تبعية اوروبا للولايات المتحدة; الأسباب وطبيعة العلاقات (الجزء الثاني)
موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية ||
الوقت التحليلي- تطرقنا في الجزء الأول من هذا المقال المعنون بـعنوان (تبعية اوروبا للولايات المتحدة، الأسباب وطبيعة العلاقات) الى الخلافات والتوافقات في العلاقات الأمنية بين أوروبا والولايات المتحدة القائمة وأسبابها وما ترتبت عليه من تأزم او تحسن في العلاقات بينهما وعلى الدول الأوربية، وسنبين في الجزء الثاني من هذا المقال، طبيعة العلاقات غير الأمنية بين اوروبا والولايات المتحدة وتأثيرها على الاقتصاد الاوروربي.
2- الخلافات والتوافقات بشأن العلاقات غير الامنية بين اوروبا والولايات المتحدة
ليس للعلاقة غير الأمنية بين الولايات المتحدة وأوروبا ذلك التماسك الموجود في علاقاتهما الأمنية، وخاصة في عصر دونالد ترامب، إذ نرى أرضية التباعد أكثر من ذي قبل. ولكن تجدر الإشارة إلى أنهما شركاء نوعا ما مع بعضهما البعض من خلال التعلق الأمني، القيم والثقافة في المجالات غير الأمنية ولا سيما المجالات الاقتصادية. وبمعنى علمي، ان الولايات المتحدة، التي تنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه يتنافس على أوراق اعتمادها غير الأمنية (وخاصة الاقتصادية)، قد اعطته دوراً في نظامها التي اوجدتها بنفسها للحافظ على التعاون والتقارب المنشود. وفيما يلي سيتم التطرق لهذا الموضوع.
۲-۱- التقارب والتباعد في العلاقات الاقتصادية
يُعتبر الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية ركيزتين رئيسيتين في الاقتصاد العالمي، حيث هنالك حجم كبير من التبادلات الاقتصادية والمالية بينهما. في الواقع، ان هذين العاملين هما من يتحكم بالنظام الليبرالي في العالم. وفيما يلي سيتم التطرق الى التقارب والتابعد الموجود في هذه العلاقات. أولا، سنبدأ بما بتعلق في تعزيز التقارب، ومن ثم سنتطرق الى مؤشرات الاختلاف والتباعد.
۲-۱-۱- التقارب الاقتصادي
ان العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هي بحكم طبيعتها، أكبر علاقة اقتصادية في العالم. وقد تطورت هذه العلاقات الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث وصلت إلى 28 دولة بعد ان كانت من 6 دول أعضاء فقط. وأدى ارتفاع حجم التبادلات الاقتصادية بينهما إلى إجراء مفاوضات، وفي نهاية المطاف إنشاء شراكة من أجل التجارة والاستثمار عبر الأطلسي.
في عام 2012، بلغ حجم التجارة بينهما الى 1500 مليار دولار، مما يشير إلى مستوى التبادل التجاري بينهما. وفي نفس العام، أصدر الاتحاد الأوروبي بضائع بقيمة 265.1 مليار دولار إلى الولايات المتحدة (نحو 17.1 في المائة من إجمالي الصادرات الأمريكية) وحوالي 380.5 مليار دولار (حوالي 16.7 في المائة) من ميزان استيرادها. وبعبارة أخرى، فإن الاتحاد الأوروبي هو أكبر مستثمر في العالم (حوالي 50٪ من قضية الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم) والولايات المتحدة بعد ذلك (25٪ من الاستثمارات العالمية).
ويبين الجدول رقم “1” حجم الاستثمار الأجنبي المباشر من قبل الولايات المتحدة وأوروبا مقارنة مع الصين والبرازيل والمجموع العالمي. وهما أيضا أكبر المستثمرين في مجال أسواق بعضهما البعض. ومنذ عام 2006، عزز حدثان هذا التقارب الاقتصادي. وهذان العاملان للتقارب الاقتصادي يشملان المجلس الاقتصادي عبر الأطلسي في عام 2007، الذي أحدث تقارب بين الدول والتُجار.
ان هذا المجلس هو أيضا مكان جيد لمناقشة القضايا الاقتصادية العالمية. وقد أقيمت فيه عدة لجان عمل ومؤتمرات في هذا الصدد. ولكن العمل الثاني الذي أدى إلى تفاقم هذا التقارب هو الشراكة التجارية والاستثمار عبر الأطلسي التي بدأت مفاوضاتها في عام 2013. والهدف من هذه الشراكة هو القضاء على أي عوائق أمام التجارة بما في ذلك التعريفات الجمركية.
وبالإضافة إلى الاستثمار، فإن للولايات المتحدة والاتحاد الاوربي حجم كبير من التبادل التجاري مع بعضهما البعض، بما في ذلك الشركاء التجاريين الأوروبيين للولايات المتحدة مثل بريطانيا وألمانيا.
