مجزرة في قلب التحرير ذروة القتل
|| صحافة محلية || صحيفة لا
منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماك المكان تُحبس عيناك لا إرادياً في صورة لمرفق حكومي مدني جاثم على نفسه، وفندق خالٍ من النزلاء، ومحلات تجارية أبوابها محطمة دفعتها قوة الانفجار إلى الداخل، وبنك نجا بأعجوبة، ومدرستين سكتتا من هول الفاجعة، وشارع يحاول تحريك السيارات المحطمة دون جدوى يحمل أنقاضاً سقطت من المباني المطلة عليه… كل من في المحلات المجاورة للمكان مذهولون حد الخرس، لم يتوقعوا أنهم بلحظةِ أمانٍ تطالهم طائرات حملت بأحشائها الموت وهم منغمسون بتفاصيلِ الحياة… صحيفة (لا) زارتِ المكان وأخرجت المذهولين من صمتهم ليحكوا تلك اللحظات العصيبة التي عايشوها.
صورةٌ ممزقة
الأكثر مأساوية دماء الطفل التي سفكت على الميزان الذي يقتات منه، عندما انقض عليه جدار كان ظلته من أشعة الشمس بعد أن عجز عن حمل نفسه بفعل حقد المجرمين… ودماء موظف هوى عليه سقف المكتب الذي كان يعمل فيه، وبائع متجول أولاده وزوجته ينتظرون عودته المحالة، وطالب عائد من مدرسته فرحا بإنهاء امتحاناته كان يخطط كيف سيقضي إجازته الصيفية قبل أن يقضي عليه طيران المعتدين، ومواطنين كانا يتسوقان وبدلاً من أن يعودا إلى أهلهما بأكياس البضائع عادا في أكياس إلى ثلاجات المستشفى الجمهوري… جميعهم قُتلوا في وقت الذروة على مرأى عالم يتنطع بالإنسانية دون أن يحرك ساكنا لإيقاف قتلهم.
كان المكان يعج بالحياة قبل أن تغير عليه طائرات الحقد يوم الاثنين الموافق 7 مايو 2018 وتحوله إلى موت أسود ومآسٍ ستظل نازفة لعقود في أكباد أولئك الذين عايشوا الحادثة… تلك الصورة التي كان يسمو بها ذلك المكان تمزقت إلى أشلاء وأصبحت ذكرى مؤلمة في أذهان وقلوب من مرّوا في أزقته.
الضربات المزدوجة أسلوب
تحالف العدوان الإرهابي
اعتاد أعداء الحياة (الإرهابيين) إتقان القتل بأساليب عديدة يعلمها الجميع، لعل أبرزها الضربات المزدوجة، سواء بالأحزمة الناسفة أو بالسيارات المفخخة، وحتى بالغارات التي يشنها طيرانهم، فالمهم عندهم عدم إعطاء الحياة مجالا للهرب من وحشيتهم.
وأسلوب الضربة المزدوجة ليس أسلوب قتل تتقنه الطائرات فقط، فقد شهده أبناء العاصمة صنعاء مرات عديدة قبل بداية العدوان الأمريكي السعودي على الوطن، وذلك في العمليات الإرهابية التي استهدفتهم بها العناصر الإجرامية للعدو نفسه.
ففي يوم الجمعة 20 مارس 2015 استهدف انتحاريان مسجد بدر في العاصمة صنعاء، الأول فجر نفسه بين المصلين داخل المسجد والثاني استهدف الناجين والمسعفين عند البوابة، واستشهد في هذه العملية الإجرامية أكثر من مائة مُصلٍّ، والجرحى بالمئات. وقبل تلك العملية، كان جنود الأمن المركزي يستعدون للاحتفال بعيد الوحدة في ميدان السبعين، حين استهدفهم الإرهاب في 21 مايو 2012 بانتحاريين الأول تمكن من تفجير نفسه وسط الأفراد مخلفاً مائة وعشرين شهيداً، والثاني ألقي القبض عليه قبل أن يفجر نفسه.
هذا الأسلوب الإرهابي الهمجي اتخذه تحالف الشر منذ بداية عدوانه في مارس 2015 وحتى الأسبوع الماضي منهجا له في قتل اليمنيين، فدائماً ما تكون غارات طيرانه مزدوجة، الأولى تستهدف الآمنين في بيوتهم ومحلاتهم وأسواقهم ومكاتبهم، والثانية تستهدف الناجين من الغارة الأولى ومن يقوم بإسعافهم. والضربة التي استهدف بها طيران العدوان الاثنين الماضي حياً سكنياً كانت مزدوجة، الأولى على مبنى مكتب رئاسة الجمهورية والموظفين العاملين والمواطنين أصحاب المعاملات فيه وقت الذروة، والثانية استهدفت البوابة كي لا تترك مجالاً لنجاة أحد وتمنع المسعفين من الاقتراب من الموقع. قرابة مائة شهيد وجريح من المدنيين، وألحقت بالمباني والمحلات دمارا هائلا.
