انتصار ’تموز’.. نهاية عصر
|| مقالات || أحمد فؤاد
هَـــــــلَّ تموز، شهر الانتصارات، والمنطقة على موعد مع عدوان صهيوني جديد على شعبنا الفلسطيني، في غزة المحاصرة والمنكوبة، بما يضع الحديث عن الانتصار العربي في 2006 في خانة الحلّ الأوفى لنكبة فلسطينية مستمرة، بقدر ما هو تذكر لأَيَّــام النصر والمجد، المتحقّـق بسواعد رجال، بقيمةِ وقامةِ الشهيد الأغلى، الحاج عماد مغنية، ورفاقه الأبطال.
المعركة واحدة، والرصاص الذي قتل أطفالنا في لبنان أمس، هو الذي يقتل اليوم أطفال غزة، ويفتك بشعب اليمن، ويستنزف الجيش السوري، وقيادته، الرصاص الأميركي القاتل، وإن تعددت الأيدي الممسكة بالسلاح هو العدوّ الأول، والأولى أن تتجه إليه العيون.
بدأت الولايات المتحدة إحدى فصول العولمة الدامي، في 2006، بدفع من رغبة عارمة في إعادة رسم خريطة المنطقة، بما يتجاوز “سايكس-بيكو”، والذهاب إلى تقسيم جديد، وصفته وزيرة الخارجية الأميركية “كوندليزا رايس” بالشرق الأوسط الجديد، يستفيد من غياب أي منافس على قمة العالم، ومن وجود قاعدة غربية، هي الكيان الصهيوني، حقّـقت كُـلّ المطلوب منها في المرحلة الأولى لإنشائها، على جثة دولة فلسطين.
خريطة الأنظمة العربية في وقت العدوان الصهيوني على لبنان، والذي استهدف أساسًا تصفية ما تبقى من إرَادَة المقاومة لدى الشعوب العربية، وكسر الحلف المؤرق لأحلام تل أبيب، كشفت عورة الحكومات العربية المعتدلة ـ التوصيف الأميركي المعتمد للدول التابعة ـ وبالتالي تصفية قضية العرب المركزية بلا عوائق، في ظل مباركة سرية للحرب الصهيونية على بلد عربي.
سيناريو العدوان أراد تكرار نكسة 67، والذي لعبت فيه المملكة السعودية دورًا في الدعم المعنوي للصهاينة، واستغلال ظرف تأريخي سانح، وضعت فيه الأنظمة العربية دولها في الخندق الصهيو ـ أميركي، فاصطدم بمقاومة حزب الله، لتطيح بأحلام إعادة التشكيل إلى البحر، وتقلب الصراع إلى تكافؤ، ثم إلى انتصار هائل، وخلق حصن منيع أمام سطوة السلاح الصهيوني، التي عاشت في ظلالها المنطقة لعقود، لم يكن ثمة رادع ولا حدود له.
مكاسبُ حزب الله، ومعه محور المقاومة، ممثلًا في سوريا وإيران، تحقّـقت عبر أرباح كان أقلها تأكيد الوجود، وأهمها اتساع دائرة التأثير.. قدم السيد حسن نصر الله للشعوب العربية المثال، ووجدت هي فيه البطل الذي يحمل أمانيها في التحرر والانعتاق من القيد الأميركي والنظم الفاشية الحاكمة، وخلق الصدق ـ وهي القيمة الأولى المفتقدة ـ أساس مرحلة جديدة، برز فيها الحزب كتعبير صادق عن الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وكممثل شرعي عنهم، في ظل أنظمة لا تختلف عن الاحتلال في كثير أَوْ قليل.
خطاباتُ السيد، في ذروة المعارك، جاءت لتؤكّـد وحدة المعركة مع الغربي، باعتبارها حلقة ضمن صراع، تقوده قاعدته العسكرية المتقدمة، الممثلة في الكيان الصهيوني، ليخرج الحزب منتصرًا، ليس على المستوى العسكري فحسب، لكن مكاسبه على المستوى القومي كانت عديدة، وكسب الحزب وجوده كرقم صعب في الشرق الأوسط، ومكنه الانتصار من خلق بديل يتجاوز تعقيدات الواقع العربي، وجموده وقتها.
حوّل الانتصار حزب الله، من مكون لبناني، وحسب، إلى وجود يومي في الشارع العربي، ولا أحد ينكر دور الإعلام السعودي والمصري في إدانة العملية البطولية لأسر جنديين صهاينة، وجعلها سببًا إضافيًا، مع كراهية فطرية يملكها المصري إزاء الصهاينة، اكتسح الاختلاف المذهبي، الذي طالما نفخت فيه مملكة آل سعود النار، ويتبعها الإعلام المصري، بلا وعي، منذ أواخر زمن “مبارك”.
الأنظمة العربية تكره “حزب الله”، وتعاديه، وتحرض عليه، وهذا مفهوم، ويثبت أن الحزب أحدث الفرق المطلوب في معادلة العرب ضد الصهاينة، فعداوة الحزب مع الكيان الصهيوني السرطاني مبعثها إيْمَـان، وليس مجرد خيار سياسي، قد يتغير، وبالتالي فطوال تأريخ وجود حزب الله كان يعبر عن الشارع، بتطلعاته وأحلامه، وكان خيط ضمن جديلة محكمة، تمثل الوطن العربي، بأَكْثَــر مما تمثله الأنظمة الرجعية، حليفة البيت الأبيض.
في مصر، على سبيل المثال، والتي جعلها السادات، ومن بعده، دولة على هامش الشرق الأوسط، تتأثر بمتغيراته، دون ثمة فعل أَوْ مبادرة منها، وجد أهلها، الممنوعون من الكلام ـ وأحيانًا الحلم ـ في الحزب ردًا شافيًا على التراجع المصري، وتقزيم بلدهم، إلى حد صارت الأنظمة لا تخفي “الدفيء” مع الصهاينة، وتجاهر بمكتسبات “استسلام”، دفعت فيه أغلى الأثمان، بلا أي مردود.
التقدم في مجريات المعارك كان وقودًا لمزيد من التعاطف المصري، والعربي، بفعل إنجاز عزّ على الجيوش العربية تحقيقه، في ساحات المعارك، فإذا بـ “السيد” يخرج مرات، على متابعيه، ليثبت ويطمئن ويحشد، ويقدم دورًا جديدًا، للقائد صادق الوعد، أَوْ صاحب الوعد الصادق، لم يألفه الجمهور المصري ـ بالذات ـ ولا العربي من ورائه.
الإنجاز الأَكْبَر لحرب تموز، على الساحة العربية، أنها أعادت تعريف المعركة مع العدوّ الرئيس، بالدم والفداء، ووضعت الكيان الصهيوني في حجم حقيقي، وهو الذي حرص منذ اغتصابه لأرض فلسطين على تصدير معادلة “الجيش الذي لا يقهر”، مستفيدًا من أداء عربي نظامي مخيب في ساحات الشرف، ثم تراجع شامل، ضمن عملية سياسية، لشرعنة ابتلاع الأراضي العربية.
باختصار.. فإن انتصار المقاومة منح الشعوب العربية خرطوم أكسجين للحلم، وبيّن تهافت القرار الرسمي، الذي اعتمدته الأنظمة العربية؛ باعتبار السلام خيارًا وحيدًا، لإحراج الكيان الصهيوني أمام العالم، كانت حرب تموز اختبار عظيمًا للإرَادَة السياسية، وخرج حزب الله منهما منتصرًا، ومعززًا موقعه في القلب الملتهب للأمة العربية، ورهان قادم أيامها.