فتِّش عن القدس تجد السر

|| مقالات || عبدُالكريم الشهاري

صفقةُ القرن انطلقت عملياً وعنوانُها العريضُ ليس سوى ترجمةٍ للموقف الأمريكي الذي سبق تنفيذُه والذي تم تدشينُه أمريكياً بأن القدسَ هي العاصمة الأبدية لإسرائيل ولن يكون الإعلان عنها بشكل رسمي سوى استمرار لتنفيذِ الصفقةِ التي تقضي بالتسليم لواقع تهويد القدس مقابل عصا أمريكية وجزرة من دول الخليج وعلى رأسها الدولتان الحليفتان للنظام الأمريكي السعودية والإمارات يلوح بهما لإخضاع الفلسطينيين للقبول بالأمر الواقع.

الأموالُ الخليجيةُ ستُبذَلُ بسخاء من أجل تنفيذ المشروع مقابل سلامة الأنظمة المانحة والصديقة للأمريكيين والإسرائيليين، فالصفقة من خلال تسميتها ستضمن البقاء للنظامين السعودي والإماراتي لقرن كامل على الأقل في حال مضت الصفقة كما هو مخطط لها من قبل البيت الأبيض في المقابل الصفقة كذلك ستضمن أن تكون القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل التي ستحاط بالرعاية والعطف من قبل جيرانها العرب كما يُفترَضُ.

لن أدخُــلَ في تفاصيل حول الصفقة والعراقيل الكبيرة التي ستعترضها، لكني سأركز على دور مهم لصاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الموضوع شاء من شاء وأبى من أبى وهي القدس نفسها.

نعم فالقدسُ هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في تقريرِ مصيرها، وهذا ما يشهَدُ به واقعُ نصف قرن من الصراع العالمي على زهرة المدائن.

وبالرغم من كَثرةِ الأدعياء والأوصياء على المدينة التي تستضعف في الغالب ولا يلقى لدورها أي بال منذ أَكْثَــر من نصف قرن إلا أنه وفي المحصلة لاستقراء التأريخ الحديث والصراع الكوني على المدينة بشكل منطقي ومنهجي سنجد أن الكلمة الأولى والأخيرة كانت بيد القدس وعلى يد القدس صمدت دول ونجحت ثورات لم يكن لها عاصم من بطش أعدائها سوى صدقها في حبها ووفائها للقدس وهزمت ممالك وهدمت أنظمة كان يشار اليها بالبنان بسبب تخليها عن قضية القدس وتخلي القدس عنها ما أدى لذهابها إلى مزبلة التأريخ غير مأسوف عليها، وما تزالُ القدسُ تقومُ بدورها في التنكيل بالعملاء مهما بدت قوتُهم فإنَّهم في أضعفِ حالاتِهم في حقيقةِ الأمر.

ولست أبالغُ حين أزعُــمُ أن ضعفَ الأنظمة العربية والإسْـلَامية منها ما هو سوى انعكاس لخيانتهم لقضية القدس ليظهروا نتيجةَ ذلك كأُمَّــة تضحك عليها الأُمَـم رغم ثرائها وإمْكَـاناتِها الواسعة.

وبجردة حِسابِ بسيطةٍ حولَ الدورِ الذي قامت به القدسُ؛ دفاعاً عن نفسها وكرامتها سنجد أنها قد فعلت الكثير ولا تزال تواصل مسيرتها التحررية من دنس بني صهيون بكُلِّ عبقرية وعزيمة واقتدار.

حتى في خانة الأصدقاء القدس شديدة الغيرة من الجمع ما بينها وبين أعدائها أَوْ في تصويب البوصلة باتجاه آخر لا يصب في مصلحتها أولاً فكان أن تخلت عن صديقها عَبدالناصر بعد أن أحسَّت منه تفريطاً في القضية واتجاهه بقواته باتجاه اليمن ليكون في خندق واحد مع السوفيت صانعوا دولة الكيان لربيبتهم غولدا مائير فكان تخلي القدس عن ناصر نتيجة طبيعية لخيانة ناصر للقضية وهو أحد أهمّ أسباب هزيمته المؤسفة في العام 1967 أمام الكيان الغاصب.

القدسُ كذلك لا تنخدِعُ بالشعاراتِ القوميةِ الزائفة مهما كانت لذلك هي لم تنخدع بشعارات صدام حسين وكانت تعلم أن صدام ليس له صديق سوى نفسه فقط؛ ولذلك تركته لمصيره المأساوي على يد الأمريكان وأذنابهم من الأعراب من غلبت مصالحه معهم ذات يوم على مصلحتها فكان أن نَالَ جزاءَه العادل.

القدسُ أحياناً قد تأخذ بحُسْـن النوايا ولكن عقابها سيكون صارماً وقاسياً لمن يعبث معها بعدئذ ولعل هذا يفسر ما حدث للإخوان الذين ارتفعوا إلى قمة هرم السلطة ثم خسف بهم إلى أسفل سافلين والسر يكمن في تخليهم عن أدبياتهم وشعاراتهم التي كانت القدس بمثابة القلب فيها ومن ثم انقلابهم على القدس وذهابهم في مجاهل التطبيع مع الكيان ورسائلهم الحميمية لعزيزهم بيريز وتوافقهم مع داعش وإسرائيل ضد دمشق قلب العروبة النابض.

