نهاية حكم “المطاوعة”.. الغضب يتصاعد

موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية || الميادين نت

عودة قليلاً إلى الوراء. عامان أو أكثر. ما كان بالإمكان تخيّل السعودية من دون “مطاوعة”. هذا على الأقل ما كان يتراءى من بعيد ويستشف حتى من مواطني المملكة والمقيمين فيها. نفوذ “حراس الفضيلة” كان يبدو متجذراً في بيئة اجتماعية نما وتشعّب فيها.

 

في مراحل معينة، وتحديداً خلال تولّي نايف بن عبدالعزيز وزارة الداخلية، كان رجال هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” يعتبرون جزءاً من التوازنات القائمة بين أجنحة السلطة.

 

باعتبارهم جهازاً رسمياً تابعاً لهذه الوزارة طوّر نايف علاقته بهم حتى باتوا محسوبين عليه. بالمثل طوّر شقيقه عبدالله بن عبدالعزيز جهاز الحرس الوطني عملاً بنصيحة مستشاره عبدالعزيز التويجري. بات هذا الفصيل المؤلف من بضعة آلاف مقاتل قبلي قوة في يده. ورث متعب بن عبدالله الحرس عن والده، كما أورث نايف الداخلية ومعها “المطاوعة” لابنه محمد.

 

فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان. الصعود القوي غير المتوقع لمحمد بن سلمان رافقه انقلاب أكثر قوة في المعادلات التي قامت على أساسها المملكة. تعمّقت نقمة المتشددين من رجال الدين وأتباعهم. اتسعت دائرة أعداء بن سلمان. فرح الخصوم واستبشروا خيراً. لقد خلخل الأمير الشاب إحدى الركائز الأساسية التي قام على أساسها الحكم. قاعدة الشرعية الدينية. هل يعني ذلك بالضرورة أن المبنى بات آيلاً للسقوط؟ وبالتالي ما الذي دفع بن سلمان إلى هذه المخاطرة؟ الجواب على ذلك يستدعي بعض التوضيحات.

على مدى أكثر من 80 عاماً شكّل “المطاوعة” صورة نمطية عن السعودية. وجوه متجهمة تجوب الشوارع والأسواق بحثاً عن “ضالين”. هؤلاء الضالون قد يكونون من المتخلفين عن الصلاة في موعدها، لذا وجب على “حرّاس الفضيلة” أن يجروهم عنوة إلى ذلك. قد يكنّ أيضاً فتيات يضعن طلاء أظافر ولا يغطين وجوههن في الأسواق العامة.

 

تعددت أسماء “المطاوعة”. العاملون بشكل رسمي هم أعضاء “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. في الصحف الغربية هم الشرطة الدينية. في السعودية هم أيضاً رجال “الحسبة”. تدلّ عليهم أثوابهم (الدشداشة) التي لا يجوز أن تطول كثيراً. لا يضعون “العقال” على غطاء الرأس (الشماغ) أسوة بجميع السلفيين. هم بذلك يقتدون بالرسول حسب معتقداتهم.

لن يطول الوقت قبل تنفيذ حكم الإعدام بحق هذه الهيئة. القرار متخذ رغم الالتباس الذي حصل خلال جلسة مجلس الشورى الشهر الماضي. تقدّم باقتراح إلغاء الهيئة ثلاثة أعضاء في المجلس. الأمانة العامة نفت وجود هكذا اقتراح على جدول الأعمال. تبيّن يوم الجلسة أن الاقتراح موجود. في النهاية تم تأجيل البت به إلى جلسة تعقد بعد حين.

 

بمعزل عن هذه الملابسات يُمكن القول إن زمن “الهيئة” انتهى، إلا إذا طرأت مفاجآت. حصل ذلك فعلياً العام الماضي عندما انتزعت صلاحياتهم بقرار حكومي. منذ ذلك الوقت لم يعد بإمكانهم الملاحقة أو التوقيف. صارت هذه المهام من مسؤولية الشرطة حصراً.

