الهروب الاميركي من المستنقع السوري: عقوبات وتنازلات
موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية ||علي إبراهيم مطر / العهد الاخباري
سقط جدار برلين، في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، الذي كان يفصل شطري ألمانيا الشرقي والغربي، وبدأ بذلك عصر الهيمنة الأميركية وانكفاء الاتحاد السوفياتي عن الساحة السياسية الدولية؛ وقد تحول النظام العالمي إلى الأحادية الأميركية ومذ ذاك لا تزال الولايات المتحدة تملك تأثيرها الوازن على مفاصل هذا النظام، ولا زال حضورها الأساس في أي تغيير يطرأ على الساحة الدولية، وفي مطلق الجغرافيا السياسية.
ما لبث أن تبدل المشهد إبان أحداث 11 أيلول/ سبتمبر التي تدخلت في صناعة مستقبل هذا النظام، و”نهاية التاريخ” التي تحدَّث الأميركيون، من أمثال فوكوياما عنها، بعد انتهاء الحرب الباردة وفرض واشنطن سيطرتها لم تدم فعلياً إلا 10 سنوات، حيث بدأت الصورة تنقلب على أعتاب الألفية الجديدة.
العقوبات الاميركية على روسيا
وفي وقت غرق “العم سام” في مستنقع أفغانستان ووحول العراق وصحراء الخليج، تسارعت الإخفاقات الأميركية مروراً بحرب تموز/يوليو 2006 التي أسقطت مشروع الشرق الأوسط الجديد، ومن ثم الحرب على سوريا، والتي تعتبر آخر محطات الأحادية القطبية، وعودة روسيا بقوة إلى الصورة الدولية مع فلاديمير بوتين، الذي يحلم بإعادة أمجاد الأمبراطورية.
ما يحصل اليوم من أزمات متنقلة في الشرق الأوسط مع انتشار واسع لظاهرة الإرهاب، إنما هو مؤشر على الأزمات المتفاقمة بين واشنطن وموسكو، ودليل واضح على كيفية إدارة اللعبة التي تتلقى شباك واشنطن فيها الأهداف كما تسجلها. لكن واشنطن دائماً ما تحاول الهجوم بشكل عنيف ومبطن عبر بعض العقوبات التي تلحق بروسيا وعبر الضغط على الحلفاء الأوروبيين لمعاقبة موسكو، ولكنها في المقلب الآخر عندما تكون أمام خيار صدٍّ لهجمات معاكسة تحاول تقديم التنازلات إذا ما نجحت في جعل الخصم يقع في مصيدة تسللها.
لقد وصل التوتر في الاونة الأخيرة إلى أشده بين موسكو وواشنطن، مع السياسات المتعجرفة التي يتبعها القادم الجديد إلى الإدارة الأميركية دونالد ترامب، والذي يعتبر العالم شركة اقتصادية عليه إدارتها وجني الأرباح منها، والعقوبات الأخيرة على موسكو تظهر ذلك، فضلا عن الضغط عليها عبر تسليح أوكرانيا المناوئة الجديدة لروسيا باسلحة فتاكة، أو عبر تعقيد الأمور من خلال طرد دبلوماسيين روس وكذلك التعامل الروسي بالمثل.
لكن الإدارة الأميركية، دائماً ما تصطدم بحقيقة جغرافية أساسية، بأن روسيا تؤثر في مصالحها في جميع أنحاء العالم، كونها تمتلك حدودًا مع أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، /فيما تخسر أميركا هذه الميزة، إلا عبر فتح قنوات مع دول تلك المناطق أو عبر بناء قواعد عسكرية لها فيها.
الهدف الأساس لواشنطن من وراء العقوبات على روسيا والتي تأتي نتيجة جشع كارتلها النفطي، والصراع النفطي بين الطرفين، هو إزاحة روسيا من سوق الغاز الأوروبية، لتحل مكانها. ومن ثم إضعاف اقتصاد روسيا ومنعها من تنفيذ مشاريعها الكبيرة، وكذلك من الأسواق الأوروبية. هذا فضلاً عن إبعاد الشركاء الأوروبيين الذين لديهم علاقات جيدة مع روسيا وفي مقدمتهم ألمانيا وفرنسا.
ما لا تدركه واشنطن أن دول أوروبا اليوم ليست كما في فترة التسعينات، وأن ألمانيا وفرنسا ودولا أوروبية أخرى لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة بانها الحليف الذي يدافع عن المصالح الغربية المشتركة خاصة في عهد ترامب. ثمة تغيير أوروبي. فالقارة العجوز أدركت حديثًا أن واشنطن تنتهج سياسة أنانية، دون أن تولي أي اهتمام لأوروبا، فهي تقوم باستخدام اوروبا ضد روسيا من أجل مصالحها لا من أجل مصالح الدول الأوروبية، التي أصبحت تنظر إلى روسيا على أنها شريك محتمل لا ينوي شن حروب ضدها.
إن أي قراءة لمسار تطور العلاقات بين روسيا وأميركا، سوف تظهر التنافس والصراع بينهما على موارد الطاقة والنفوذ العالميين، وقد شكلت سوريا منصة للتنازع بينهما وحربًا باردة جديدة، تتحول الغلبة فيها حالياً لروسيا وسوريا وحلفائها على حساب واشنطن وحلف الإرهاب الذي تديره، وهذا يبدو جلياً من خلال قناعة إدارة البيت الأبيض أولاً والمجتمع الدولي ثانياً، أن بلاد “العم سام” لم تعد المسيطرة على النظام الدولي وأن هذا النظام لا يمكن أن يدار بمعزل عن روسيا لتكون الإدارة الأميركية هي الحاكمة فيه، خاصةً مع صعود التنين الصيني الذي يهدد واشنطن اقتصادياً.
لقد ادركت واشنطن أن الأمور في سوريا لا تدار، بمعزل عن القيصر بوتين، الذي يعرف مفاصل الحلول جيداً، كما يدرك مفاصل القوة لديه خاصةً من خلال الرئيس الأسد وحلفائه الذين ثبتوا انتصارهم على محور الولايات المتحدة، والذي لا يمكن أن يحصل أي حل في المنطقة بمعزل عنهم، بعد أن وجهوا لمحور الإرهاب ضربات عديدة، لذلك أصبحت الأجهزة الأميركية تدرك أنها لا يمكن أن تخرج من مستنقع سوريا الا باتفاق مع روسيا. أما الضغوطات التي تفرض على روسيا يساراً ويميناً وخاصة من خلال ملف العقوبات، هي عرض عضلات أميركية من أجل الحصول على فرص قوى أكبر تشكل هامش تفاوضي أوسع لإنهاء الملف السوري، وهذا ما يؤكد من جديد تراجع الهيمنة الأميركية والتسليم بوجود مخاض جديد للنظام العالمي أسقط كل مشاريع واشنطن.