لكن أَيْـضاً للقدس وجه آخر يليقُ بكمالها وَجمالها تفيضه لمن أحبتهم وصلاً روحياً لينعموا بوفاء أصيل لسيدة العواصم وزهرة المدائن ليس له نظير فيصلوا إلى أعالي قمم العزة والسمو ولينعموا بالمجد والسؤدد.

ورغم إمْكَـانات أصدقائها المحدودة إلّا أنهم من خلال صدقهم في وقوفهم الصادق معها يكون حضورهم قوياً بشكل يفوق الوصف فالقدس هي السر الكامن لظهور عملاق بحجم الرئيس الراحل حافظ الأسد في صحراء أنظمة الأعراب القاحلة ليصبح ذلك الرجل رمزاً عروبياً يستحق أن يصل بالمقياس الزمني في عظمة شخصيته وشمولها وفكره السياسي الاستراتيجي شخصية الألف عام في تأريخ العرب.

القدس كذلك جعلت من السيد حسن نصر الله وحزبه قُــوَّة إقليمية عظمى لهم كلمتهم العليا في القضايا الإقليمية ولا يمكن تجاوزهم.

والقدس لم تخذل بشار الأسد وحين تكالب عليه الأَعْدَاء وانقلب ضده الأصدقاء وقفت القدس وكانت المعجزة التي لن تستطيع سوى القدس أن تحقّـقها في هذا العصر لينتصر بشار ويسقط الأَعْدَاء وكذلك من كانوا أصدقاء صرعى لا عزاء لهم في خيانتهم وعمالتهم سوى الذل والعار.

والقدس هي من جعلت من الرجل الطاعن في السن معين طاقة لا تنضب فكانت ثورته المظفرة عنواناً بارزاً لعودة شعاع بشرى النور المحمدي كأمل للمستضعفين في أن يعيشوا في هذه الحياة رغم انف المستكبرين وكانت ثورته تجديداً لروح الإسْـلَام المحمدي وما تزال تلك الثورة تؤرق مضاجع الاستكبار العالمي وباعتقادي أنه لو قدر لآية الله روح الله خميني أن يتحدث عن سر تحمله العجيب وتلك الروح القوية التي حملها بين جنبيه لكان في جملة حديثه أن القدس احدى ابلغ أسرار حكمته وعظمته.

غير أن أبلغ معجزة لزهرة المدائن هي في وفائها غير المحدود لأولئك الفتية من اليمنيين الذين بدأوا قبل سنوات قليلة بصرخة هادرة مزمجره حدّدوا بها خارطة الطريق لمشروعهم المستقبلي ليعلنوا من خلال تلك الصرخة البراءة من أَعْدَاء القدس وليعلنوا وفاءهم لقضيتهم الأولى ولم تنقض سنوات حتى استطاع أولئك الرجال رغم قلة الناصر أن يغيروا خارطة البلاد السياسية وأن يسقطوا أعتى فراعنة ومجرمين حكموا اليمن منذ عصوره السحيقة الأولى وبفضل صدقهم في تحملهم لمسئولياتهم أَصْبَــح أولئك الفتية شعباً هادراً وبرغم تكالب أعدائهم عليهم إلّا أنهم مستمرون في عطائهم من أجل القدس رغم التضحيات الكبيرة وهم الآن يخوضون معركتهم الإقليمية لتثبيت شعارهم وهم من النصر رغم شحة الإمْكَـانات قريبون.

يتوهم أبناءُ سعود وزايد أنهم من خلال دخولهم في صفقة القرن مع ترامب أنهم سيحقّـقون طول العمر لممالكهم المتهالكة ولا يدركون أن العكس هو الصحيح وانهم بمجاهرتهم في عدائهم للقدس وتطبيعهم مع الكيان الغاصب قد أسقطوا ورقة التوت التي كانت تستر عوراتهم لينكشفوا أَعْدَاء الداء للقدس وللأمة العربية والإسْـلَامية كذلك وبهذا فانهم باختصار يكونون قد دخلوا إلى المسلخ بأقدامهم حيث هناك نهاية كُـلّ من خان القضية وخان القدس وتغطرس وتجبر وتكبر.

ولو كانوا يعقلون لعرفوا أنهم لن يكونوا في استكبارهم إلّا أقزاماً في حضرة طاغية إيران (الشاه شاهي) الحاكم الأسبق لإيران الذي كان يفتخر بأصوله القاجارية التي تمتد لآلاف السنين كما كان أيضاً على غرارهم يفتخر بصداقته مع إسرائيل وبأنه الشرطي الأمريكي في المنطقة وأعتقدُ أن مصيرَه رغم تعاسته سيكونُ ذات يوم بالنسبة إليهم حلماً وأُمنية فالشعوبُ بالله أَصْبَــحت ثقتها أقوى في هذا العصر ومن لم يتخذ العظة والعبرة من التأريخ يستحقُّ كُـلّ ما يحدث له وما أنا ككاتب لهذه السطور سوى مذكر حتى لا ينخدع المنخدعون بقُــوَّة أمريكا التي لا تُقهر ويغفلوا قيمة من يقاوم مشاريعها وتحقيقه لإنجازات باهرة. والعاقبة للمتقين.

 

قد يعجبك ايضا