمة من الاستضعاف، حتى “لا يُضطهدون، ولا تُمسخ أخلاقهم، ولا تفسد عقائدهم”.
إن هذا النص في مجمله، يقدّم خطابًا تعبويًا – تربويًا يتجاوز التحريض اللحظي إلى التأسيس النفسي والروحي العميق، ويوجه الإعلام، والمجتمع، والطلائع العلمية إلى إعادة فهم رسالتهم ضمن مفاهيم ثلاثية متلازمة: (العلم – الإحسان – المسؤولية)، ويفرض على الجميع سؤالاً وجوديًا: ما هو دورك في زمنٍ يشتد فيه الظلم، ويقل فيه المحسنون؟
غياب الشعور بالمسؤولية: أزمة العلم والوعي والهوية
كما يتناول السيد حسين بدر الدين الحوثي -بعمق وجدية- إشكالية كبيرة، لا تقف عند حدود التعليم أو المعرفة، بل تتعداها إلى المسار الذي يجب أن يتّخذه طالب العلم، وإلى الشعور بالمسؤولية تجاه دين الله ومجتمعه. يشخّص بوضوح حالة من الانفصال الخطير بين طلب العلم والغاية من ورائه، مسلطاً الضوء على واقع طلاب العلم حين يفرغ طلبهم من المعنى الرسالي والهدف الإيماني.
يبدأ بالتساؤل الحاسم: “إذا لم يكن لدينا هذا الشعور فلا ينبغي أن نطلب العلم. أنت تطلب العلم من أجل ماذا؟»
وفي هذا الطرح يعيد ضبط بوصلة العلم، فلا يصبح غاية دنيوية، ولا مجرد أداة وجاه أو احترام اجتماعي، بل مشروع هداية ومسؤولية كبرى، حيث يقول:
«أطلب العلم أي أتعرف على دين الله الذي أهتدي به وأهدي الآخرين به، الذي أسير عليه في حياتي، وأعمل على أن يسير الآخرون عليه في حياتهم».
العلم بدون هدف رسالي.. خطر على الفرد والمجتمع
حين يفرغ العلم من روحه، من الهدف الذي جعله الله من أجله، يصبح خطراً، ويؤسس لواقع مأزوم، فيصف من يطلب العلم بغرض الوجاهة بقوله:
«سيكون هو من يعرض نفسه ويعرض المجتمع لمساءلات كثيرة جداً أمام الله سبحانه وتعالى يوم يلقاه، ويعرض نفسه والمجتمع لضياع في هذه الدنيا».
وهنا لا يكتفي بالتنظير، بل يدفع نحو إعادة رسم الغاية من طلب العلم، وربطها بـ”التحقق بالقضية”، أي الإيمان الصادق بالمسؤولية الرسالية، ويحذر من أن نكون مجرد نسخ مكررة بلا وعي أو بصيرة:
«فلن نكون أكثر من نسخ متكررة لمن هم لا يقدمون ولا يؤخرون، بل لا يكادون يفهمون ما يدور حولهم»، وهي عبارة بالغة القوة، تعكس فشل الكثير من النخب التي تحصّلت على علوم كثيرة لكنها تفتقر إلى الوعي والاتجاه الصحيح.
هدي الله أساس القوة والعزة
ثم يعود ليؤكد أن العلم الحقيقي هو ما ينبع من هدى الله، وأن التميز والقوة ليست مرتبطة بكثرة العلوم الدنيوية ما لم تقترن بنور الهداية: “في هدى الله ما يجعل علمه واسعاً، ما يجعل وعيه عالياً، ما يجعل فهمه ثاقباً، ما يجعل روحه قوية، ما يجعل نفسه قوية».
وهنا يطرح معادلة دقيقة بين من يُنسب إلى الله، ويُقال عنه “ولي الله”، وهو في واقعه أدنى شأناً من أولياء الشيطان في العلم والفهم والهمة، فيقول: «أنت في واقعك أدنى وعياً، وأدنى فهماً، وأقل اهتماماً من أولياء الشيطان».
وفي نقلة نوعية، يضع مقارنة صارخة بين واقع المسلمين – وحتى شيعة آل محمد – وواقع اليهود، ويكشف الفارق في مستوى الاهتمام والبذل والهدف، قائلاً:
«أليس بنو إسرائيل؟ أليس اليهود وهم يعملون على إقامة “دولة إسرائيل” يقال عنهم أنه كان لديهم اهتمام كبير، لدرجة أنه كان أي أسرة قبل أن تُقْدُم على الطعام بعد أن تضع المائدة، تقف الأسرة كلها من حول المائدة وكلهم يقسمون أولاً قبل أن يجلسوا على الطعام، يقسمون بالله أن يعملوا جادين جاهدين على إقامة وطن لليهود؟”
ثم يسرد مثالاً عملياً عن التضامن اليهودي العجيب:
«حتى قيل: إن اليهودي الذي كان يشرب الدخان، كلما يخرج حبة ليشربها ينزع حبة ليضعها في علبة أخرى لدعم إسرائيل».
