تبعية أوروبا للولايات المتحدة؛ الأسباب وطبيعة العلاقات (الجزء الثالث والأخير)

موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية ||
الوقت التحليلي- بعد ان شرحنا في الجزئين السابقين من هذا المقال أسباب تبعية اوروبا للولايات المتحدة الأمريكية وطبيعة العلاقات الامنية والغير امنية بينهما وكيف أثرت العلاقات الاقتصادية والطاقة على تعاطيهم مع القضايا التي تخص الشأن الاوروبي، سنتطرق في الجزء الثالث والاخير من هذا المقال الى اسباب التقارب والتباعد في العلاقات الامنية والغير امنية للإتحاد الأوروبي ودور الناتو في مد جسور العلاقات بين اوروبا وامريكا.

3- أسباب التقارب والإبتعاد في العلاقات الأمنية والغير أمنية للإتحاد الاوروبي

سبّبَ التقارب بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، تهديدات أمنية هي قائمة حتى الآن. وقد أدى استمرار التهديدات الأمنية، ولا سيما من قبل روسيا، إلى جانب العديد من العلاقات التاريخية والثقافية والقيمة، إلى وجود صلة عميقة بين الجبهة الغربية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وبالتالي فإن الاستراتيجية الكلية والاستراتيجية الشاملة للاثنين هي مشتركة، ولكن الفرق هو في نوع التعامل على الأزمة وكيفية التجاوب مع التهديدات.

وتؤكد أوروبا بشكل عام على القوة الناعمة ونهج الجغرافيا الثقافية، في حين تؤكد الولايات المتحدة على القوة الصلبة والجيوسياسية “الجغرافيا السياسية”. هذا النهج يتجسد حول القضايا الأمنية، وخاصة كيفية مكافحة الإرهاب، الاتفاق النووي والملف الروسي وغيرها. وكذلك تسعى أوروبا في إطار مجلس الامن التابع لأمم المتحدة، الى تثبيط إيران وروسيا تدريجيا وليس بشكل كامل، وأولوية مكافحة الإرهاب، ولاسيما تنظيم داعش الارهابي، والتعددية، والحاجة إلى العمل واحترام المعاهدات والمنظمات الدولية وضرورة العمل العسكري في إطار مجلس الأمن، ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة، وخاصة خلال عهد ترامب، تتصرف عكس هذه البنود، على سبيل المثال، ان تنظيم داعش لا يعتبر تهديدا للمصالح الاستراتيجية الأمريكية.

كما أن لدى أوروبا رؤية مختلفة عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالأزمة السورية وكيفية حل النزاع القائم في الشرق الأوسط، وتشدد على الحاجة إلى التعاون بين إيران وروسيا، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى مصالحها. ولذلك، تتشكل المصالح غير الأمنية في هذه المرحلة بالذات. تعتمد أوروبا على روسيا والدول الخليجية لتأمين الطاقة، وبالتالي فإن أهمية التعاون بين إيران وروسيا مهمة جدا بالنسبة لأوروبا.

وفي حين تفرض الولايات المتحدة عقوبات مختلفة على البلدين دون ان تلتفت ابداً الى هذه الرؤية. لذا فإن هذه الاختلافات القليلة ترجع ايضاً إلى مصالح مختلفة. كما تشعر أوروبا بالقلق إزاء مواجهة التبادلات التجارية المُكلفة مع الولايات المتحدة. بمعنى أنه في حال تغليب الاستراتيجتين الرئيستين للولايات المتحدة المتمثلة بـ”أمريكا أولاً” و “الحمائية الاقتصادية”، فإن ظهور نزاعات تجارية مع الاتحاد الأوروبي ودول مثل ألمانيا ليست بعيدة.

وهذا أمر يزداد أهمية عندما نعلم أنه بعد الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008، لن تملك أوروبا ظروف اقتصادية مُساعدة. وفي هذا السياق، اعتبرت أوروبا أيضا أن إبرام اتفاق تجاري ثُنائي بين الاطلسين، يمثل فرصة عظيمة للهروب من حالتها الاقتصادية الراهنة.

