الوثيقة الاستراتيجية الجديدة للجيش الإسرائيلي: تحوُّلٌ نحو الدفاع!
موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية ||محمد علي جعفر/ العهد الاخباري
بعد صدور ملخص استراتيجية البنتاغون 2018، بدأ الحديث في “تل أبيب” حول التوجهات الجديدة للقيادة العسكرية والتي يجب أن تتماشى مع التغيُّرات في المنطقة والعالم. منذ العام 2015 يعتمد الجيش الإسرائيلي استراتيجية كان قد نشرها في العام نفسه. اليوم باتت النُخب الإسرائيلية تتحدث عن صدى التغيير في الاستراتيجية المُعتمدة على وقع المستجدات المتسارعة. لم تُنشر الإستراتيجية حتى الآن، لكنها وُزعت على المجلس الوزاري المُصغر وداخل الجيش الإسرائيلي. في حين كان أهم ما خرجت به الوثيقة الجديدة هو ما حدَّده رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي ازنكوت، بأن الهدف الجديد للجيش الإسرائيلي هو “الدفاع والنصر”. الأمر الذي يُعبِّر عن حجم التحوُّل في القراءة الإسرائيلية للواقع الحالي الذي تُمثله البيئة الاستراتيجية للكيان الإسرائيلي. فما أهم التحوُّلات في التوجهات الإسرائيلية؟
التحولات في الاستراتيجية الإسرائيلية ودلالاتها
انطلقت نقاط الاستراتيجية من حصول تغيُّر في المسائل المتعلقة بالأمن القومي الإسرائيلي. حيث أشارت الوثيقة الى ضرورة تفعيل الدور الدفاعي للاستراتيجية بهدف منع التهديد الوجودي وردع تهديدات الأعداء. في حين سيتم اعتماد الاستراتيجية الهجومية خلال الحروب على أن تعتمد أسلوب الحسم السريع ونقل المعركة الى أراضي العدو.
عدة نقاط يمكن الحديث عنها على اعتبارها أهم التحولات، نُشير اليها والى دلالاتها كما يلي:
أولاً: إعتبار محور المقاومة التهديد الأول للكيان الإسرائيلي وإعتبار الساحة الفلسطينية التهديد اللاحق. وهو ما يعني أن الواقع الإسرائيلي يعيش حالة من الشعور بالخطر تجاه الواقع الإقليمي الجديد الذي أنتجته أطراف محور المقاومة، لا سيما بعد التحوُّل الكبير في الحرب على سوريا وعدم تحقيق هذه الحرب للأهداف المنشودة لها، حيث خرجت منها كل من إيران والنظام السوري وحزب الله أقوى. ما أحدث تحوُّلاً في واقع اللاعبين في المنطقة مع الأخذ بعين الإعتبار واقع السياسة الأمريكية وحالة حلفائها. في حين تُراهن تل أبيب على القرار الأمريكي تجاه القدس وحالة التخبُّط في الواقع الفلسطيني الداخلي (السياسي تحديداً) مُعتبرة أن الساحة الفلسطينية الداخلية قابلة للتدهور ما يجعلها ضعيفة مرحلياً أمام تهديد المصالح الإسرائيلية. لكن الاستراتيجية أبرزت إمكانية تفعيل المقاومة الفلسطينية لجبهة الضفة الغربية، واعتبرت مسألة الهجمات الانفرادية تمثل خطرًا كبيرًا.
ثانياً: إعادة فرز أطراف المنطقة بحسب التطورات الجديدة. حيث يفرز التوجه الإسرائيلي الجديد الأطراف الى “الأطراف المُهددة” و”الأطراف الصديقة”. ويرى هذا التوجه ضروة النظر الى الأطراف المُهددة على أنها أعداء يجب تحديد مخاطرها وكيفية التقليل من قوتها، فيما يجب النظر الى الأطراف الصديقة على أنها حليفة أو أطراف يمكن التنسيق معها، وبالتالي يجب تحديد كيفية التنسيق وحجمه. وهو ما عبَّرت عنه الاستراتيجية بضرورة مواجهة أخطار التعاظم الإيراني، لا سيما التهديد النووي والقدرة على التأسيس لمحاور مُعادية، بالإضافة الى تعاظم حزب الله لا سيما في الجغرافيا السورية (الجنوب تحديداً). من جهة أخرى يجب التعاون بين الكيان الإسرائيلي ودول الإعتدال العربي في المنطقة وتعزيز أطر التنسيق بين تل أبيب والقوى العالمية. وهو ما يعني الاستفادة من الإصطفافات الجديدة الناتجة عن التطورات في الصراعات الحاصلة ومواقف الأطراف منها، ما يُرسِّخ الواقع الجيوسياسي والجيوعسكري الجديد، ويُنهي النقاش في إمكانية تغييره مرحلياً، بل ينقل النقاش الى المرحلة المقبلة في التعاطي مع نتائجه.
ثالثاً: تطوير التخطيط والإستخدام لإستراتيجية “المعركة بين الحروب” ضد الأطراف المُهددة لمصالح الكيان الإسرائيلي، بهدف منعها من التعاظم. وهو ما يعني الاستمرار في ممارسة سياسات توجيه الضربات (المحسوبة) التي لا تتدحرج الى حروب وتأتي ضمن إطار المعارك المحدودة. وهو ما يُمارسه الجيش الإسرائيلي ضد حزب الله تحديداً على الصعيدين العسكري والأمني في محاولة لمنع تعاظم قدراته لا سيما بعد الحرب على سوريا.