قفز من الطابق الثالث!
الرعب الذي خلفته هذه الضربة المزدوجة دفعت أحد الموظفين للقفز من الطابق الثالث لينجو بنفسه. محمد عبدالله الدرة (موظف في إدارة الشؤون المالية والإدارية بمكتب الرئاسة)، في حديثه لـ(لا) يصف المشهد بقوله: (عقب الضربة الأولى نزلتُ تحت مكتبي، فلم أشاهد أمامي شيئاً من شدةِ البارود والغبار، فخرجت مسرعا إلى حوش المكتب لأسعف نفسي إلى محل أدوية مجاور للمكان، ورأيت الحوش ممتلئاً بالأحجار، وزملائي الموظفين بحالةِ هلع. وفيما أحد الزملاء يخرج الشظية من رأسي، تم القصف بالصاروخ الثاني. أما الأول فلم نسمعه، لأننا كنا بنفس المكان، فكان الحوش ممتلئاً بالموظفين، أحدهم رأسه تسيل منه الدماء، وآخر التراب يغطي كامل هيئته، والجرحى بإصابات مختلفة، والحالة يصعب وصفها، وأحد الزملاء فقد أصابع قدميه، فيما آخر قفز من الطابق الثالث إلى فوق الزنك، فيما استشهد زميلنا نصر يحيى المقحفي، وهناك العديد من الشهداء والجرحى).
غجر… لا يعرفون الإنسانية
(الحيوان أرحم منهم) بتلك الكلمات بدأ عبدالله محمد شبلين (موظف بالدائرة الإعلامية بمكتب الرئاسة) وصفه للمشهد. يضيف: (هؤلاء غجر، لا يعرفون الإنسانية، والضمير، واكتشفنا تصريحاتهم الكاذبة، فمكتب الرئاسة لا دخل له بالصراع، يمارس عمله وممتلئ بعدد كبير من الموظفين. قتلوا المارة والناس بمحلاتهم، ولم يفرقوا بين أحد. كنّا حينها آمنين مطمئنين، وكل واحد من الزملاء في مكتبه، وحالة الهلع التي عاشتها الزميلات الموظفات، 60 من الموظفين جرحى، وواحد استشهد والبقية ممن كانوا مارين في الشارع).
ووجه عبدالله ثلاث نقاط حسب رؤيته: (الشعب لا يعوّل على رؤساء، ولا على مجلس الأمن، ولا على مبعوث أممي ولا غيره. الشعب اليمني يعوّل على الشعوب وليس على زعمائها ولا رؤسائها الخونة الذين يتفرجون على سفك دمائنا. النقطة الثالثة رسالة إلى الشعبين السعودي والإماراتي، أقول لهم: هل يرضيكم ما يفعل بنا زعماؤكم، ورؤساؤكم؟!)
(طفل الميزان)
لم يخطر بباله أنه شروق يومه الأخير، وأن الرصيف الذي يلزمه طيلة النهار سيحزن حد الفجيعة.. لم يخطر بباله أن طائرة بأحدث تقنيات العصر ستصب حقدها الإجرامي كله فوق طفولته المعذّبة وتزهق روحه البريئة.
صورةٌ كانت الأكثر دموية تم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي، واشتهرت بــ(طفل الميزان).
أمين فيصل وازع , 13 عاما, منذ عامين يعول أسرته من ميزانه الصغير الذي يجلس بصحبته على الرصيف أمام مكتب الرئاسة. وكان كغيره من الضحايا الأبرياء الذين طالتهم طائرات الحقد الأمريكي السعودي، وأثرت صورته في أوساط الناس، لتقول للعالم: هنا أطفال أبرياء يُقصفون، ويُقتلون بأقبحِ عدوانٍ يُدمر كل شيء، ولا يستثني أحداً.