۲-۱-۲- التباعد والاختلاف الاقتصادي
بعد انهيار الشيوعية، كانت شدة هذا التقارب الاقتصادي آخذة في التضاؤل لأنه مع تعزيز الاتحاد الأوروبي، أصبح هذا الاتحاد أكبر منافس تجاري للولايات المتحدة، وبعد ظهور عملة نقدية مشتركة، تضاعف هذا التهديد والتنافس. وتشمل القضايا المتباينة والخلافية الأخرى بينهما، المنافسة على كسب المزيد من الأسواق، الصلاحيات الامريكية الواسعة (فرض عقوبات من جانب واحد)، واليورو (إذا تم استبدال الدولار باليورو، فإن الولايات المتحدة ستواجه عددا من المشاكل الاقتصادية الخطيرة) وسياسات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن العلاقات التجارية، كل ذلك قد تسبب في تباعد هذه العلاقة.
ومن المناقشات الأخرى التي يمكن إجراؤها بشأن هذا الموضوع، احترام المنظمات الدولية التي تتسم بأهمية بالغة بالنسبة للأوروبيين. في عهد بوش، شهدنا انفرادية من هذا النوع، وخاصة فيما يتعلق بغزو العراق وغيرها من العقوبات الانفرادية الأحادية الجانب والتعسفية من قبل الولايات المتحدة. وقد شهد هذا الموضوع تحسن كبير خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما. ولكن خلال فترة ترامب، الرئيس الحالي، نرى مرة أخرى عدم احترامه للمنظمات والمعاهدات الدولية.
وبالإضافة إلى إلغاء ترامب للشراكة عبر المحيط الهادئ، إنسحب ترامب أيضا من معاهدة باريس للمناخ. كما هاجم بشكل مُكرر النافتا والناتو. ما يهم في هذا السياق هو موضوع الإنسحاب من منظمة التجارة العالمية. ان خطوة ترامب هذه تتناسب مع شعار “أمريكا اولاً” خلال فترة الانتخابات، ولكن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى تحرك نحو الاقتصاد الوطني من قبل بلدان أخرى، وبالتالي ستزداد التعريفات الجمركية، وهو ما يتناقض تماما مع القيم الليبرالية والغربية الجديدة.
2-2- التباعد وقضية البيئة ومعاهدة باريس للمناخ
في حين أن معاهدة باريس ذات أهمية كبيرة للأوروبيين، وخلال فترة أوباما، وبجهوده، كان أحد عوامل التقارب بين اوروبا والولايات المتحدة، لكن مع دستور ترامب القاضي بوجوب الانسحاب من هذه المعاهدة، تم اغلاق الطريق امام أحد اهم المسارات الايجابية بين الطرفين. وقد رد المسؤولون الأوروبيون بشدة على هذا القرار الأمريكي. هذا وقد الغى ترامب قبل شهرين، جميع قوانين ولوائح إدارة أوباما المتعلقة بتغير المناخ والاحترار العالمي من خلال توقيعه على أمر تنفيذي.
وقد تخلى ترامب عن المعاهدة لانها اعفت بعض دول العالم الثالث والدول الاسيوية وحالت دون تطوير المصانع الامريكية. ويعتقد ترامب، إن المعاهدة نقلت المصانع، وبالتالي، الاعمال التابعة لها والعمال والعائدات من الإنتاج، من الغرب إلى الشرق، ولهذا السبب انسحب من المعاهدة. ولذلك، فإن انسحاب أمريكا من هذه المعاهدة سيزيد من القدرة التنافسية الأمريكية بالتأكيد. وإذا كان الاتحاد الأوروبي سيأخذ مسؤوليات الولايات المتحدة، فإن ذلك سيكلفها اموال طائلة. مع مقاطعة روسيا وانسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة هذه، سيتعين على الاتحاد الأوروبي شراء الغاز الأمريكي، وهو ما يعني أيضا زيادة الإنفاق في الاتحاد الأوروبي.
2-3- التباعد وأمن الطاقة
القضية المهمة التالية هي قضية الطاقة، ولا سيما طاقة غرب آسيا وجيران اوروبا الشرقيين. إن أوروبا، إذا أرادت أن تستمر في النمو اقتصاديا، تحتاج إلى إمدادات طاقة بشكل أكثر وأسرع من هذه المناطق، لذلك، فإن الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية والاستقرار في هذه المناطق بالنسبة لأوروبا أمر حاسم بالنسبة لأمن النفط والطاقة. وتشكل دول الأوبك نحو 40٪ من واردات أوروبا من النفط الخام.
فعلى سبيل المثال، تمثل روسيا وليبيا والمملكة العربية السعودية ونيجيريا، على التوالي حوالي 30٪ و 3٪ ، 8٪ و 8٪ من الخام الأوروبي.
كما يتم توفير معظم الغاز الأوروبي عن طريق روسيا والنرويج والجزيرة. ولذلك، فإن أي حالة من عدم الاستقرار أو انقطاع في العلاقات الدبلوماسية أو مقاطعة اعتباطية من جانب الولايات المتحدة لهذه البلدان، يمكن أن تسبب ضررا خطيرا لأوروبا. في حين أن الولايات المتحدة في حقبة ترامب لا تولي اهتماما كبيرا لهذا الموضوع لأن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى النفط والطاقة.
في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال سنشرح الخلافات والتوافقات في العلاقات الأمنية بين أوروبا والولايات المتحدة وكيفية التجاوب مع التهديدات ودور الناتو في الحفاظ على الأمن ومنع نشوب الصراع بين الدول والرؤية العامة للاتحاد الأوروبي تجاه الناتو.