4-الناتو: الجسر الرابط للعلاقات الأمنية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة

كما ذكر سابقا، فقد رمت أوروبا نفسها إلى احضان أمريكا خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، الأمر الذي جعل من السهل على الولايات المتحدة أن تسيطر على المنطقة وفي النظام العالمي. ولم تكن لأوروبا القدرة على أن تقف ضد الاتحاد السوفياتي بمفردها وكانت تحت مظلة الولايات المتحدة من حيث الجانب العسكري والأمني. وقد بذل الناتو جهودا للحفاظ على الأمن العام، ومنع نشوب صراع بين الدول الأعضاء، وإبقاء الولايات المتحدة ملتزمة في حفظ أمن أعضائها. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وجد الناتو أيضا وظيفة أخرى. ولغرض إبقاء الدول الاعضاء بإلتزامها، كان يُنظر إلى الناتو على أنه يتبع الاستراتيجيات الأمريكية ويتقاسم التكاليف والمسؤوليات.

هنالك ثلاث رؤى عامة من قبل الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالناتو:

1- ذوي التوجه الأوروبي: تؤكد بلدان مثل فرنسا على ضرورة تعزيز القوة العسكرية وتعزيز قوة الجيش الأوروبي المستقل. وتسعى هذه المجموعة أيضا إلى زيادة دور الاتحاد الأوروبي في حلف شمال الأطلسي “الناتو” وإعطاء عضوية لبلدان أوروبا الشرقية في هذه المنظمة. ويمكن رؤية ذلك في التوترات القائمة بين الناتو وسياسة الدفاع والأمن الأوروبية. (ستستجيب الولايات المتحدة لسياسة الدفاع – الأمني الاوروربي وذلك عندما يتم تعزيز القوة العسكرية الاوربية التي ستعزز بطبيعة الحال قدرة الناتو، ولكن الولايات المتحدة ايضا ستقبل بهذا الأمر شرط الّا يصل الاتحاد الاوروبي الى مستوى امريكا وتبقى تابعة لها).

2- ذوي التوجه الأطلسي: تعتقد دول مثل بريطانيا أن أمن أوروبا يكمن في حلف الناتو، ويجب على الاخيرة ان تمنع تقليل الالتزامات العسكرية الأمريكية تجاه أوروبا.

3- الدول المحايدة مثل ألمانيا، التي تسعى لإرضاء جميع الأطراف

ومن ناحية أخرى، تسعى الولايات المتحدة إلى توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي على الصعيد العالمي، بينما يرجح الأوروبيون، في مجال الأزمات التي تحدث خارج منطقة عبر الأطلسي، ان يتدخلوا على حِدة في كل أزمة وبالتنسيق والإشراف الكاملين من قبل الأمم المتحدة، لا سيما في المناطق الشديدة الخطورة. ومن الأمثلة على ذلك، معارضة ألمانيا دستور ترامب الجديد القاضي بإرسال قوات إلى أفغانستان، أو عدم انضمام القوات الألمانية إلى قوات الناتو الأخرى في كوسوفو.

كما أن الأوروبيين لم يتمكنوا بعد من ضمان كامل التكاليف المالية للسياسة الدفاعية والأمنية الأوروبية. انهم لا يريدون انفاق اثنين في المئة من اجمالي الناتج المحلي لهذا الغرض، حيث يفضلون أن تكون مسؤولية هذه التكاليف على عاتق الولايات المتحدة. وثمة مشكلة أخرى بالنسبة للناتو هي الانفرادية المفرطة للولايات المتحدة او الهجمات الاستباقية، كما كان الحال في حرب العراق.