المعارض السعودي المقيم في لندن سعد الفقيه يبدو متفائلاً بإلغاء الهيئة. في واحدة من مداخلاته الأسبوعية يبشّر زعيم “الحركة الإسلامية للإصلاح” بأن هذه الخطوة سترتدّ على بن سلمان. ينطلق الفقيه من قناعة بأن الهيئة لطالما وفّرت الغطاء الشرعي الديني لحكم آل سعود. بإزالتها يهدم الأمير الشاب عموداً أساسياً من أركان الحكم. هو أيضاً يزيد اتقاد القدر الذي يحوي شرائح متباينة الاتجاهات في المجتمع السعودي ويقوده إلى مرحلة الغليان. المرحلة النهائية قبل الانفجار.

 

قد يبدو هذا الاحتمال شديد التفاؤل مقابل سؤال بسيط: هل محمد بن سلمان بهذا الغباء؟ سعد الفقيه مقتنع بذلك، إلا أن مجموعة المستشارين المحيطة بولي العهد تبدو أن لديها قناعات مختلفة.

 

خلال الفترة التي تلت قرار تقليص صلاحيات الهيئة لم تسجّل ردود فعل خطيرة. هذا الاختبار شجّع أصحاب القرار على المضي بمشروعهم. الملابسات التي حصلت في مجلس الشورى منذ نحو شهر يصح النظر إليها على أنها اختبار آخر لجس النبض. نبض لم يستقر بعد في جسد المملكة الذي يشهد حالات ضغط مرتفعة ومنخفضة. على ضوء ذلك يمكن فهم قرار إلغاء حفل شيرين عبد الوهاب في الرياض أخيراً. لم تهضم البيئة الاجتماعية الحاضنة للتيار الديني المتشدد القرارات الأخيرة. كما لم تهضم ما حدث في معقلها التاريخي بالرياض (منطقة نجد) من احتفالات. تسارعت الأحداث بشكل مفاجئ قبل أن يتاح لها استيعاب ما حصل.

 

ما كان لهذه الأحداث أن تتخذ طابع الخطورة لولا أنها جاءت دفعة واحدة وبالتزامن مع مشروعات أخرى: هيئة الترفيه وحفلاتها المختلطة، مشروع البحر الأحمر السياحي الواعد بالبكيني والخمور، العلمانية، إلغاء دور “المطاوعة”، إقالة آلاف الأئمة (وفقاً لعادل الجبير)، السماح للمرأة بقيادة السيارة، إضافة إلى ما يتداول عن اتجاه لإلغاء “هيئة كبار العلماء” وإعادة تنظيم المؤسسة الدينية بأكملها. هذا إذا ما نحينا جانباً التحديات الاقتصادية والأمنية والعسكرية التي تترصد المملكة، وخطوات التطبيع مع إسرائيل، وتنامي حالة النقمة داخل الأسرة الحاكمة. في ظل هذه الأعباء ما الذي يدفع بن سلمان إلى استفزاز القاعدة المتشددة عبر إلغاء دور “المطاوعة”؟

 

أسباب داخلية وخارجية

 

أسباب داخلية وخارجية دفعت بن سلمان إلى ذلك. في حمأة المعارك الإعلامية والدعاية السياسية غاب عن كثيرين حقيقة بديهية: تغيّرَ الزمن. عهد محمد بن سلمان الشاب المواكب للحداثة لا يشبه زمن جده عبدالعزيز.

 

منذ البداية وقف التيار الوهابي المتشدد ضد الحداثة والتطور. عاب أتباع “جماعة من أطاع الله” على عبدالعزيز نفسه استخدامه السيارة والطائرة والتلغراف. تمردوا عليه حتى اضطر إلى سحقهم بأسلحة إنكليزية حديثة عام 1927. لاحقاً وقف هذا التيار ضد دخول التلفزيون عام 1965. وضعوا ضوابط شرعية على كل شيء. وعندما بدأ عصر البث الفضائي حاولوا منع الصحون اللاقطة. منعوا أيضاً الهواتف المزودة بكاميرات وصادروها عندما برز الجيل الأول منها. أثارت مطارداتهم للشباب، بشبهة الاختلاط، الرأي العام عندما أسفرت عن وقوع قتلى. حادثة حريق مدرسة البنات في مكة عام 2002 ما زالت ماثلة في ذاكرة السعوديين. حينها أعاقوا عملية الإخلاء بحجة أن الطالبات غير محجبات. مسلسل التحريم طال حتى لعبة باربي ومسلسل “طاش ما طاش”، إضافة إلى التصوير والفنون وأمور أخرى.

