التاريخ يصنع وعينا (2)
|| مقالات || حمود الأهنومي
مر علينا في المقالة السابقة تنكيل الثوار اليمنيين بجنود الغزاة الأتراك في الشاهل؛ وبسبب تلك الثورات أقسم عبدالله باشا الوالي التركي الجديد أن يطمس ذكر حاشد وبلاد الشرفين لكثرة ثوراتهم ضدهم؛ لذا ألقوا بكل ثقلهم العسكري والسياسي والاجتماعي لاحتلال الشرفين، واستطاعوا السيطرة المؤقتة عليها بعد خسارة فادحة، على إثرها وزعوا جنودهم على قرى الشاهل والمحابشة وكحلان كحاميات ومواقع عسكرية تفرض الاحتلال بقوة السلاح، فأرجف المرجفون أن الغزاة لا سبيل إلى هزيمتهم، وأن على الأهالي الخنوع والخضوع.
غير أن المجاهدين الأحرار من آبائنا في الشرفين أخلوا قراهم إلى المناطق الحصينة والخالية، ليتمكَّنوا من تنفيذ عملياتهم الثورية الجهادية من مناطقَ غير معروفة، والتجأوا إلى الله بالدعاء والضراعة، فسلَّط الله على الغزاة الأمراضَ الفتاكة، ولم تمضِ سوى شهور قليلة، حتى تجدَّد العزم عند قبائل الشرفين على طردهم، والتنكيل بهم، لا سيما في شهر رمضان حيث ثقلت وطأة الغزاة على الأهالي، وتضاعفت فاتورة سيطرتهم على أرضهم.
وعلى الرغم من خيانة بعض العناصر النفاقية وتمالؤهم مع الغزاة، بنشر ثقافة الخنوع، والتخويف، والأماني الكاذبة، إلا أن الغزاة أثقلوا ظهور أولئك الذين استكانوا لهم وأطاعوهم بالمفروضات المالية، والضرائب المالية، وطلبوا منهم البنادق، وهدموا بعض المساجد، ثم هدموا منازل بعض بيوت أهالي بني كعب ونوسان، وكانوا آنذاك عمدة أهل الشرف، وفرسان ذاك الميدان، والمشار إليهم بالبنان.
في آخر رمضان من سنة 1316هـ بدأت شرارة ثورة أبناء الشرفين من بني كعب ونوسان، وبدأوا بشن الغارات على مواقع الغزاة، والتنكيل بهم، ونهب بنادقهم وذخائرهم، والتضييق عليهم، والاستنزاف لمقدّراتهم.
اقتنع الغزاة أن لا مقام لهم في الشرفين، ففر مَن كان منهم في بني كعب، ونوسان، والجبر، بعدتهم وعتادهم، شرقا نحو بلاد السودة، لكن رجال الشرفين لاحقوهم على طول الطريق بالهجمات الخاطفة، والكمائن القاتلة، والمناوشات السريعة، ولما وصلوا منطقة الراحة، منعهم سيل وادي مور من عبوره، فاطرحوا في الراحة، لكن الثوار لم يدعوا للراحة إلى طريقهم سبيلا.
وفي سوق الدومة، أحاطت بهم مجاميع المجاهدين، وظل رجال بني كعب والحماريين يلاحقونهم حتى هناك بقيادة الشيخ يحيى بن علي المعازي، والشيخ صالح بن يحيى يمن، ففرُّوا إلى أسفل وادي أخرف، وهناك حامت على رؤوسهم حامية المنايا، ولولا أنهم وجدوا منفذا من جهة بعض القبائل المحايدة، سلكوا منه إلى مدينة السودة، لما خلص منهم غاز واحد.
أما من سقط من المغرَّر بهم في موالاة الغزاة، ومضى تحت ركابهم يقاتل إخوانه المجاهدين الثائرين، فإنهم اكتشفوا بسرعة أنهم مخطئون في حق أنفسهم وفي حق بلدهم ووطنهم وأهلهم، ومن أولئك يحيى بن جابر من أهالي منطقة الجميمة، الذي أعلن ولاءه للغزاة، وانضم إليهم طمعا في المال، لكنهم سرعان ما ساموه سوء العذاب، وعذَّبوه، فما كان منه إلا الفرار من أوساطهم.
وكان عدد من المنافقين يتحكَّمون في اتجاه مدينة السودة، وراق لهم البقاء تحت حكم الغزاة، ففتحت السودة أحضانها للزمرة الباقية من الغزاة، الهاربين من الشرفين، فنفذوا إليها بجلودهم، بعد رفرفة طائر الموت على أعينهم في كل لحظة ودقيقة.
في السودة لم يقابِل الغزاةُ أهلَها الخانعين المطيعين الحسنة بعشر أمثالها!
بل ساموهم سوء العذاب، وطلبوا منهم كفايتَهم، ومؤنةَ عساكرهم، من أولِ يومٍ رحَّبوا بهم، وهتفوا بالشكر لهم، وعلى رغم قصر المدة التي قضاها الغزاة في السودة، وهي ثمانية أيام، لكنها كانت كانت أياما كئيبة، قد أرخت سدولها عليهم إرخاء مظلما، ومُشْعِرا بالعار.
يحدثنا المؤرخ القاضي علي بن عبدالله الإرياني أن الغزاة هؤلاء “أنزلوا بمن أطاعهم من أهل السودة النكال، وفجروا بنسائهم”، بالإضافة إلى فرض الغرامات المالية، والتكاليف العسكرية كما تقدم.
وهكذا يتبين:
– أن فاتورة الخنوع والخضوع للغازي مكلفة وباهظة، لا تليق بالأحرار، ولا تصلح للمؤمنين، وأن الموت عشرات المرات أهون من أقلِّ قليلها.
– وأن كلفة الدفاع عن البلد والحفاظ على حرماته، أقل بقليل من كلفة الخضوع والاستسلام، حتى بالحسابات المادية، فكيف والقضية إيمان وكفر، وجهاد، ونذالة.
– وأن نيران الغزاة في أغلب الأحوال صديقة، كثيرا ما تصيب عشاقها بالعار، وتلحق بهم الخزي والشنار.
– وأن الغازي يجب أن لا يُنتظَر منه عفة ولا عدالة، لأن مَنْ يَغتصِب الأرضَ ليس مؤتمنا أبدا على العِرض.
– كما يتأكد دائما أن اليمن فتاكة، لا ترحم غازيا، ولا تبقي ظالما، وأن موتها الزؤام يترصدهم عند كل منعطفِ وادٍ، وفي منحدرِ كلِّ جبل، والسعيدُ مَنْ كان له من نفسه واعظٌ، وانطوى وعيُه على هذه المواعظ.