ساعةُ من جهنم
القصف الهمجي لم يستهدف المدنيين وحسب، بل امتد حقده البربري إلى ذاكرةِ الوطن من الوثائق التي تضررت بسبب الضغط الشديد. يقول علي سعد الطواف (وكيل المركز الوطني للوثائق):
(الاعتداء الغاشم الذي حدث يوم 5/7/2018م على مبنى مكتب الرئاسة، ومبنى المركز الوطني للوثائق، وفي مجمع حكومي وسوق شعبي، والمجمع يضم مكتب الرئاسة، ويضم المركز الوطني للوثائق، وفيه ما يقدر بــ(700) موظف يؤدون عملهم وواجبهم اليومي، معظمهم لا دخل لهم بالسياسة، ولا بالصراع، ولا بأي جهة، والمركز الوطني ذاكرة الأمة، وذاكرة الشعب اليمني، ووثائق اليمن كلها داخله، فتضررت أجهزتنا، ومعداتنا من شبكة معلومات، وصيانة وترميم الوثائق من أجهزة ميكروفيلم معظمها انتهت، والوثائق تضررت بسبب الضغط الشديد. هي لم تضرب مباشرة، لكن الضغط ألحق بها ضرراً وإتلافاً كبيراً، فالضربتان لم يحدث مثلهما خلال الثلاثة الأعوام). يختم الطواف: (تصوروا أن الحارات تضررت وهي على بعد عشرات الأمتار، ما بالكم بمبنانا المجاور لمكتب الرئاسة؟! فكانت الساعة العاشرة والنصف وقت الذروة، والموظفون في مكاتبهم، والمواطنون في محلاتهم، والمارة بالشوارع، والأطفال يخرجون من مدارسهم… ما قام به طيران العدوان قمة الحقارة، ساعة من جهنم عاشها من كانوا بالمكان. صاروخان ألهبا المبنى والشارع بأكمله، وأديا إلى تهشيم النوافذ وتناثرها على بعد أمتار لشدة القصف).
هربن من قاعةِ الامتحان
وأثناء تواجد (لا) بمكان القصف توقفت أمام مجموعة من الطالبات حين عودتهن من المدرسة، فوصفن المشهد بأنه كان مرعباً… تقول لينا: (كنت ومجموعة من الزميلات نختبر، وإذا بالصاروخ الأول يهز المدرسة، وغادرت معظم الزميلات قاعات الاختبار مرعوبات، وكن خائفات… وواحدة من زميلاتنا دخلت في رأسها شظية أثناء هروبها وهي بحوش المدرسة).
ليلٌ وسط النهار
(كان مروّعا ما عايشناه، ونحن نشتغل بالمحل بأمان. لم نسمع الصاروخ، فالنهار تحوّل إلى ليلٍ دامس). بتلك الكلمات بدأ منير القباطي (بائع في محل مستلزمات طبية ومخبرية)، وأضاف: (لم نرَ شيئا سوى ظلام، وكانت أمام المحل طفلة عمرها 6 سنوات مرمية على قارعةِ الطريق استشهدت (وأشار بيده إلى الحجر التي مازالت دماء الشهيدة الصغيرة تحتها)، ولأنني أعاني من الكتمة، خرجت من المحل مسرعاً، وإذا بي أرى حمالاً مرمياً على الأرض والدماء تغطي جسده من الشظايا، وعندما بدأت أفيق مما أنا فيه ناديت الشباب لإنقاذ ذلك الحمال المرمي على قارعةِ الطريق، فجاءوا لإنقاذه وتم إسعافه فورا، فكان المشهد ليلاً وسط النهار. وأثناء سقوط الصاروخ الثاني انبطحت على الأرض ولم أشعر بشيء حينها). ويختم منير: (لحد الآن لم أستطع النوم، فمازلت أتخيل المناظر البشعة والمأساوية التي شاهدتها أثناء القصف، وكأنني بعالمٍ غير عالمي).
فيما يقول محمد الإدريسي، الذي يعمل في كفتيريا أحد الفنادق بجوار مكتب الرئاسة، ويعتبر الفندق من أقدم الفنادق السياحية بالعاصمة، يقول: (كان الزبائن ينتظرون طلباتهم أمام الكفتيريا، وكنا جالسين نشتغل بأمان الله، ولم نتوقع شيئاً، وما هي إلا لحظات ونشاهد الزبائن يتساقطون في الشارع، وكان مشهداً مرعباً، حتى الدخان والغبار كتم على أنفاسنا ولم ندرِ أين نتجه حينها).
مكاتب لا علاقة لها بالسياسة
(أثناء قصف العدوان الأمريكي السعودي الغاشم لمكتب رئاسة الجمهورية حصلت أضرار كبيرة جداً لمكتبنا، وأما المحل الذي أمام مكتب رئاسة الجمهورية نزل بالكامل). ذلك ما أكده أثناء تواجد (لا) في نفس المكان عبدالولي حيدر حسان (مدير أحد مكاتب الأدوية) وأضاف: (وهذه مكاتب مستلزمات طبية لا علاقة لها بالسياسة أو بغيرها، وهي تقدم خدماتها على مستوى الشعب بشكل عام. ووصف المشهد تعجز عنه الكلمات. كنّا نسرع لإنقاذ الموظفين، ولم نستطع من شدةِ البارود الذي خلفه الصاروخ الأول، وإذا بالصاروخ الثاني يفرّقنا أشتاتا).