ويتابع بمرارة، مقرِّعاً واقع الأمة، فيقول:
«لكنا وجدنا أن الواقع في هذا العصر، أن اليهود كانوا أكثر اهتماماً منا، أكثر اهتماماً من المسلمين، أكثر اهتماماً من العرب، أكثر اهتماماً منا نحن الشيعة، أكثر اهتماماً من آل محمد أنفسهم في هذا البلد»،
ويختم هذه المقارنة بالقول: “وهم طائفة مكروهة، يكرهها الجميع»، في إشارة إلى كيف تغلب العمل والإصرار على الكراهية والرفض المجتمعي.
ويضيف (رضوان الله عليه): “نحن مفرقون واليهود يجتمعون، ونحن نتفرق وبين أيدينا القرآن الكريم الذي فيه الوسائل المهمة التي هيأها الله لتؤلف بين الناس, لتوحد كلمتهم، واليهود توحدوا على الرغم من أن الله قد ألقى بينهم العداوة والبغضاء. أليس كذلك؟ ثم تمر السنين, ونحن لا نضع حداً لهذه الحالة.
نقول: نحن تفرقنا خلال الثلاثين سنة الماضية. إذاً فلنتوحد. نحن كلنا مصرون على أن نسير على هذا الروتين الممل في هذه الحياة، نسير على هذه المسيرة، لم نلتفت إلى أنفسنا لفتة جادة أن نتوحد فيما بيننا، ثم لا نلتفت إلى أنفسنا ونحن نرى أنفسنا في أحط مستوى مقارنة بما عليه بنو إسرائيل, لا نلتفت إلى ما بين أيدينا، ربما هناك خلل في ثقافتنا، ربما هناك خلل في نظرتنا للحياة.
أنا شخصياً أعتقد أن من أسوأ ما ضربنا وأبعدنا عن كتاب الله وأبعدنا عن دين الله، وعن النظرة الصحيحة للحياة وللدين، وأبعدنا عن الله سبحانه وتعالى هو [علم أصول الفقه]”.
غياب الاهتمام هو أصل الجمود والانهيار
في ختام التحليل، يضرب الشهيد القائد على الجرح الأعمق، وهو غياب الاهتمام الحقيقي بقضية الدين والحق، فيسأل:
«هل لدينا اهتمام أولاً بشيء مرتبط بإعلاء دين الله حتى نتعاون فيه؟»
ويحمّلنا المسؤولية الكاملة لغياب هذا الاهتمام في كل المظاهر، بدءًا من العطاء، إلى الوقوف ضد المفسدين، إلى السعي لتمكين دين الله، فيختم بأسلوب تقريري تحذيري:
«إذا لم تكن تهتم بشيء؛ لن تقدم شيئاً».
ويخلص الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) إلى أن طالب العلم ليس كائنًا معزولًا في زاوية التحصيل، ولا متعبدًا على هامش الواقع، بل هو طليعة الهداية، وحارس الوعي، وصوت الحق في زمن التزييف.
هو مشروع إصلاح، وبذرة نهضة، وعين يقظة في وجه التزوير الديني والتضليل الإعلامي.
فالعلم الذي لا يُثمر خشية، ولا يتحول إلى موقف، هو نقمة لا نعمة.
والطالب الذي لا ينهض بمسؤوليته، ولا يربط علمه بجراح أمته، ولا يجعل القرآن مرجعيته ومصدر حركته، إنما يُفرغ العلم من مضمونه، ويُحوّل الهداية إلى ترفٍ ثقافي أجوف.
إنها دعوة صريحة لإعادة تعريف العلم، واستعادة قدسية الرسالة، والانخراط في معركة الوعي من موقع المسؤولية لا الهامش، ومن موقف التحرر لا التبعية.
هكذا أراد الشهيد القائد لطالب العلم أن يكون: صوتًا لله، لا بوقًا للسلطان، راية للحق، لا غطاءً للباطل،
وحلقة وصلٍ حقيقية بين القرآن والأمة، لا مجرد حامل إجازة علمية بلا أثر.
وما أجمل ما قاله في نهاية المحاضرة: “يجب أن يكون غايتنا كطلاب علم هي قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ}. وأن تكون مسيرتنا ونحن نطلب العلم هي مسيرة أولئك الذين قال عنهم: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (القصص:14).
وأن نعتمد على القرآن الكريم اعتمادا كبيراً نتأمله نتدبر آياته حتى نستطيع أن ننقذ أنفسنا، حتى نستطيع أن نحظى برضوان الله سبحانه وتعالى فيرضى عنا.
وأن نتوب إلى الله من هذا الواقع الذي نحن فيه. في أكثر من مجلس أطلب من الناس جميعاً, ومن نفسي أن نتوب إلى الله، وقد يكون البعض يستغربها، أنا أستطيع أن أقسم – على حسب ما أفهم من القرآن الكريم – أننا في حالة خزي في الدنيا وأن المتوقع هو العذاب العظيم في الآخرة. من خلال القرآن الكريم – أن الحالة التي نحن عليها هي خزي في الدنيا, وضياع لكتاب الله, ولا يتوقع بعدها إلا عذاب في الآخرة. لا أدري إذا كان أحد يرى أن هناك مبررات لنفسه، من الذي يستطيع أن يصنع مبررات لنفسه؟ لا أحد يستطيع.