رابعاً: العمل على رصد التطور العسكري للأطراف المُهدِّدة لا سيما المُتعاظمة. حيث تُجري تل أبيب أبحاثاً حول التغيُّرات في استخدام القوة لدى الأعداء، والتحوُّلات التي يعيشها واقع هذه الأعداء لا سيما على الصعيد العسكري (الأسلحة النوعية الدقيقة) والأمني (القدرة على تنفيذ إغتيالات). فيما أبرزت الإستراتيجية اعتبار القوة العسكرية البرية للجيش الإسرائيلي في خطر، كنتيجة لما باتت تمتلكه الأطراف المُهددة. وهنا يأتي بنظرنا وبشكل خاص، الحديث عن حزب الله حيث يُعتبر العدو المجاور من ناحية الجغرافيا العسكرية للجبهات المُحتملة (الجبهة اللبنانية السورية). وهو ما يعني عموماً وجود شعور إسرائيلي بفقدان القدرة على تحديد مُرتكزات التفوق العسكري النوعي وبالتالي القدرة على الحسم السريع لأي مواجهة ضد الأعداء خصوصاً أن أي مواجهة لا تضمن الحسم السريع لصالح الجيش الإسرائيلي تدخل في إطار المغامرة الخاسرة. وهو ما يُثبته على سبيل المثال الخطاب الإسرائيلي المُقارب لتعاظم قوة حزب الله والذي سبق أن أشرنا له في دراسة “استراتيجية إدارة القوة: هاجس حزب الله في العقل الإسرائيلي!”.
خامساً: تأكيد التفوق النوعي الإسرائيلي. حيث جاء شرح هذا التفوق ليعني محاولة تعزيز الميزان العسكري الإسرائيلي ضد الأعداء. وهو ما يجب أن يحصل من خلال عدة اتجاهات تتمثًّل بـ: رفع مستوى الدعم الأمريكي للكيان، دفع الدول في المنطقة لمزيد من الإضطرابات والمشكلات الداخلية، تعزيز حالة الضعف في واقع الدول العربية وحثِّها على التعاون مع “تل أبيب”، منع التهديد النووي الإيراني. وبالنظر الى هذه الاتجاهات، يبدو واضحاً أنها تعتمد على الدعم والقوة الخارجية، ولا تنطلق من الداخل الإسرائيلي.
سادساً: الالتفات الى التطور النوعي للأعداء في ساحات الحروب غير العسكرية. حيث أبرزت أهمية الوعي لما بات يمتلكه العدو من قدرات في المجال السايبيري ومعارك أخرى. وهو ما يُمثِّل الاعتراف الأول للكيان الإسرائيلي برهانه على ساحات أخرى غير الساحة العسكرية، واعتبارها ذات أهمية استراتيجية وهو ما يعني وجود تطور نوعي ولافت من قِبل أعداء الكيان الإسرائيلي في المعارك الحاصلة كالحروب النفسية والناعمة والذكية و..
ويمكن تلخيص أهم دلالات هذا التحوُّل بعنوانين:
أولاً: يبدو واضحاً من خلال هذا التحوُّل، وجود رضوخ اسرائيلي للواقع الجديد. ما يجعل هذا التحوُّل في التوجهات الاستراتيجية نتيجة للتحوُّل في موازين الصراعات في المنطقة والعالم وتحديداً التغييرات الحاصلة على الساحة الإقليمية. في حين لا يجب إغفال التحوُّل نحو التركيز على الاستراتيجية الدفاعية الطابع، ما يُشكل اعترافاً اسرائيلياً بموازين القوى العسكرية الجديدة، ويُمثِّل نهاية لأسطورة الجيش الإسرائيلي القادر على افتعال الحروب ساعة يشاء. وبالتالي تنطلق المصالح الإسرائيلية اليوم، من التطورات الخاصة بالبيئة الاستراتيجية للكيان الإسرائيلي. ما حتَّم ضرورة تحديث الاستراتيجية.
ثانياً: الانزلاق الى سياسات ردات الفعل، هي أهم نتائج هذا التحوُّل. الأمر الذي لا يلتفت إليه الكثيرون على قاعدة أن الجميع يعيش مراحل التحوُّل. لكن انتقال العقل الإسرائيلي من مرحلة “الفعل” (التخطيط لمستقبل الآخرين عبر صياغته بما يضمن المصالح الإسرائيلية) الى مرحلة “ردة الفعل”(التخطيط للمستقبل بحسب الواقع المفروض في محاولة للحفاظ على المصالح الإسرايلية)، يعني وقوع الكيان تحت ضغوط الواقع الجديد بنتائجه، وبالتالي انتقاله الى استراتيجيات تحمل طابعًا دفاعيًّا (لا يُلغي سياسات الهجوم الظرفي).
من خطوة تحديث الاستراتيجية الى النقاط التي تضمَّنتها، وصولاً الى دلالات هذا التغيير، يعيش الكيان الإسرائيلي حالةً من التحوُّل التي تتماشى مع المتغيرات. تحوُّل يهدف لضمان عدم تهديد الوجود. لكنه تحوُّل شكَّل بحد ذاته، شعوراً إسرائيلياً بتهديدٍ جديدٍ للوجود.