 

خطورة إلغاء “الهيئة” لا تكمن بردات فعل ناقمة من داخلها كما قد يتبادر إلى الذهن. الموظفون الرسميون العاملون فيها يمكن ترويضهم ودمجهم بوزارة الشؤون الإسلامية بعد إلغاء دورهم.

 

المشكلة الحقيقية تكمن في البيئة الحاضنة. السلفية تيارات ومذاهب فكرية متعددة. من رحم هذه البيئة خرجت السلفية الجهادية كالقاعدة وداعش وحركة جهيمان العتيبي والتمرّد الأول المتمثل بجماعة “من أطاع الله”.

 

أساساً شكّلت الهيئة أداة لخدمة السلطة. لعبت دوراً هاماً في امتصاص سطوة وتجاوزات التيار المتشدد وعرفت السلطة كيف تستغلها. تعرّضت لإصلاحات بعد 11 أيلول سبتمبر 2001. أُقصي المتطرفون من عناصرها على مراحل ووُضعت لها ضوابط جديدة. بلغت ذروة الإصلاحات عندما ترأسها عبداللطيف آل الشيخ عام 2012.

 

لا تختصر الهيئة التيار الديني المتشدد ولا المذهب الوهابي. هي ليست سوى مؤسسة رسمية، جسّدت مع هيئات دينية أخرى، العقد الاجتماعي الذي قام منذ مرحلة التأسيس. السياسة لآل سعود والسلطة الاجتماعية والدينية للوهابية. على هذا الأساس أسبغت الشرعية الدينية على حكم آل سعود.

 

في أحضان هذه البيئة “محتسبون” غير رسميين لم يتوانوا في السنوات السابقة عن منع ندوات وأمسيات ثقافية بالقوة. اقتحموا عروضاً مسرحية وهشموها. استنكروا وجود معرض الرياض للكتاب منذ دورته الأولى عام 2006. حينها افتعلوا مشادات في الندوات الحوارية ما أدّى إلى تعطيلها. توالت لاحقاً الأحداث المماثلة. مشكلة هؤلاء أنهم ينطلقون من تكليف إلهي. يؤمنون بأن واجبهم يقتضي تطبيق شعيرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” بالقوة استناداً إلى حديث شريف “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.

 

مأزق العهد الجديد

 

صحيح أن جملة التغيّرات الحاصلة اليوم لا تعجب هؤلاء. لكن الصحيح أيضاً أن هناك شرائح اجتماعية وازنة لم تعد قادرة على احتمال إبقائها خارج العصر. إقصاء الرؤية الدينية المتشددة تصبّ بالتأكيد في مصلحة فئات واسعة من المجتمع السعودي. لكنْ ليس هذا السبب الوحيد الذي شجّع بن سلمان على إقالتها. تنسجم هذه الخطوة مع متغيرات أخرى يقودها العهد الجديد. تخدم هذه المتغيرات طابع التغيير والإصلاح الذي يعتمد عليه العهد للترويج لنفسه في الخارج. يبدو أن بن سلمان بات يعوّل على الشرعية الخارجية أكثر من الشرعية الداخلية. حليفه الأقرب وعرّابه محمد بن زايد وحليفه القوي دونالد ترامب.

 

تاريخياً، شكّلت هيئة “الأمر بالمعروف” إحدى الأدوات الهامة لإضفاء الشرعية الداخلية على السعودية. المشكلة أنها أصبحت عبئاً على الشرعية الخارجية للدولة. وكلما اقتربت الدولة من جذورها التاريخية التي على أساسها تأسس الميثاق، تحولت الهيئة إلى عبء عليها لأجل اكتساب الشرعية الخارجية. وبين هذين الضدين تأتي رؤية بن سلمان.

قد يعجبك ايضا