وبشكل عام، ان الأوروبيين يرغبون بالتعددية ويرون من الضرورة العمل في اتجاه الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ولذلك، فإن الافتقار إلى عدم وجود درك مُشابه للتهديدات، فضلا عن طرق التعامل المختلفة مع التهديدات، هو أحد اسباب التباعد بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ومع ذلك، في هذه المرحلة من الوقت، فإن هذه المنظمة هي وسيلة لدعم الدول الأوروبية ضد المخاطر المحتملة من روسيا.

ومن هنا، يلعب الناتو حاليا دورا هاما في العلاقات الاوروبية – الامريكية وهو امر مصيري لكل من اوربا والولايات المتحدة. على الرغم من خلق ترامب مشاكل للأوروبيين. وقد تحدث ترامب في قمة بروكسل الأخيرة، بعد شعارات حملته الانتخابية، عن تسديد الديون وزيادة السهم المالي للدول الأوروبية في الناتو، لأنه وفريقه يرَون أن تكلفة أمن اوروبا لا ينبغي أن تتحملها الولايات المتحدة، وان زيادة نسبة 2 بالمئة في المدفوعات الالمانية هي لذات الغرض.

ومع ذلك، وعلى الرغم من توفر ظروف للتباعد والاختلاف، لكن لا يبدو أن التعاون الأمني في هذا الحلف سينعدم، وسنرى تقارب أكبر بين أوروبا والولايات المتحدة وفقا للضمانات الأمنية السابقة لهذا الحلف، ولذا بشكل عام، فإن التقارب القوي موجود على الأقل في الوضع الراهن، حيث أنه لا يوجد الآن أي محاولة من جانب الاتحاد الأوروبي، سواء اقتصاديا أو عسكريا، للوصول إلى مستوى من الدفاع عن النفس ضد تهديدات مثل روسيا ولن نرى وجود آلية عسكرية مستقلة تماما للناتو.

وبالإضافة إلى ذلك، مع إنسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فقد انخفضت قدرة هذا الإتحاد لوجستياً وعسكرياً للتدخل مباشرة والتعامل مع التهديدات.

الخلاصة

على الرغم من أننا نرى بعض أوجه التباين والاختلاف في العلاقات عبر الأطلسي، لكن لا يمكننا أن نتجاهل الثقل والأهمية الشديدة لتلك البنود. وبعبارة أخرى، فإن أوروبا، على الرغم من أنها قد تكون منافسا وقد تشكل تحديا في بعض الحالات، لكنها في النهاية تعتبر حليف للولايات المتحدة. وكما رأينا، فإن الإثنان متفقان حول السياسات الاستراتيجية، ولكنهما مختلفان من حيث الأساليب.

كما لا توجد أي اختلافات مجال السياسة العليا، وهم يعتمدون كليا على بعضها البعض في هذا الصدد. وبعبارة أخرى، إذا كانت أمريكا تُعتبر القوة الصلبة، فإن قوة ناعمة مثل أوروبا ستعتمد عليها بشكل كبير والعكس صحيح. ولذلك، بالإضافة إلى القيم المشتركة التي يتشاطرانها، فإن المصالح الوطنية لكل منها توجب عليهما أن يعملا معا من أجل تحسين إدارة النظام العالمي الحالي والحفاظ على استقرارهم الأمني (بأبعاده المختلفة).

ويختلف هذين الاثنين مع بعضهما البعض في زاوية النظر الى القضايا الأمنية حصراً، اضافة الى اختلاف ردة افعالهم تجاه القضية. ان الخلاف الأكبر بينهما هو غالبا ينحصر في النطاق الغير امني كإتفاقية البيئة والقضايا الاقتصادية. ولذلك، فإن فصل أوروبا عن أمريكا على الأقل في الوقت الحالي أمر غير محتمل وغير واقعي، لذا فإن ضرورة الحفاظ على الناتو مهم أيضا. ويبدو أن كل من أوروبا والولايات المتحدة يحتاجان إلى بعضهما البعض، وهم مضطرين للتعامل والتعاون فيما بينهما لأن التجاذبات والصراعات لن تعود بالنفع عليهما ابداً.

قد يعجبك ايضا